الدنيا مَعبرُ الآخرة، والترابطُ قائمٌ بينهما، فالدنيا مسرحُ العمل، والآخرة حسابٌ على عمل الدنيا، ولا يوجد تعارضٌ بينهما في النظرة القرآنية إلى كلٍ منهما، وذلك عائدٌ إلى طبيعة عمل الإنسان، فمع سلوك طريق الهداية في الدنيا، يكون الربح في الدنيا والآخرة، ومع سلوك طريق الضلال تكون الخسارة في الدنيا والآخرة، ولكي يكون الإنسان رابحاً، عليه أن يُحسن الاختيار والتصرف، عندها يحقِّق التوازن بين ما يقوم به في الدنيا، ويحصل عليه من نِعَمِ الله تعالى فيها، وبين ثواب الآخرة في الجنة التي أُعدَّت للمتقين.
من كان يريد ثواب الدنيا، يمكنه أن يحصل على ثواب الدنيا والآخرة، لأنَّ الصلاح في الدنيا ينتج عنه آثارها الإيجابية في حياة الإنسان، ثمَّ يُكافأ على عمله الصالح بثواب الآخرة ونعيمها. "مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَكَانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً"(235)، وقد حدَّثنا الله تعالى عن السيد المسيح(ع) وجيهاً في الدنيا والآخرة: "إِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ"(236)، فلا انفكاك بين الدنيا والآخرة. وعندما يدعو المؤمن ربه، يدعوه ليعطيه في الدنيا من الرزق والقوة والولد الصالح والصحة والخيرات...وكذلك يدعوه لعطاءات الآخرة بكل خيراتها ومكانتها وصحبتها وخلودها..."وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ"(237).
ولأنَّ الدنيا والآخرة مترابطتان، فكما يكون الصلاح فيهما، يكون الضلال والخسران فيهما، "وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآَخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً"(238). فلا تغرَّنكم بعض المظاهر التي يبدو فيها الكافر في حالٍ مريحة من النِعَم والعطايا، فهي وبالٌ عليه، وستكون نتائجها حسرةً في يوم القيامة، "وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ"(239). لن يربح الكفار في الدنيا ولا في الآخرة، ولا وزن لأعمالهم ولا لنتائجها: "أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ"(240).
من حقِّك أن تطلب خيرات الدنيا وتأنس بها، طالما أنها في طاعة الله تعالى، وأنَّك قابلٌ بما قدَّر الله تعالى لك فيها، ومن حقِّك أن تتمتع بخيرات الدنيا وما فيها ممَّا أحلَّ الله تعالى لك، فهي غير منبوذة من هذه الجهة، بل حرامُها هو المنبوذ، فلا تنسَ نصيبك من هذه الدنيا وإنْ كان هدفك الآخرة، لأنَّ نصيبَك متاعٌ مشروع، فإذا ما قهرتَ نفسَكَ بالتخلي عما أحلَّ الله تعالى لك، أخللتَ بالتوازن، كما فكَّرَ بعضهم بتجويع أجسادهم، والامتناع عن الزواج، والتخلي عن النوم في لياليهم، فعن أنس عن ثلاثة رهط: "قال أحدهم: أمَّا أنا فإنِّي أصلي الليل ابدا, وقال آخر: أنا أصومُ الدهرَ ولا أُفطر, وقال آخر: أنا أعتزلُ النساء فلا أتزوجُ ابدا. فجاء رسول الله (ص) فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا, أما والله, إنِّي لأخشاكم لله, وأتقاكم له, لكنِّي أصومُ وأُفطر, وأُصلي وأرقد, وأتزوجُ النساء, فمن رَغِبَ عن سُنَّتي فليس منِّي". (240ب) ففي طاعة الله يتحقَّق التوازن الذي يُناسب الفطرة، انسجاماً مع القاعدة القرآنية: "وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآَخِرَةَ وَلاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأرْضِ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِين"(241).
أمَّا إذا وقفتَ على مفترق الاختيار بين الدنيا والآخرة، أي بين ملذات الدنيا المحرَّمة التي تعيش أُنسها المؤقت ومتاعها الزائل، وبين ثواب الآخرة، فالآخرة أَولى، "وَلَلآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأولَى"(242)، وعليك أن تتخلى من أجلها عن حرام الدنيا. وإذا تتبَّعت الآيات القرآنية التي ترجح الآخرة على الدنيا، لوجدتها تؤكِّد على هذا الترجيح، في مقابل الملذات المحرَّمة في الدنيا، وليس لكلِّ ما في الدنيا، قال تعالى: "وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآَخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ"(243). فالمحرَّم إيثار حرام الدنيا المؤقت في متاعه وآثاره على ثواب الآخرة المستمر في متاعه وآثاره: "بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى" (244).
وفي نهاية المطاف، فإنَّ الآخرة هي الثواب العظيم، لخلودها وفرادة لذاتها المستمرة، وهي الهدف والمبتغى، وستكون للمتقين الذين أحسنوا فيما فعلوه في هذه الدنيا، وعبروا منها إلى الآخرة: "تِلْكَ الدَّارُ الآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ"(245).