س: سماحة الشيخ، الركيزة الثانية كما نرى هي علاقة الإنسان مع نفسه، كيف يوفيها حقها بحسب رسالة الحقوق ؟
ركائز الحقوق ثلاثة : حق الله وحق النفس وحق المجتمع ، تحدثنا عن حق الله، والآن نتحدث عن حق النفس. النفس البشرية هي مستودع التربية ومستودع التوجيه، فإذا أصلحها الإنسان صلحت حياته، وإذا أفسدها فسدت حياته . فالعنوان العام كما تحدث عنه القرآن الكريم بإيجاز رائع :" وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا"(1)،هذه النفس الإنسانية تحمل القابليتين السلبية والإيجابية، ومن خلال التربية تتجه باتجاه الصلاح أو باتجاه الفساد ، وليس صحيحاً ما يتصوره البعض من أنَّ النفس الإنسانية تتجه دائماً نحو الفساد .إنَّ التأثر بالعوامل التي تحيط بالإنسان هي التي تساهم في تحديد أحد المسلكين، لذا يعطي الإسلام أهمية كبيرة لتربية النفس وبنائها.
إن القصة المشهورة عن النبي (ص) تُعتبر مَعلماً في هذه الدائرة، عندما رجعت جماعة من المسلمين من سرية في مهمة لها، قال الرسول (ص) لهم :"مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر، قيل: يا رسول الله وما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد النفس.ثم قال (ص): أفضل الجهاد من جاهد نفسه التي بين جنبيه"(2). إنَّ القتال مع ما فيه من موت وجرح وتضحية جهادٌ أصغر ، وإنَّ المعاندة للنفس كي لا تشذ ولا تنحرف لتبقى على الاستقامة هو جهادٌ أكبر .كيف يمكن أن نربط بين هذين الأمرين لنصنِّف كما صنف الرسول (ص) جهاد النفس بالجهاد الأكبر ، وقتال العدو بالجهاد الأصغر؟ الواقع أن قتال العدو هو نتيجة لجهاد النفس ،إذ عندما ينجح الإنسان في الجهاد الأكبر فيصبح مستقيماً ويسلِّم نفسه لله، يصبح قادراً على التحكم في إرادته وأعماله، وقابلاً للتكليف الشرعي في محاربة الظلم والأعداء، فينتقل إلى المعركة ليقاتل العدو بكل ثقة وجرأة واندفاع واطمئنان.
وللتدليل على أهمية جهاد النفس، فليتصور كل واحد منّا نفسه،كم يعيش من صراع مع نفسه في كل يوم حين تحدثه لارتكاب المنكرات والمحرمات، ويخطر بباله أشياء سيئة وخاطئة، ثم يناقش بعض الأمور بينه وبين نفسه، أُقدمُ على هذا الأمر المحرَّم أم لا؟ أؤذي هذا الإنسان أم لا؟ أُعفُو عنه أم لا؟ فالإنسان في حوار دائم مع نفسه في محطات كثيرة يومياً وهو بحالة جهاد مع النفس ، إمَّا أن يربح في جهاده في طاعة الله وإمَّا أن يسقط في معركة الجهاد فينهزم ليسقط في حبائل الشيطان، فلا يعود قادراً على الفعل الإيجابي ولا يعود قادرا على الانتصار. ففي حديث المعراج قال تعالى:"يموت الناس مرة، ويموت أحدهم في كل يوم سبعين مرة من مجاهدة أنفسهم، ومخالفة هواهم والشيطان الذي يجري في عروقهم، ولو تحركت ريح لزعزعتهم، وإن قاموا بين يدي كأنهم بنيان مرصوص، لا أرى في قلبهم شغلاً لمخلوق، فوعزتي وجلالي لاحيينهم حياة طيبة"(3).
ولا يتصورنّ أحد أن الأمر خارج عن الإرادة، أو كما يقول البعض بأنه مضغوط عليه نفسياً وقد شعر بأنه ينساق الى ارتكاب المحرمات والأخطاء! كلا، لا أحد ينساق الى ارتكاب الأخطاء ، فالإنسان هو الذي يقرر وهو الذي يختار، فقد جعل الله تعالى زمام الأمور بيده. هنا يمكن أن يسأل: ولكن الآية القرآنية تقول:" إِنَّ النَّفْسَ لاَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَ مَا رَحِمَ رَبِّي"(4)، فهل أنَّ نفس الإنسان تأمره بالسوء دائماً أو أن الطاغي في حياته أن تأمره نفسه بالسوء ؟أبداً ، هذا لا يعني أنَّ النفس بتكوينها أمَّارة بالسوء ،ولكن إذا بُنيت بناء خاطئاً ولم تُهذب، تصبح أمَّارة بالسوء ، فتوسوس له باتجاه السوء. لذا فقد ورد في القرآن الكريم أيضاً:" يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ"(5)، فكيف أصبحت هذه النفس مطمئنة بينما النفس الأخرى أمَّارة بالسوء؟ أصبحت كذلك بالتربية والمجاهدة والعبادة والاستقامة والعمل الصالح.
عندما تترك نفسك من دون أن تعتني بها تصل الى أن تأمرك بالسوء، بتراكم الأمور السيئة على هذه النفس، ثم يتكون خطٌ خاطئ ومنحرف فيتوجه السلوك نحو الانحراف، لذا قال" إلا ما رحم ربي"يوسف53، لأن طريق التوبة مفتوحة ليربي الإنسان نفسه مجدداً على الطاعة. فبرحمة الله، وما أودع في الإنسان من فطرة صالحة، وما أرسل من أنبياء موجهين ومعلمين، وما يواجهه من إنذارات وبشائر وأشخاص يعظونه، وأمام الابتلاءات التي تذكِّره بالله تعالى، كلُّ هذا يعيد الإنسان إلى نفسه. من هنا أهمية السعي لنربي هذه النفس ونتعب عليها، لأنها إذا صلحت صلح كل شيء في حياة الإنسان، وإذا فسدت فسد كل شيء في حياته .