يمرُّ الإنسان في حياته بمراحل مختلفة، تم الاصطلاح على تسميتها بالمراحل العمرية المختلفة، حيث يكون لكل مرحلة خصائصها ومميزاتها، لكنها تشكل بمجموعها شبكةً متصلة تؤثر فيها المرحلة أو المراحل السابقة باللاحقة، بحيث لا يمكن فصل المرحلة اللاحقة عن المرحلة السابقة. وقد عبَّر رب العالمين في كتابه العزيز عن هذه المراحل بإجمالٍ يبيِّن كيفية التدرج في الخلق، لأمرٍ أرادهُ الله تعالى في إعمار هذا الكون، بإيجاد الإنسان وفق هذا الترتيب وبهذه الصيغة، مفتتحاً حديثه عن يوم البعث، ليوجِّه أنظارنا إلى الحساب أولاً. فيا أيها الإنسان، عندما تراقب مراحل عمرك، انظر إلى بدايتها ونهايتها، آخذاً بعين الاعتبار المحصلة النهائية التي ترفعها أمام الله تعالى في يوم القيامة. قال عز وجل " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الأرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ "(1).
يا أيها الناس: إن كنتم تشكُّون بوجود يوم قيامة وحساب، انظروا إلى التدرج الذي أوجده الله تعالى في حياتكم ، ثم تابعكم لحظة بلحظة، ونقلكم من حالة إلى حالة، وأنتم لا تملكون شيئاً مما يجري لكم من تطورٍ في خلقكم، " فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ "، هذه المراحل الأربعة الأولى هي ما قبل الخروج من بطن الأم إلى الحياة: التراب، ثم النطفة، ثم العلقة وهي قطعة من الدم الجامد، ثم المضغة وهي القطعة من اللحم الممضوغ التي تأخذ شكلاً معيناً ، فتكون مُخلَّقة واضحة المعالم، أو غير مُخلَّقة أي لم تتضح معالمها بعد. كلُّ هذه المراحل من التطور تحصل في داخل رحم المرأة، وهي تكفي لإزالة الشك والريب بإعادة الحياة في الآخرة من جديد، بعد أن بدأت حياة الإنسان من تراب لا حياة فيه، بإذن الله تعالى.
" وَنُقِرُّ فِي الأرْحَامِ مَا نَشَاءُ "، إذاً يبقى في الأرحام ما يكتب الله له الحياة، فيكون المخلوق ذكراً أو أنثى بإذن الله تعالى، حيث تتوفَّر له المواصفات والإمكانات والقدرات الفطرية التي خلقها الله تعالى، سواءً أكانت كبيرة ومهمة، أو عادية وبسيطة ومحدودة. وربما التبس على البعض في عصرنا الحاضر،حول قدرة الإنسان على التحكم بجنس الجنين ومواصفاته، وكأنَّه خروج عن دائرة القدرة الإلهية! والصحيح: أنَّ الطبيب أسيرٌ للقوانين الإلهية التي تحدِّد مراحل الخلق، وهو يتعرف عليها ويسعى لسلوكها، فعندما يختار التلقيح الاصطناعي أو التلقيح في أوقات معينة بما يتناسب مع تكوين الذكر أو الأنثى، إنما يكون منسجماً مع خطوات ومراحل الخلق ، من دون أن يتحكم بالمواصفات والقدرات الفردية الفطرية المودعة في الجينات التي يتكوَّن منها المخلوق الجديد، فهي من الأمور المعقدة جداً، والتي لم يستطع العلم الحديث إدراك كيفية مواكبتها لتغييرها أو التحكم بها أثناء مراحل النمو في داخل الرحم، ولو استطاع تعديل الجينات، فهو يتصرف بما خلقه الله تعالى من قوانين وقدرةٍ على التصرف, ولا يُوجِد شيئاً من العدم.
بعد ذلك تخرجون من الرحم إلى الحياة:" ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً "، فتصبحون لاحقاً في عنفوان الشباب، ممتلئين بالقدرة والعزيمة والنشاط:" ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ". وهنا يفترق الناس بين من يموت في عنفوان شبابه بانتهاء أَجَلِهِ، ومن يُكمل حياته إلى الهرم والعجز وفقدان القدرة والإمكانات الموجودة لديه:" وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً ".
تتابع الآية الكريمة تصويرها لحياة الأرض:" وَتَرَى الأرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ". ربما تساءل البعض عن العلاقة بين الأرض وخلق الإنسان؟ الصورة واضحة: تكون الأرض هامدة لا حياة فيها، وهي مكوَّنة من التراب، فإذا أنزل الله الماء عليها، تحركت واهتزت بأن دبَّت الحياة فيها، فازدادت وربت باعطاء الخضار والثمار والزرع، من أنواع النباتات المختلفة التي تضجُّ بالحياة، حيث نلاحظ ذلك من نموها المطَّرد، وبأشكالٍ جميلة وبهيجة ومتنوعة، ضمن قاعدة الزوجية التي تساهم في التكاثر، كلُّ هذا يحصل من ماء واحد، وعلى هذا التراب المنتشر على الأرض . هذه العظمة في الإيجاد من العدم، شبيهةٌ بخلق الإنسان من الماء، وفق قانون التزاوج، بإيجاد هذا التنوُّع البشري الهائل، المتفاوت في القدرات والإمكانات والأشكال ومدة الحياة..." فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ "(2).
إذاً نحن أمام مراحل مختلفة في حياة الإنسان ، ومعنيُّون بحسن مواكبة كل مرحلة بحسب مواصفاتها ومتطلباتها. فإذا عرفناها بدقة، وعرفنا كيفية التعامل معها، حقَّقنا السعادة الحقيقية، بسبب انسجام ما نقوم به مع متطلباتها. إنَّ بإمكاننا التعرُّف على كل مرحلة واستكشاف خصائصها، وليس صحيحاً ما قاله الشاعر الحائر اليائس:
"جئت لا أعلم من أين؟ ولكني أتيت! ولقد أبصرت قدَّامي طريقاً، فمشيت!"،
وكأنَّ خلقَ الإنسان عبثي ، وطريقَ المشي في الحياة غامض ومجهول! علماً بأن البداية واضحة والنهاية معروفة، إذا ما استرشدنا بالإسلام، وهو دين الهداية للإنسان في هذه الحياة:" الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ "(3). والخَلقُ لم يكن عبثياً" أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ " (4)، " وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ " (5)، بل بإرادة من الله تعالى في الخلق ليتعرفوا عليه ويعبدوه،" وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَ لِيَعْبُدُونِ "(6)، وما وجودهم في الحياة الدنيا إلاَّ مؤقتٌ وعابر، أطالت المدة أم قَصُرت، ثم يكون الاستقرار النهائي في الآخرة:" يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآَخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ "(7). هذا الاستقرار يتخذ احدى حالتين: حالة هانئة مطمئنة" فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ "(8)، أو حالة منكسرة محطمة" خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ "(9).