الحج واجب مرة واحدة في العمر لمن بلغ سن التكليف الشرعي وكان مستطيعاً:" وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً"(6). ولا تتوقف الاستطاعة عند الجانب المالي بل هي شاملة لأمن الطريق وسماح السلطات بذلك ... فإذا تحققت الاستطاعة وجب الحج لعام الاستطاعة، وأصبحت الذمة مشغولة فيما لو قصر فيه، وعليه الإتيان به في العام الذي يليه.
ولا أهمية للعمر بعد بلوغ سن التكليف، فقد تتحقق الاستطاعة لابن خمس عشرة سنة، وقد لا تتحقق إلاَّ في سن الستين، وفي كلتا الحالتين يجب المبادرة وإلاَّ كان آثماً. ولا تنفع الذرائع في تأجيل الحج الواجب، من الحرص على التجارة، أو انتظار الأولاد حتى يكبروا، أو ادعاء الرغبة في توفير الإقبال النفسي الكافي، أو صغر السن واحتمال ارتكاب المحرمات بعد العودة من الحج، أو ما شابه من أعذار لا تدخل في الاستطاعة ، ولا ترفع المسؤولية الشرعية في وجوب الحج.
لقد ساد انطباع عند الناس لمرحلة من الزمن أن الحج لكبار السن، بعد تأدية كل ما عليهم من تربية للأولاد وتأمين مستقبلهم، وبعد أن وصلوا إلى مرحلة لم يعد لهم فيها أي همٍ أو باعٍ في هذه الحياة الدنيا، وهي نظرة خاطئة ومخالفة للتكليف. لكننا نجد اليوم حماساً بالغاً عند الشباب من الأخوة والأخوات لتوفير ظروف الاستطاعة رغبة بالحج، نظراً لتحسن الالتزام الديني بشكل عام، ولأنهم لمسوا تلك الآثار الروحية والمعنوية والتربوية التي حصلوا عليها من خلال حجهم، إلى درجة أن البعض يسعى بشكل حثيث ليكرر الحج استحباباً كلما سنحت له الفرصة، بسبب الفائدة الكبرى التي تتحقق به.
وإذا قارنا الفوائد التي يحصل عليها الشاب مع الفوائد التي يحصل عليها كبار السن، لوجدنا أن الاستثمار عند الشباب أكبر بكثير، فالحج يعطيهم دفعاً إلى الأمام، ويصقل شخصيتهم بتعرفهم على معالم الرسالة الأولى في مهدها ومنطلقها، وتبرز معهم حكمة التشريع مرة في العمر، إذ عندما تكون المرة في مقتبل العمر فإنها تعطي الشحنة الروحية الملائمة لتؤسس للحياة، لكن عندما تكون متأخرة فإن مفعولها أقل، إلاَّ إذا لم تتوفر الاستطاعة، فعندها يكون المانع عدم التكليف وهو معذور في ذلك.
إن اطلاعنا على فوائد الحج يبين أهميته في وقت مبكر، ففي جواب كتبه الإمام الرضا(ع) إلى محمد بن سنان:" إنَّ علّة الحج الوفادة إلى الله تعالى، وطلب الزيادة، والخروج من كل ما اقترف، ليكون تائباً مما مضى، مستأنفاً لما يستقبل. وما فيه: من استخراج الأموال، وتعب الأبدان، وحظرها عن الشهوات واللذات، والتقرب في العبادة إلى الله عزَّ وجل، والخضوع، والاستكانة، والذل، شاخصاً في الحر والبرد والأمن والخوف، دائباً في ذلك دايما، وما في ذلك لجميع الخلق من المنافع، والرغبة والرهبة إلى الله سبحانه وتعالى. ومنه ترك: قساوة القلب، وخساسة الأنفس، ونسيان الذكر، وانقطاع الرجا والأمل، وتجديد الحقوق، وخطر الأنفس عن الفساد، ومنفعة من في المشرق والمغرب، ومن في البر والبحر، ومن يحج ومن لا يحج من تاجر وجالب وبايع ومشتر وكاسب ومسكين، وقضاء حوائج أهل الأطراف، والمواضع الممكن لهم الاجتماع فيها، كذلك ليشهدوا منافع لهم"(7).
ما أسمى التعبير المختصر الذي ذكرته السيدة فاطمة الزهراء(عها) في خطبتها:"والحج تشييداً للدين"(8)، والتشييد بناء وظهور وقيام، يحدد البيرق ويبرز قوة الفرد والأمة في اجتماعها. فقد:" جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ"(9)، إنه تعبير عن النهوض بكل معانيه، وعن الاستعداد للحركة كنتيجة للقيام، وعن تحديد نقطة الانطلاق الجامعة في الكعبة الشريفة، لتحقق قوة الإسلام والمسلمين.