’اللهم .. أمِت به الجور’افتتاحية العدد 234
اللهم .. أمِت به الجور
اللهم .. أمِت به الجور
ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، وهذا هو ديدنهم منذ بداية الحياة على الأرض، حيث أتاح الله تعالى للإنسان أن يختار بين الحق والباطل، وبين الصلاح والفساد، من دون أن يلزمه بأحدهما، وقد برز الاختلاف مع ولدي آدم(ع)، حيث اتَّبع هابيل طريق الصلاح، فقدَّم أغلى ما عنده قربة إلى الله تعالى، واتَّبع قابيل طريق الفساد، فقدَّم أسوأ ما عنده، ومِنْ فاضِلِ حاجته قربة إلى الله تعالى، فتقبَّل الله من هابيل، ولم يتقبَّل من قابيل، فقتل قابيل هابيل، قال تعالى: "وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآَخَرِ قَالَ لاَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ"(1). والقتلُ غيرةً وحسداً هو الظلم والفساد بعينه.
ينجذب أكثر الناس إلى ملذاتهم وشهواتهم وزينة الحياة الدنيا، فيفسدون في الأرض، طمعاً، وحسداً، ورغبة بالتسلُّط، وتعلقاً بالحياة الدنيا الفانية، قال تعالى: "وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ"(2). وتنجح القلة المؤمنة الصابرة بسلوك طريق الاستقامة، والصلاح، والطاعة لله تعالى، وإيثار الآخرة على الدنيا، "وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ"(3).
هذه هي خارطة الحياة الدنيا، صراعٌ قائمٌ ودائمٌ بين الصلاح والفساد، وانتصارٌ لأصحاب الصلاح في محطاتٍ من التاريخ، وتسلُّطٌ للفاسدين في أغلب محطات التاريخ، وهذه النتيجة منسجمة مع كون الأكثرية من الفاسدين. ولكنَّ الله تعالى وعدنا بنصرٍ شاملٍ ونهائي في آخر الزمان، "وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ"(4)، يكون مسبوقاً بفسادٍ جامح وشبه شامل على وجه المعمورة.
تحدثت روايات كثيرة عن فساد آخر الزمان، المواكب لمرحلة ظهور الإمام المهدي المنتظَر(عج)، وأسهبت في تفصيل طبيعة هذا الفساد ومجالاته المختلفة، التي تشمل جوانب الحياة بأسرها، على المستوى الإيماني والثقافي والاجتماعي والأخلاقي والعائلي والسياسي، والتي يتكتَّل فيها أهل الباطل، ويجتمعون ضد أهل الحق، وما مشهد أمريكا ومجلس الأمن وإسرائيل إلاَّ صورة عن تظافر جهود أهل الباطل قي مواجهة أصحاب الإيمان والصلاح والحق. عن رسول الله(ص) : "يأتي على الناس زمان همهم بطونهم، وشرفهم متاعهم، وقبلتهم نساؤهم، ودينهم دراهمهم ودنانيرهم، أولئك شر الخلق، لا خَلاقَ لهم عند الله"(5).
وعن أمير المؤمنين علي(ع) يشرح جوانب من فساد آخر الزمان، تكون مصحوبة بالغضب الإلهي، بالأحداث الطبيعية كالزلازل وأنواع الرياح المؤذية، وما ينسجم مع ما ورد في بعض الروايات بأنَّ ثلث العالم يفنى بهذه الأحداث الطبيعية والاستثنائية: "إذا كان زعيمُ القوم فاسقهم، وأُكرِمَ الرجلُ اتقاء شرِّه، وعَظُمَ أرباب الدنيا، واستُخِفَّ بحملة كتاب الله، وكانت تجارتُهم الربا، ومأكلُهم أموال اليتامى، وعُطِّلت المساجد، وأَكرمَ الرجلُ صديقَه وعقَّ أباه، وتواصلوا على الباطل, وعطلوا الأرحام، واتخذوا كتاب الله مزامير، وتفقه (الناس) لغير الدين، وأكل الرجل أمانته, وإئتمن الخائن، وخُوِّن الامناء، واستُعمِلت كلمةُ السفهاء، وزُخرفت المساجد، وزُخرفت الكنائس، ورُفعت الأصوات في المساجد، واتُّخِذت طاعة الله بضاعة، وكثُرَ القُرَّاء وقلَّ الفقهاء، واشتدَّ سبُّ الأتقياء، فعند ذلك توقعوا ريحاً حمراء، وخسفاً ومسخاً وقذفاً وزلازل وأموراً عظاما"(6).
فإذا وجدنا الفساد يزداد ويتراكم، فهذا مؤشرٌ لقرب الظهور، ومهما عَظُمَ الفساد فلن يصمد أمام إشهار الإمام لسيفه، وتمزيقه للباطل، ورفعه لراية الحق. وقد شجعنا النبي(ص) والأئمة(عم) على أن ندعو دائماً بتعجيل الفرج، لإعلاء كلمة الحق وإزهاق الباطل، فمن دعاء العهد الذي يستحب قراءته أربعين صباحاً ليكون الداعي من أنصار الإمام المهدي(عج): "اللهم أرني الطلعة الرشيدة، والغُرَّة الحميدة، واكحل ناظري بنظرةٍ مني إليه، وعجِّل فرجه، وسهِّل مخرجه، وأوسع منهجه، واسلك بي محجته، فانفذ أمره، واشدد أزره، واعمر اللهم به بلادك، وأحيي به عبادك، فإنَّك قُلتَ وقولُكَ الحق: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ). فأَظهِرِ اللهم لنا وليَّك، وابن بنت نبيك, المسمَّى باسم رسولك, حتى لا يظفر بشيء من الباطل إلا مزَّقه، ويحق الحق ويحققه، واجعله اللهم مفزعاً لمظلوم عبادك، وناصراً لمن لا يجد له ناصراً غيرَك، ومجدداً لما عُطِّلَ من أحكام كتابك, ومشيدا ًلما ورد من أعلام دينك وسنن نبيك(ص), واجعله ممن حصَّنتَه من بأس المعتدين"(7).
ومن الدعاء لصاحب الأمر، المروي عن الإمام الرضا(ع) الذي كان يأمر أصحابه به: "اللهم اشعب به الصدع, وارتق به الفتق, وأَمِت به الجور, وأَظهِر به العدل, وزيِّن بطول بقائه الأرض, وأيِّده بالنَّصر, وانصره بالرُّعب, وقوِّ ناصريه, واخذل خاذليه, ودَمدِم من نَصَبَ له, ودمِّر من غشَّه, واقتُل به جبابرة الكفر وعمده ودعائمه, واقصم به رؤوسَ الضلالة وشارعَة البدع ومميتةَ السنة ومقوِّيَةَ الباطل, وذلِّل به الجبارين, وأَبِر به الكافرين وجميع الملحدين, في مشارق الأرض ومغاربها, وبَرِّها وبحرِها, وسهلها وجبلها, حتى لا تدَعْ منهم ديَّارا, ولا تُبقي لهم آثارا"(8).
لا تستوحشوا لقلة المؤمنين، ووعورة الطريق، وانتشار الفساد، فسيصل الأمر إلى أن لا يبقى من القرآن إلاَّ رسمُه، ولا يبقى من الإسلام إلاَّ اسمُه، تعبيراً عن فداحة الخطب، وكثرة المنكرات، وطغيان الظَلَمة. انظر إلى نفسك وطريقك، وأعمل لتكون من الثلة المؤمنة بصاحب العصر والزمان(عج) لتكون من أنصاره وأعوانه والمستشهدين بين يديه، وليكون أمَلُكَ عظيماً أمام الانتشار العالمي للفساد، الذي يسبق النهاية السعيدة التي يعمُّ فيها النصر والعدل والإيمان. عن رسول الله(ص): "كائن في أمتي ما كان في بني إسرائيل، حذو النعل بالنعل، والقذَّة بالقذة، وإنَّ الثاني عشر من ولدي يغيب حتى لا يُرى، ويأتي على أمتي بزمنٍ لا يبقى من الإسلام إلاَّ اسمُه، ولا يبقى من القرآن إلاَّ رسمُه، فحينئذ يأذنُ الله تبارك وتعالى له بالخروج، فيُظهِر الله الإسلام به ويجدِّده. طوبى لمن أحبَّهم وتبعَهم، والويلُ لمن أبغَضَهم وخالفهم، وطوبى لمن تمسَّك بهُداهُم"(9).
وعن أمير المؤمنين علي(ع) في حواره مع بعض الزنادقة: "أمَا إنَّه سيأتي على الناس زمانٌ يكونُ الحقُّ فيه مستورا، والباطلُ ظاهراً مشهورا، وذلك إذا كان أولى الناس به أعداهم له. واقترب الوعدُ الحق، وعظُمَ الإلحاد، وظهر الفساد، هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديدا، ونَحَلَهُم الكفارُ أسماءَ الأشرار، فيكون جهدُ المؤمن أن يحفظ مهجته من أقرب الناس إليه, ثم يُتيحُ الله الفرج لأوليائه، ويظهر صاحبُ الأمر على أعدائه"(10).
نحن أبناء البشرى بالإمام المهدي(عج)، الذين لا يهابون ولا يخافون ولا يحزنون في مواجهة قوة الكفر وتصاعد وتيرة الفساد، فقد بشرت حكيمة(رض) عمة الإمام المهدي(عج) بما رأته عند ولادته: "ولما وُلِدَ كان نظيفاً مفروغاً منه, وعلى ذراعه الأيمن مكتوب: جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً"(11).
الهوامش:
1-سورة المائدة، الآية: 27.
2- سورة يوسف، الآية: 103.
3- سورة سبأ، من الآية: 13.
4- سورة القصص، الآية: 5.
5- كامل سليمان, يوم الخلاص عن منتخب الأثر, ص: 438.
6- الشيخ علي الكوراني العاملي, معجم أحاديث الإمام المهدي (عج), ج 3, ص: 17.
7- العلامة المجلسي, بحار الانوار, ج 53, ص: 96.
8- الشيخ الطوسي, مصباح المتهجد, ص: 409.
9- القندوري, ينابيع المودة, ج 3, ص: 283.
10- الشيخ الطبرسي, الاحتجاج, ج 1, ص: 373 .
11- السيد هاشم البحراني, مدينة المعاجز, ج 8, ص: 33 .