كما للمعلم حقوق على المتعلم، فإنَّ للمتعلم حقوقاً على المعلم. فالعلم نعمة من النعم التي أفاضها الله تعالى على عبده، "عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ"، ومن خلالها تُفتح آفاق الحكمة، ليسير الإنسان في حياته على بصيرة من أمره. ولا قيمة لتراكم العلم وازدياده إذا احتفظ المرء به، بل قيمة ما آتاه الله من العلم، وولاَّه من خزائن الحكمة، أن يستخدمها لفائدة المتعلمين، وهذا ما يدل عليه قول السجاد(ع):"فأن تعلم أن الله قد جعلك لهم"، تعطيهم من علمك، وتنمِّي معرفتهم، وتساعدهم للوصول إلى حقائق الأمور، وفي الوقت نفسه، فـ"العلم يزكو على الإنفاق"(93) كما ذكر أمير المؤمنين علي(ع).
لا يتساوى المعلمون في الإحسان أو الإساءة، فالعبرة بأعمالهم وليس بألقابهم، إلاَّ أنَّ مسؤولية المعلم أن يَجهد ليُحسن فيما ولاَّه الله تعالى وأعطاه، وذلك في أمور:
أ- "قُمتَ به لهم"، فتعليمك من أجل المتعلمين، وهذا يستدعي دراسة معمَّقة لواقع من تريد تعليمهم:
فما هي أعمارهم؟ وذلك لمعرفة قابلياتهم الإجمالية بحسب النمو التكويني الطبيعي، فالقدرات تتباين بتباين العمر.
ما هي مستوياتهم؟ وما هي قدراتهم على الاستيعاب؟ وهل يعانون من ثغرات او مشاكل خاصة أو تعليمية؟ وهل هناك عوامل بيئية واجتماعية تجعلهم متميّزين ببعض الصفات وفاقدين لبعض المقوّمات؟ وما هي حاجاتهم الفعلية؟...
• حدِّد أهدافك التعليمية، لتكون النتيجة المبتغاة واضحة بالنسبة إليك من أجلهم.
• ضع خطتك السنوية والفصلية والشهرية، لتنسجم المتابعة المنظمة مع تحقيق الأهداف.
• حضِّر درسك جيداً، واحشد له من المصادر المناسبة، واسأل عمَّا غاب عنك أو خفي عليك، ودوِّن ملاحظاتك على دفترك للاستعانة بها، وضبط تذكرها، وإراحة ذهنك من الإنشغال الدائم بها، والاستفادة منها لما يأتي، وتقييمها مجدداً عند اللزوم.
• ركِّز على المعلومات والمفاهيم والسلوكيات الأساسية التي تنفع وتنمي المتعلم.
• اختر الأساليب التعليمية والتربوية الملائمة للمستوى العمري المستهدف.
• قوِّم عملك بمراجعة ذاتية مستمرة، لتحسين الأداء باتجاه الأفضل لمصلحتهم.
• قوِّم تلامذتك بما يكشف استيعابهم ومدى استفادتهم.
ب-"مقام الخازن الشفيق"، حيث تملك خزانة المعرفة بقدر ما، وتتوجَّه بمحتواها إلى المتعلم، الذي يتقلَّب كثيراً في مراحله العمرية، وتتغير ظروفه الشخصية والاجتماعية، ويحمل انطباعات متفاوتة عن أساتذته، فهو يُقبل تارة ويُدبر أخرى، يتجاوب مع معلم وينفر من آخر، فلا تتعاطى معه أيها المعلم بالحكم المبرم عليه واتخاذ موقف منه، بل ضع في حسابك الشفقة عليه.
اعطه من نفسك ما يجعلك معذوراً قائماً بواجبك تجاهه، ولا تتوقف عند هفواته وأخطائه إلاَّ لإصلاحها بما لا يؤثر على عطائك، وتعامل معه كقاصر عن إدراك مصلحته بسبب جهله ومستواه وقلة خبرته في الحياة، واعلم أنه قابلٌ للتغيير والتفاعل من خلال مواكبته من دون أن تستعجل النتيجة. ولا تتخذه خصماً لك، كندٍ ومنافس، فهو الأضعف الجاهل وأنت الأقوى العالم، ولا محل للمنافسة ولا للمقارنة، فلا قدرة له على مواجهتك، وليس مدركاً لنتائج عمله لو فكَّر في ذلك، ولا يناسبك أن تضعه في هذا الموقع، فربما حطَّمت شخصيته بخصومتك له، وأثَّرت على مستقبله وخياراته، فلا تجعل نفسك حاجزاً أمام مستقبله، بل كن شفيقاً رحيماً، قال تعالى:" فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ"(94)، كما تشفق على ولدك وتعطيه، واحمله على الأحسن أو راعِ قصوره وعجزه.
إنَّه محتاج إلى علمك، فقدِّمَه إليه باختيار الأساليب الناجحة معه، على قاعدة ان تشفق عليه، وتعطيه من عواطفك ومشاعرك ليستفيد منك، فخطابك له على قدر نموه، قال رسول الله(ص):"إنَّا معاشر الأنبياء أُمرنا أن نخاطب الناس على قدر عقولهم"(95)، فكيف إذا كنت مسؤولاً عن اختيار شكل الخطاب الذي يتناسب مع مهمتك التعليمية؟، وقال(ص)":أمرني ربي بمداراة الناس كما أمرني بأداء الفرائض"(96)، وهي تشمل جميع الناس، فكيف إذا كان تلميذك القاصر الضعيف؟.
ج_"الناصح لمولاه في عبيده"، فمع تولية الله لك، بالإنعام عليك بالعلم، عليك أن تكون ناصحاً موجهاً لعبيد الله تعالى، قربة إليه، وشكراً لنعمته.
قال رسول الله(ص):"الدين النصيحة"(97)، فالنصيحة تساعد المتعلم على حُسن الاختيار، وتوجهه في دراسته وسلوكه وتصرفاته، ولا تنسَ إرشاده إلى الطريقة الأمثل للدراسة والمذاكرة والحفظ والفهم، وما يتناسب معه في لياقة التعاطي مع معلمه وزملائه، وكأنك تأخذ بيده في كل الجوانب.
لا غنى للمتعلم عن التوجيه التربوي والتعليمي، بل لا يستقيم مساره من دونه، ولا يمكن للمعلم أن يستقيل من هذه المهمة أثناء تعليمه، فهو الأقدر على النصح والتوجيه، وليستفد من استعدادات القبول عند التلميذ وتقديره لمعلمه، أو فليعمل على زرع هذه الثقة بالأساليب المناسبة للقيام بهذا الدور الأساس، وكم من نصيحة حجبت أخطاراً وكوارث وانحرافات وخسائر، فإذا لم تأت من الشخص المناسب أتت من زميله في الدراسة أو من أصدقائه وأقربائه من جيله، وهم يفتقرون إلى المعرفة والخبرة، ما يؤدي إلى أضرار كبيرة.
د- "الصابر المحتسب"، فالتعليم يتطلب صبراً كبيراً، ولا أجر مادياً يعادله في التقييم البشري، فليحتسب المعلم أجره على الله تعالى، فهذا أغنى له في الدنيا والآخرة، وليكن عنوان العطاء والبذل أصلاً في تعليمه، وإلاَّ إذا احتسب تقييم ما يعلمه بمقدار ما يناله من أجر مادي، فأحسن عند الرضا وأساء عند السخط، كان بذلك خائناً للأمانة. وبما أنَّه تصدَّى لمهمة التعليم، فلينجزها على أحسن وجه محتسباً أجره على الله تعالى، وهذا ما يعوِّضه النقص البشري في التقييم والمبادلة.
ولا يُنتظر من التلامذة أن ينصفوه، فقد يبتلي ببعض المسيئين والجهلة الذين لا يقدِّرون معلمهم، ولا يعترفون بجميله، ولا يشكرونه على تعليمهم، فليحتسب أيضاً أجره عند الله تعالى لقيامه بمهمته على أكمل وجه.
ولا يخفى ما يحتاجه التعليم من صبر في الإعداد والتقديم والتعاطي مع التلامذة، فالفروقات الفردية في الاستيعاب تتطلب جهداً استثنائياً لمساعدة المتخلفين، والظروف الطارئة التي تؤدي إلى الإهمال والتقصير واللامبالاة تتطلب حنكة في المتابعة لاجتياز الأزمة وتشويقاً للتلامذة للاهتمام من جديد، ويؤثّر النمو الجسدي والخصوصيات العائلية والوضع الصحي... على مستوى التجاوب المتفاوت، ما يستدعي جهداً للمعالجة.
• اصبر أيها المعلم على تصرفاتهم، فهي في أغلب الأحيان طيش طفولة أو مراهقة.
• اصبر على تعليمهم، فقد تنقص بعضهم مقدمات أساسية، فعالجها بأسلوب الدعم، أو أصاب البعض الملل، فاختر الأساليب الأكثر تشويقاً، أو كانت المادة صعبة ومعقدة فاحرص على تبسيطها، أو كنت سبباً لكرههم للمادة فراجع طريقة أدائك.
• اصبر على تربيتهم، فمسؤوليتك أن تتابعهم ليتحسنوا ويُغيِّروا، ولا يتوقف مسار التربية طوال حياة الإنسان، فالتربية عملية مستمرة، وعليك مواكبتها بكل معاناتها وصعوباتها، ولا تظهر آثارها بسرعة ، فهي مرهونة بتفاعل الطرف الآخر، وهذا ما يحصل بشكل تدريجي وبطيء، وقد لا يحصل على يديك.
• اصبر لمصلحة إعطائهم الفرص المتتالية، فهم بحاجة إليها، وقد يكون لك الفضل الكبير في استقامة سلوكهم وحسن تعليمهم، ولا تكتف بفرص محدودة، فالتلميذ عجينة بين يديك، حاول أن تكيِّفها باتجاه الهدف، ولعلَّ الزمن يساعد فيما لم تتوفق له اليوم، فالمتغيرات في شخصية الولد وظروفه تساعد أيضاً في تطوير الاستجابة لك.
• اصبر فأنت المسؤول، وهذا يدخل في صلب مهمتك، ولا تُفاجأ إذا لم تنجح في بعض الحالات، على الرغم من التزامك بكل الضوابط الصحيحة وبَذْلك لكل الجهد المناسب، فربما كانت العلة من الطرف الآخر، الذي يحتاج إلى غيرك لمعالجتها، أو إلى تغيير نمط الاختيار للصف أو المادة أو الاتجاه، أو يكون عصيَّاً عليك وعلى غيرك لغلبة ما تربى عليه واعتاده.
• اصبر، "إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ"(98).
هـ-"الذي إذا رأى ذا حاجة، أخرج له من الأموال التي في يديه"، فقد تمنع الحاجة تلميذاً من التعلم بسبب الكلفة، فإذا استطاع المعلم تأمين حاجته مما بين يديه من الأموال بسبب سلطته وموقعه فهذا أمر جيد، ولعلَّ انطباق هذا الأمر على طلبة العلوم الدينية أكبر بسبب قدرة العلماء المتصدين على تأمين الحقوق الشرعية والمساعدات، التي يُعتبر التعليم من أهم وجوه الصرف فيها. وبما أنَّ التعليم عموماً ينقل الأولاد إلى المستوى الأفضل من الوعي والإدراك والسلوك، فهو مطلوب بشكل عام، وقد صُرفت أموال شرعية على تأسيس المدارس العصرية لهذه الغاية، واهتم بعض المراجع بمدارس تعليم البنات بسبب التقصير في هذا الجانب.
ومع أن فكرة مجانية التعليم قد طرحت في هذا الزمن، ويقصد بها تأمين التعليم لجميع الأولاد ذكوراً وإناثاً، فإنَّ إشارة الإمام زين العابدين(ع) إلى تأمين حاجة المتعلم المادية، تبيِّن بأن الأصل هو التعليم لكل فرد، فإذا أثَّرت الحاجة سعى المعلم والمسؤول إلى تأمينها لضمان استمرارية التعليم. وقد قايض الرسول(ص) أسرى الحرب، بأن يعلِّم الواحد منهم عشرة من المسلمين، مقابل إطلاق سراحه، كأجر مدفوع من بيت مال المسلمين لتأمين تعليم المسلمين. فالحواجز المادية مرفوضة بين المعلم والمتعلم، ويجب أن تتضافر الجهود لتأمينها تسهيلاً لشرف وعظمة ومكانة العلم.
أمَّا نتيجة أداء حق الرعية بالعلم، "فإن أحسنت...كنت راشداً، وكنت لذلك آملاً معتقداً"، حيث يعبِّر حسن أدائك لحق المتعلم عن رشدك ووعيك، ويدلُّ على املك بعطاء الله، واعتقادك بفضله عليك فيما منحك إياه، ورجاء ثوابه في الآخرة على إخلاصك وجهدك في عملك.
"وإلاَّ كنت له خائناً"، فمقتضى الأمانة أن تعطي مما أعطاك الله لعباده. ولا حق لك بحجز العلم عندك، ولا يجوز لك الإساءة في تقديمه، وإلاَّ كنت"لخلقه ظالماً" فيما حرمتهم منه، وبذلك تكون قد عرَّضت نفسك لسلب العلم منك، فهو ينقص على عدم الإنفاق، وتسقط قيمته مع عدم أداء حقِّه، فلا يكون لك عزٌّ معه، لأنَّ العلم يُعز ويرفع من يستفيد منه وينفع الآخرين به.