يتعامل المؤمن مع البلاء بأنَّه خير له، فإذا ما ابتلاه الله بالفقر فهو خيرٌ له من الغنى الذي يرغبه، بلحاظ المقارنة بين الغنى المرغوب والفقر المتحقق، إذ ربما كان الغنى سبباً لمآسي وانحرافات قد تصيبه، وذلك في علم الله تعالى المطَّلع على الأسرار والخفايا، فحلَّ محلَّه الفقر الذي يتطلب صبراً مُنجياً من هذه المآسي والانحرفات. وإذا ما ابتلاه بالغنى فهو خيرٌ له من الفقر، فقد يُصلح الغنى حاله، ويدفعه إلى المزيد من عمل الخير، فيكون محسناً في شكر النعمة، ولعلَّ الفقر بالنسبة إليه سببٌ لليأس والتمرد والشرك. وإذا ما ابتلاه الله بالمرض فهو خيرٌ له من الصحة التي يحبها، فربما دفع عنه هذا المرض ما هو أعظم، وربما كانت صحته ستدفعه إلى المعصية فجاءه المرض لاجماً لهذا المُنزَلق، وربما كان المرض اختباراً أسهل عليه من اختبار الصحة، وهكذا...فالاحتمالات كثيرة، وعلمها عند الله تعالى، ولا يرتاح المرء إلاَّ إذا سلَّم أمره إلى الله تعالى، فصَبَر على بلائه، وشكَرَ نعماءه، ورضي بقضائه. عن الإمام الصادق(ع)، فيما أوحى الله تعالى إلى النبي موسى(ع): "ما خلقتُ خلقاً أحبَّ إليَّ من عبدي المؤمن، فإني إنما أبتليه لما هو خيرٌ له، وأعافيه لما هو خيرٌ له، وأزوي عنه ما هو شرٌ له، وأنا أعلم بما يصلح عليه عبدي، فليصبر على بلائي، وليشكر نعمائي، وليرضَ بقضائي، أكتبه في الصدِّيقين عندي، إذا عمل برضائي وأطاع أمري"(153).
يصل المؤمن في تربية نفسه إلى اعتبار البلاء نعمة والرخاء محنة، فعن رسول الله(ص): "لا تكون مؤمناً حتى تُعدَّ البلاء نعمة والرخاء محنة، لأنَّ بلاء الدنيا نعمة في الآخرة، ورخاء الدنيا محنةٌ في الآخرة"(154). لو أجرينا مقارنة بين نسبة المؤمنين الأغنياء وأصحاب السلطة والأقوياء، ونسبة الفقراء والرعية والضعفاء، لوجدنا النسبة الأولى أقل بكثير من النسبة الثانية. أما الرخاء فيغري ويشدُّ إلى الدنيا، ويساعد في تحقيق الملذات، ومعه ينسى الإنسانُ المُنْعِمَ، ويفرح بما حصل عليه، ولذا نجد القلَّة من أصحاب الرخاء الذين يلجمون رغباتهم الجامحة، ويستقيمون مع ما أَنْعَم الله تعالى عليهم من الخيرات، متقيدين بالحلال وممتنعين عن الحرام. وأمَّا البلاء السلبي كالفقر والمرض وغيرهما، فيحرم من تحقيق اللذة للإنسان، الذي يعيش المعاناة بجهد وعناء، فتكون اللذة بالنسبة إليه صعبة المنال أو معقَّدة، فينصرف إلى معالجة مشكلة ضعفه وعجزه، وغالباً ما يرضى بما هو عليه، متأملاً تغيير الحال في المستقبل، ملتجئاً إلى ربِّه داعياً وراجياً ومناجياً، ما يمثِّل بالنسبة إليه الأمل المرتجى للخلاص من مأزقه. بهذا التفسير للبلاء والرخاء، نفهم معنى أن يكون البلاء نعمة، حيث تقل فرص المعاصي معه، ويقترب الإنسان من ربِّه أكثر فأكثر، ونفهم معنى أن يكون الرخاء محنة، حيث تضعف النفس الإنسانية أمام إغراءات الرخاء، فتنجرف في الملذات وتبتعد عن طاعة الله تعالى.
لا ييأس المؤمن مهما اشتد عليه البلاء، ولا ينهار مهما واجه من صعوبات، إذ يبقى أمله بالله كبيراً، فهو المعين والمنقذ، ولا يقتل نفسه لأن النفس أمانة من الله تعالى، وهو لا يملك حقَّ إنهائها، بل عليه أن يوجهها ويحميها ويواكب اختباراتها في حياته، فعن الإمام الباقر(ع): "إنَّ المؤمن يبتلي بكل بلية، ويموت بكل ميتة، إلاَّ أنَّه لا يقتل نفسه"(155). وما نراه من حالات انتحار عند بعض الناس فلأنهم فقدوا الصلة بالله تعالى، ولم يعد لديهم أملٌ يحفزهم على الصبر والمثابرة، بينما سُنَّة الله تعالى فيما فطر عليه الإنسان أن يكون لديه غريزة حب البقاء، وأن يدافع عن حياته إلى آخر لحظة، وأن يُبعدها عن المخاطر، وما يحصل في جهاد أعداء الله تعالى، رغم المخاطر الكبيرة واحتمالات الشهادة، إنما هو دفاعٌ مشروع عن الحياة الإنسانية العزيزة، التي يبذل المجاهد من أجلها ويضحي أملاً بالفوز والنصر وإلاَّ فالشهادة في سبيل الله، وهو بذلك لا يتخلى عن الحياة، بل يختار لها مساراً يسعده، فإذا قُتل في سبيل الله تعالى فلانتهاء أجله.
يسأل المؤمن ربَّه العافية، ولا يسأله البلاء. والفرق كبير بين القبول بالبلاء الذي قدَّره الله تعالى، وبين طلبه ابتداءً، فالقبول رضىً بقضاء لا يُردُّ، مقدَّر من الله تعالى، ولا سلطة للإنسان في دفعه أو رفض مفاعيله، أما طلبهُ فهو طلبٌ للاختبار، وليس من مصلحة الإنسان أن يطلب الاختبار أو المزيد منه أو تشديد البلاء أو الحرمان من الرخاء، بل مقتضى فطرته أن يطلب الخير والعافية، ثم يسأل ربَّه أن يعينه كي لا ينجرف ويقع في مطبَّاتِ ملذات الرخاء. يدفعنا الإسلام لهذا النمط التربوي كي لا نتحسَّس من نِعَمِ الله تعالى، أو نعتبرها ضرراً ومصيبة، فالمصيبة من سوء أدائنا وليس من عطايا الله جلَّ وعلا. روي أن رسول الله(ص) سمع رجلاً يسألُ الله الصبر، فقال له: "سألتَ الله البلاء، فاسأله المعافاة"(156)، وعنه(ص): "ما سُئل الله شيئاً أحبَّ إليه من أن يُسأل العافية"(157). وروي أن رجلاً كان يطوف حول الكعبة ويقول: اللهم إني أسألك الصبر! فضرب الإمام زين العابدين(ع) على كتفه وقال له: "اللهم إني أسألك العافية، والشكر على العافية"(158).
117- سورة الأنبياء، الآية: 35.
118- سورة الأعلى، الآيتان: 2 و 3.
119- سورة التغابن، الآية: 15.
120- سورة الأنبياء، الآية، 35.
121- سورة الكهف، الآية: 7.
122- سورة العنكبوت، الآيتان: 2 و 3 .
123- سورة الأنعام، الآية: 165.
124- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 69، ص: 53.
125- ابن أبي حديد، شرح نهج البلاغة، ج8، ص: 290.
126- الشيخ الكليني، الكافي، ج3، ص: 323.
127- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج78، ص: 194.
128- سورة إبراهيم، الآية: 34.
129- الشيخ الكليني، الكافي، ج8، ص: 394./ الصحيفة السجادية، ص: 24 و25.
130- سورة الانعام، الآية: 103.
131- سورة فصلت، الآية: 153.
132- الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، ج1، ص: 121.
133-سورة المائدة، من الآية: 3.
134- ابن شعبه الحراني، تحف العقول، ص: 36.
135- سورة الأعلى، الآيتان: 2 و 3.
136- سورة العلق، الآية: 5.
137- سورة الشعراء، الآيات: 75-82.
138- سورة الفرقان، الآية: 2.
139- سورة إبراهيم، الآية: 7.
140- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج72، ص: 353.
141- نهج البلاغة، الحكمة: 25، ص: 737.
142- سورة الإسراء، الآية: 16.
143- الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص: 98./ العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج13، ص: 351.
144- تاريخ الطبري، ج4، ص: 205./ المقتل لأبي مخنف، ص: 86.
145- سورة البقرة، الآية: 216.
146- سورة آل عمران، الآية: 142.
147- المؤلف، سبيلك إلى مكارم الأخلاق، ص: 210.
148- سورة البقرة، الآيات: 155-157.
149- المؤلف، سبيلك إلى مكارم الأخلاق، ص: 216.
150- الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص: 231.
151- نهج البلاغة، الخطبة: 193، ص: 469.
152- سورة الحديد، الآية: 23.
153- الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص: 61.
154- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج64، ص: 237.
155- الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص: 254.
156- المتقي الهندي، كنز العمال، ج2، ص: 88.
157- المصدر نفسه، ج2، ص: 64.
158- الإمام زين العابدين(ع)، الصحيفة السجادية، ص: 125.