ركَّز الإسلام على الجهاد بكل أبعاده، فأعطى أهمية كبرى لجهاد العدو، كما أعطى هذه الأهمية لجهاد النفس، بل اعتبر أنَّ الترجمة العملية لجهاد النفس تبرزُ في ساحة الجهاد، عندما يبذلُ المؤمن مالَه ونفسَه في سبيل الله تعالى، فلا يتعلَّق بشيء يربطه بالدنيا، وإنما يُعطي كل ما عنده، تعبيراً عن ذوبانه في سبيل الله تعالى، وكأنه التزم بعقد بيعٍ وشراء، يبيع من خلال نفسه وماله، أي كلَّ ما لديه، فيشتري الله تعالى ذلك بمنحِهِ الجنة، وهي النعيم الخالد الذي لا يضاهيه عطاء, فضلاً عن الدرجة العالية والمكانة الارقى للشهيد. قال تعالى: "إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ"(98).
لماذا نجاهد العدو؟ لأنَّ العدو يستخدم قوته وظلمه ليعتدي ويحتل، فإذا لم يواجهه أحد، فسيسيطر بقواته، ويفرض مشروعه وأفكاره، ويتحكم بالثقافة والسياسة والاقتصاد والتنمية، أي أنَّه سيسلب أصحاب الأرض حقوقهم ومعتقداتهم وحريتهم. وقد أثبتت تجارب التاريخ والحاضر بأنَّ الركون إلى العدو مفسدةٌ عظيمة، وخسارةٌ تتحمَّل نتائجها كل الأجيال، فكم من بلدٍ احتلَّه الاستعمار فغيَّر عقائده وهجَّر سكانه، وها هي الأندلس شاهد على ذلك، فقد تغيَّرت معالمها الإسلامية بالكامل، بفعل القتل والتهجير وتدمير الآثار الإسلامية وتغيير الدين بالاكراه وكذلك الأسماء... وها هو الكيان الصهيوني يحاول تثبيت نفسه، بعد أن هجَّر أربعة ملايين فلسطيني، واحتل كامل الأرض، وقطَّع أوصال المدن والقرى، وارتكب المجازر، وقام بالحروب...فإذا ما وقف المؤمنون مستعدين للقتل في سبيل الله تعالى، عوَّضوا نقص قوتهم بقوة إيمانهم، وفدوا بدماء بعضهم بلدهم وأجيالهم، ورسموا بجهادهم خط الرفض للظلم والاحتلال والعدوان، وهذا ما يؤدي إلى الصمود بالحدِّ الأدنى، وإلى النصر ومنع العدو من تحقيق أهدافه كنتيجة نهائية.
فالقتال في سبيل الله تعالى خيرٌ بكل المعايير، والخنوع شرٌ بكل المعايير، قال الله تعالى: "انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ"(99).
قال رسول الله(ص): "فمن ترك الجهادَ ألبسهُ الله ذلاً في نفسه، وفقراً في معيشته، ومحقاً في دينه، إنَّ الله تبارك وتعالى أعزَّ أمَّتي بسنابك خيلها ومراكز رماحها"(100).
قال أمير المؤمنين علي(ع): "أمَّا بعد، فإنَّ الجهاد بابٌ من أبواب الجنَّة، فتحهُ الله لخاصة أوليائه، وهو لباسُ التقوى، ودرعُ الله الحصينة، وجُنَّتُهُ الوثيقة، فمن تَرَكَهُ رغبةً عنه، ألبسهُ الله ثوبَ الذُّل، وشَمِلَهُ البلاء"(101).
ومن خطبة للإمام الحسين(ع) أثناء توجهه إلى كربلاء: "ألا ترونَ أن الحقَّ لا يُعمل به، وأن الباطل لا يُتناهى عنه! ليرغبَ المؤمنُ في لقاء الله مُحِقَّاً، فإني لا أرى الموت إلاَّ سعادةً، والحياة مع الظالمين إلاَّ بَرَماً"(102).
نقلتْ لنا كتب السيرة تجربةً للنبي(ص) مع أصحابه، في قرار ونتائج الجهاد في أول معركة خاضها المسلمون في المدينة المنورة، وهي معركة بدر الكبرى، حيث كان المسلمون بين خيارين:
الأول: أن يغزوا قافلةً لقريش، تحمل الأموال والتجارة والمؤن، وعليها أربعون رجلاً، وهي غير قادرة على القتال، وبمهاجمة القافلة، يستردُّ المسلمون بعض حقوقهم وأموالهم، وبَدَلَ دُورِهم التي أُخذت منهم بعد هجرتهم من مكة المكرمة، ويستطيعون السيطرة على القافلة من دون خسائر أو معاناة.
الثاني: أن يواجهوا جيش قريش، الذي ناهز عدده الألف مقاتل، بينما كانت قدرة المسلمين أقل عدداً وعدة، فقد نتج عن استعداد المسلمين تهيئة ثلاثمائة وثلاثة عشر مقاتلاً، أي ثلث عدد المشركين، ومن الطبيعي أن تؤدي المعركة إلى سقوط الشهداء والجرحى.
كان بعضُ المسلمين يميلون إلى عدم القتال، علماً بأنَّها محطَّة مفصلية، ستترك آثارها على الفريقين، وهذا ما ذكره الله تعالى بقوله: "وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ"(103)، فبعض المسلمين يرغبون غنيمة قافلة قريش وهي غير ذات الشوكة أي ليس فيها قتال، مقابل جيش قريش الذي يتطلب قتالاً، إلاَّ أنَّ رسول الله(ص) حسمَ الموقف، فجَرَت معركة بدر الكبرى، التي أسَّست للانتصارات اللاحقة، وقوَّت شوكة المسلمين، مقابل اهتزاز قدرة قريش.
تكرَّر هذا الأمر بتفاصيل مختلفة في زماننا الحاضر، فدعا البعض إلى مساومة إسرائيل على السلام المزعوم، والتنازل عن الأرض، تحقيقاً لبعض المكتسبات من دون قتال ومعاناة، ودعا البعض الآخر إلى المقاومة ورفض إملاءات العدو والدول الكبرى، وذلك لتحرير الأرض، وإعادة الحق السليب إلى أهله وأصحابه، فظهر للملأ فشل المساومة وانتكاساتها المتكررة منذ ستين عاماً عندما احتلت إسرائيل فلسطين، في مقابل نجاح المقاومة الإسلامية في تحرير أرض لبنان، وإضعاف قدرة الردع الإسرائيلي، وبث الأمل باستعادة فلسطين السليبة بالمقاومة. فنتائج جهاد العدو أشرف وأفضل مهما كانت التضحيات.
وهنا نفهم كلام الإمام الخميني(قده) عندما أعلن قاعدته المشهورة:"الدم ينتصر على السيف"، لأن الدم المغموس بالحق والجهاد أقوى وأصلب من السيف المعتدي والظالم، ولا بدَّ للشعب الراغب بالحرية والتحرير والاستقلال أن ينتصر مهما كانت الصعوبات، شرط أن يجاهد ويبذل في سبيل الله تعالى، وهو ما فعله الشعب الإيراني المجاهد عندما واجه الشاه ومَنْ وراءه، وقدَّم التضحيات والشهداء، فأزاحه عن عرشه، وحكمت إيران باسم الإسلام، بانتصار الثورة الإسلامية المباركة على يد الإمام الخميني(قده). وهو ما فعله الشعب الفلسطيني المجاهد، وما حصل من أسطورة صموده في غزة أمام الهمجية والوحشية العدوانية الإسرائيلية عليه.
الهوامش:
98- سورة التوبة، الآية : 111.
99- سورة التوبة، الآية: 41.
100- الشيخ الصدوق، الأمالي، ص: 673./ السنبك: طرف الحافر.
101- نهج البلاغة، من الخطبة:27، ص: 75.
102- تاريخ الطبري، ج4، ص: 305./ أبو مخنف، المقتل، ص: 86.
103-سورة الأنفال، الآية: 7.