بسم الله الرحمن الرحيم والحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق مولانا محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
القدس لها مكانة خاصة في قلوب وعقول وحياة المسلمين، لأنها تمثل الرصيد الأساس في الرمزية الإيمانية الكبرى، التي مرت عبر التاريخ، فهناك مجموعة من العناوين التي تنطبق على القدس، والتي تجعلنا نعيش معها القدسية والتعلق والحب والتمسك، فالقدس هي التي كانت مسرى رسول الله(ص) في ليلة الإسراء والمعراج" سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ"، والقدس كانت قبلة للمسلمين قبل ان يتوجَّه الرسول(ص) بأمر من الله تعالى إلى الكعبة الشريفة، وهناك في القدس صلى الرسول(ص) جماعة بالأنبياء والصالحين، ونحن موعودون أن يأتي يوم يظهر فيه الإمام المهدي(عج) من أجل ان يصلي إماماً في تلك البقعة المقدسة، ويصلي وراءه النبي الأكرم عيسى(ع) وحشد من المؤمنين والصالحين والأتقياء، بحيث تعود القدس إلى المؤمنين إلى العدالة والطاعة والإيمان، هذه القدس هي بيت من بيوت الله تعالى، هذه القدس هي أرض طاهرة للمسلمين، ومن حقهم أن يحافظوا عليها بل من واجبهم أن يعملوا لها، ولا يجوز أن يروها سليبة بيدي أعداء الله تعالى الصهاينة ثم يتفرجوا عليها من دون حراك ومن دون جهاد ومن دون مواجهة، فبكل العناوين تعتبر القدس أرضاً مقدسة حرة أبية وهي أرض للإسلام وللحق، ويجب ان تكون في رعاية المسلمين ورعاية أهلها، في حضور أولئك الذين عاشوا فيها فترة من الزمن، ولذا ليس مقبولاً تحت أي عنوان من العناوين أن تصبح للصهاينة، وليس مقبولاً ان يكون إدعاؤهم بأنها لهم ثم يطردوا الفلسطينيين من أرضهم، ليس مقبولاً ان يجتمع العالم والاستكبار في هذا العالم تحت رعاية دولية ليضع الصهاينة يدهم على فلسطين، تحت عنوان أنها لهم ثم يُطرح أن يكون الفلسطينيون بملايينهم الخمسة خارج فلسطين، يتوطنون في أماكن مختلفة وفي آن معاً يأخذ اليهود تلك الأرض المقدسة الطاهرة. إذاً نحن نعتبر ان القدس شرف وكرامة وعز ومقدس، فإذا لم يسعَ المسلمون والمجاهدون والعرب وكل المعنيين بهذه القضية الهامة ويعملوا من أجل التحرير فهم آثمون، وهم سيدفعون الثمن غالياً جداً لأن القدس ستجر إلى غيرها وستؤثر على البلدان العربية كافية، وسيكون الصهاينة قد انطلقوا من موقع أثموا فيه ليمدوا اليد إلى مواقع أخرى فتسقط أنظمة وتسقط بلدان وشعوب، فالمسألة لا تتوقف عند الرمزية فقط، بل تتجاوز إلى كل العناوين الأخرى.
لقد أعلن الإمام الخميني(قده) آخر جمعة من شهر رمضان المبارك، يوماً للقدس العالمي، وكان لهذا الإعلان دلالة كثيرة أرادها الإمام عندما أعلن هذا اليوم، فهذا اليوم هو من شهر رمضان المبارك، وشهر رمضان شهر الصوم والإرادة والعزيمة والتصميم من أجل صنع المستقبل ومن أجل التغيير نحو الإستقامة.
وهذا اليوم هو يوم من أيام القدر، ومن ليالي القدر التي تُنتظر عادة في الأيام العشر الأخيرة من شهر رمضان المبارك، وبالتالي أرادنا أن نحييها في يوم هو من أيام القدر، فليلة القدر ليلة الأرزاق والأعمار، وليلة الأقدار، ليلة القرارات الهامة التي تُؤخذ بحق البشرية لسنة كاملة، فنحن نترصد في هذه الليلة المباركة أن يكون قدرنا في ان نعود إلى فلسطين المقدسة، إلى القدس المقدسة، إلى ان نعود إلى حقوقنا، وأن يقدر الله تعالى توفيقنا وتسديدنا شرط أن نقوم بما علينا.
وفي شهر رمضان أنزل القرآن الكريم" شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ"، فالقرآن هو المنهج، والقرآن هو الخط.
لقد أراد الإمام (قده) أن يعطينا هذه العناوين الثلاث كعناوين رئيسة في حركتنا:
عنوان الإرادة من خلال شهر رمضان، وعنوان القدر الذي يؤدي إلى تقدير الأرزاق والنصر والتوفيق، وعنوان المنهج من خلال القرآن الكريم، ليكون مسارنا باتجاه القدس مساراً إيمانياً دينياً يوصلنا إلى هذه الأهداف الكبرى. بعد أن عرفنا هذه المعاني الكبرى للقدس ولدلالة يوم القدس الذي أعلنه الإمام الخميني(قده)، ما هو تكليفنا؟
تكليفنا هو أن نعمل لإستعادة القدس أن نعد العدة لإستعادة القدس، وأن نقوم بواجبنا لتهيئة كل الظروف المؤاتية، لا يجوز لنا ان ننظر إليها ونتفرج عليها، أو أن ننأى بأنفسنا عنها" أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ "، وبالتالي هذا تكليف وهذه مسؤولية أن نواجه هذا الخطر الإسرائيلي. ربما قال البعض بأن إمكاناتنا ضعيفة، ومن قال بأن الإنتصار يحصل بين يوم وآخر، هيئوا إمكاناتكم بقدر ما تتوفر لكم، اعقدوا العزم حتى ولو رسمتم الخطوات الأولى، اصرخوا بالرفض لهذا الاحتلال ليملأ الصراخ كل الأمكنة، وليعرف العالم أننا متمسكون بالقدس، هذا شرفٌ لا نتخلى عنه، وهذه كرامة لا نرضى بأن تذل، وهذا موقف سندافع عنه إلى النهاية بأذن الله تعالى، قد لا ننتصر اليوم ولكن يمكن ان ننتصر بعد سنوات، قد لا نتوفق اليوم لقلب المعادلة لكننا نؤسس لها، فرقٌ كبير بين أولئك الذين يتخاذلون ويستسلمون ويعتقدون أنهم ضعفاء ثم يقبلوا بالأمر الواقع ويوقعوا لإسرائيل ما تريد، فيكونون بذلك قد أعطوا شرعية للاحتلال من غير تحرك منهم أو رفض، وبين أولئك الذين يقولون لا من أبناء الانتفاضة الأبية المباركة في فلسطين المحتلة، والذين يقفون حجر عثرة أمام المشروع الإسرائيلي، ولو كانت التضحيات كبيرة فهي طبيعية في خط الحق، وهي طبيعية من أجل استرداد الأرض، ومهما بلغت هذه التضحيات فهي أقل بكثير من الأثمان الباهظة التي تُدفع عند الاستسلام، والتي يتكلفها الناس والأمة بسبب الخذلان والذل والسقوط والعار والانهيار، هذه التضحيات هي شرفٌ يعيد القدس، بينما كل مذلة أخرى لا تعيد لنا شيئاً، وتُخسِّرنا إمكاناتنا وطاقاتنا التي يجب ان نستغلها ونستثمرها في موقعها الصحيح.
لقد رأيتم بأم العين، كيف أن دولاً كثيرة من الدول العربية وافقت وقبلت بالتوقيع، ورضيت مع إسرائيل ما تريده، لكن ماذا فعلت بها إسرائيل؟ لم تلتزم باتفاقاتها معها، ضربت بها عرض الحائط، نفت أي مسؤولية لها في أن تعطي عهداً أو ميثاقاً أو أن تلتزم بإتفاق من الاتفاقات، رأينا أن إسرائيل وقَّعت إتفاق أوسلو مع بعض الفلسطينيين لكن أين أصبح هذا الاتفاق؟ لقد تركته وراءها ووقعت اتفاقات واتفاقات بعد ذلك من تينيت إلى ميتشيل إلى خارطة الطريق إلى اتفاقات مستقبلية لأنها اتفاقات لا تؤثر على المسار الإسرائيلي، إنما هي محطة تريد إسرائيل أن تستريح فيها لتنتقل إلى محطة أخرى لتوقع اتفاق جديداً يكون أقل بمعطياته من الأول ومنافياً لمصلحة الفلسطينيين، وبالتالي هذا يعني ان إسرائيل تقضم الأرض، وتقضم المواقف تدريجياً وبطريقة سياسية وعسكرية وعدوانية وبدعم استكباري من أجل أن تثبت احتلالها وتشرِّع مشروعها، يجب ان نرفض هذا الأمر جملة وتفصيلا، أي اتفاق مع إسرائيل هو مذلة، أي تسليم لإسرائيل بأن تغتصب الأرض هو عار كبير وإثمٌ شرعيٌ على المؤمنين وعلى العالم، ولذا نحن رفضنا من اللحظة الأولى أي مسايرة أو مداهنة مع إسرائيل، هذا الحوار المدَّعى لا ينفع معها لأنه حوار التنازل، ولا ينفع معها السكوت والاستكانة، إنما يجب ان نبقى دائماً في ساحة الميدان جاهزين وحاضرين ومستعدين لمواجهة الاستحقاقات والتطورات، ونحن قادرون بإذن الله تعالى، ألم يقل رب العالمين في كتابه العزيز" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ"، فلِمَ لا ننصر الله، لِمَ لا نعطي قربة إلى الله، لِمَ لا نضحي في سبيل الله، لنرى النصر المؤزر بأم العين.
ها هي المقاومة الإسلامية في لبنان، ها هو حزب الله في لبنان، قد خاض تجربته بقلة من العدد، وقلة من الإمكانات، ورفضٍ من الكثيرين من الناس، وضغوطات دولية وإقليمية ومحلية لم تتوقف عليه، ومع ذلك قال الشباب:" قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ"، فكانت المعارك تتالي وكانت العمليات تتكثف وكان الشهداء يقدمون قربة إلى الله، كانوا عشَّاق لله تعالى، لم يسألوا عن دنيا فانية، ولم يردوا على تهديد وأخطار، ولم يلتفتوا إلى القوة المادية التي يملكها اليهود ويمتلكها الأخصام، إنما صرخوا صرخة التكبير وساروا في اتجاه العلى فحققوا بحمد الله نصراً كبيراً، فهُزم اليهود وخرجوا من أرض لبنان بأغلبيتها، ورُفعت راية النصر ببسم الله وفي سبيل الله وعلى خط الإسلام المحمدي الأصيل، على منهج أهل البيت(ع)، وعلى رؤية إمامنا الخميني(قده)، وولي أمرنا الإمام الخامنئي حفظه الله ورعاه، فكان النصر نصراً للبنان وللعرب وللمسلمين وللأحرار والشرفاء، وخزياً لهؤلاء الصهاينة، وخرجوا يجرون أذيال الخيبة مما يدل أننا إذا كنا مع الله كان الله معنا، وأننا إذا اتكلنا على الله وهيأنا الإمكانات المحدودة القليلة بثقة بالله تعالى وبإيمان صادق، فإن بإمكاننا أن ننتصر، قال تعالى" وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ"، وها هو يلتزم بعهده ووعده، فينصر المسلمين في لبنان، ويوفقهم على عدو الله تعالى إسرائيل.
وها هي الانتفاضة المباركة في فلسطين المحتلة تقاتل وتقاتل وتضحي وتقدم، هؤلاء الشرفاء من أبناء فلسطين العزيزة، من أبناء القدس يواجهون بالدم واللحم، يواجهون بالإيمان والتقوى، يواجهون بالثقة بالله تعالى وبأرضهم، وهم لسنوات ثلاث خلت حتى الآن يستمرون بانتفاضتهم ويهزون كيان إسرائيل، لا تنظروا إلى أعداد الشهداء الذين سقطوا فقط، لكن انظروا إلى عدد القتلى الإسرائيليين الذين بلغوا ثلث عدد الشهداء من الفلسطينيين، لكن بمعادلة العدد وبمعادلة القوة نجد أنه انتصار للفلسطينيين على الصهاينة، انظروا إلى الواقع الإسرائيلي فهو يعيش إرباكاً اقتصادياً وإرباكاً سياسياً وحالة نفسية معقدة، 21% من الإسرائيليين يفكرون بمغادرة إسرائيل، 21% يعتبرون أن إسرائيل عدوة السلام الأولى في العالم، وهذا انتصار كبير أن يهتز الواقع الإسرائيلي بفعل هذه الانتفاضة الشريفة، وعندما يعلن الصهاينة بقياداتهم أنهم مستعدون للتعاطي مع الحكومة الفلسطينية الجديدة هذا لأنهم عجزوا بقتلهم وعدوانهم واحتلالهم أن يحققوا اهدافهم، فهم يتأملون أن يساعدهم أحد من السلطة الفلسطينية، من أجل أن يخفف عنهم تلك الآلام التي أصابتهم، لكن نسأل الله تعالى أن لا يُوفقوا في ذلك، وأن يبقى الفلسطينيون موحدين حول انتفاضتهم المباركة، وأن يبقوا معاً سداً منيعاً في مواجهة الصهاينة وفي مواجهة مشروعهم.
إنَّ يوم القدس، هو يوم الإسلام، إنَّ يوم القدس هو يوم شعار الحق في مواجهة الباطل، إنَّ يوم القدس هو يوم إعلان القرار بالاستعداد لمواجهة التحديات، ونحن قادرون على النصر إن شاء الله إذا اتكلنا على الله تعالى وثابرنا وبذلنا جهودنا على مستوى الأمة، ليبذل كل واحد منا ما استطاع إلى ذلك سبيلا، بالمال والكلمة والدعاء والجهاد والدعم وبكل الأساليب، لتجتمع تلك الإمكانات فتحقق النصر إن شاء الله تعالى، ولنكون من جند الإمام المهدي(عج) حتى يتحرر هذا القدس، فإننا موعودون أن يتحرر بإذن الله تعالى، ولن نقبل ضغوطات أو تثبيط عزائم، فقد عقدنا العزم أن نكون على خط الإسلام المحمدي الأصيل، وقد عقدنا العزم أن نحمل لواء الحق مهما كلفنا ذلك، وبالتالي أملنا بالله تعالى ان ينصرنا وأن يعطينا، فحياكم الله أيها المحبون للقدس، وحياكم الله أيها العاملون في سبيل الله، وحياكم الله أيها الصائمون القائمون، واعلموا أن صيامكم وقيامكم عندما يكون من أجل رفعة كرامة الإنسان واستعادة الأرض فهو صيام وقيام مقبول، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.