س _ الإمام زين العابدين يقول(ع) :" أما حق الصلاة، فأن تعلم أنها وفادة الى الله وأنك قائم بها بين يدي الله، فإذا علمت ذلك، كنت خليقاً أن تقوم فيها مقام الذليل، الراغب، الراهب، الخائف، الراجي، المسكين، المتضرع " ماذا يريد الإمام (ع) أن يقول لنا ؟
فأما حق الصلاة فأن تعلم أنها وفادة إلى الله، أي أنها قدوم إلى الله تعالى وورود إليه. فالواقف بين يدي الله تعالى للصلاة، يتحدث ويخاطب ويناجي ربَّه، ومعنى القربة إلى الله تعالى هو التقرب والإقبال وابتغاء العلاقة بالله تعالى. إذاً أنت في محضر الله تعالى، وعليك أن تستعدَّ للحضور والمثول أمامه، لا أن يكون قدومك عادياً أو لا مبالياً. إن مشكلتنا هي في تحويل الصلاة إلى حركات وشكل يفرغ من مضمونه تدريجياً، ويصبح أداء تقليدياً لا فعالية فيه، وتغلب عليه العادة وليس الوفادة الحقيقية.
فلنتذكر عندما نبدأ بتكبيرة الإحرام أننا نسلِّم أمرنا لله تعالى، فهو الأكبر والأعظم والأقدر وإليه تعود الأمور كلها. وعندما نقرأ سورة الفاتحة وسوراً أخرى من القرآن الكريم، نعيش معنى الآيات وأنها خطاب الله تعالى لنا، وكأنه يحادثنا مباشرة للحظتنا، كي يكون لهذا الكلام أثر في العقل والقلب، في الروح والجوارح. وعندما نركع نسبح الخالق وننزهه، ونخضع له ولا نخضع لغيره، وعندما نسجد نعبر عن أقصى الخضوع والتذلل، وهو مصدر قوة للمحتاج الذليل إلى خالقه. إننا قائمون بين يدي الله تعالى، وحري بنا أن نحسن الوقوف والأداء.
إذا علمنا أنها وفادة إلى الله وقيام بين يديه، ترتبت علينا آداب تمكننا من الاستفادة من هذا الموقف، وبدونها لا يتحقق الهدف المنشود من الصلاة. وقد ذكر الإمام السجاد(ع) مجموعة من الصفات المؤثرة في إقامة الصلاة:
أن تقوم فيها مقام الذليل، حيث تكشف ضعفك أمام الله تعالى، وتتذلل له ليعطيك ويعفو عنك ويهديك ويرحمك. هذه الذلة مع الخالق تعطي المخلوق مدداً وارتباطاً وقوة دفع، وهي التي تمنع ذلة المخلوق للمخلوق.
الراغب، حيث ترغب بهذه العلاقة مع الله تعالى، فلست منساقاً إليها غصباً عنك، وليست عبئاً ثقيلاً تضطر للقيام به، إنما هي شوق وتعلق بالخالق. كان رسول الله(ص) يتشوق للصلاة تشوق الظمآن إلى الماء، قال(ص) لأبي ذر:" إن الله تعالى جعل قرة عيني في الصلاة، وحبَّبها إليَّ كما حبَّب إلى الجائع الطعام، وإلى الظمآن الماء، فإن الجائع إذا أكل الطعام شبع، وإذا شرب الماء روي، وأنا لا أشبع من الصلاة"(6). وهي رغبة بثواب الله تعالى على الاستقامة.
الراهب، الذي وطَّن نفسه للعبادة رهبة من الله تعالى.
الخائف، الذي يخشى من العقاب والسؤال في يوم الحساب، لأن الأعمال مسجلة في صحيفة المرء، ولا يدري كم يكون عبئها ثقيلاً عليه؟ وكم يكون ميزانه خفيفاً ليجتاز عقبات يوم القيامة؟ فهو مقبل على الصلاة بخوف يبتغي معه تعويضاً عما قصَّر، وحماية من ارتكاب المعاصي لما يأتي.
الراجي، لرحمة ربه، وإذا لم يرج ربَّه فمن يرجو؟! وإذا لم يتأمل برب الأرباب فبمن يتأمل؟! وعندما يقوم بين يدي الله تعالى، فبإمكانه أن يعقد كل الرجاء به، حيث لا يخيب لديه سائل، ولا يرد رجاء من رجاه.
المسكين، وهو الذي لا يجد ما يسد رمقه. وهل يملك المرء شيئاً من غير الله؟! فقف بين يدي ربك مسكيناً مستكيناً، واكشف حقيقتك أمامه، واعترف بفقرك وحاجتك، واطلب من قاضي الحاجات والحاضر في الملمات، أن يعينك على نفسك وشهواتك ودنياك.
المتضرع، أي المتذلل الذي يُطوِّعُ نفسه لتتذلل لله تعالى، لأن التذلل مفتاح للعون أثناء البلاء، وطريق لمساندة الجبار للمحتاج. فقد عاقب الله تعالى أمماً ليتضرعوا ويعرفوا حدودهم:" وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ"(7).
إن المتأمل بصفات الوافد على الله تعالى من خلال قول الإمام زين العابدين(ع)، يرى أنها تتمحور حول أدب المخلوق مع خالقه، وهي ترجمة لما يجب أن يكون عليه المخلوق أثناء لقائه بالله تعالى ليحقق الفائدة المرجوة من صلاته، وذلك بعد أن يتحلل من رذائل الصفات التي اكتسبها في يومياته، فيُسقط كبرياءه واعتداده بقوته وثقته المبالغ بها في نفسه، ليكون في واقعه الطبيعي الضعيف والعاجز والمحتاج والفقير والذليل أمام الله تعالى القوي القادر الغني، وعندها ينفتح قلبه على نفحات الرحمن وعطاءاته، ويأخذ نور الله وهديه لحياته، وتؤثر الصلاة التي اكتسبت مدد الخالق في حياة المخلوق، فتصبح قادرة على التغيير.