الموقف السياسي

الكلمة التي ألقاها في حفل الافطار السنوي الذي أقامه المركز الاسلامي للتوجيه والتعليم العالي في مطعم الساحة - طريق المطار في 11/9/2008

لم تكن المقاومة يوماً عائقاً أمام الدولة، بل كانت سنداً دائماً لها

أبدأ بحادثة الاغتيال التي أدّت إلى استشهاد المجاهد العريضي والذي اغتيل بدمٍ بارد وفي مكان مكشوف، ما يدل على أن المجرمين القتلة يعيشون حالة من الاطمئنان، ويعملون في الخفاء من أجل التأثير على الواقع القائم وعلى المصالحات الجارية، نحن نعتبر أن هذا الاغتيال من ناحية سياسية جريمة اسرائيلي ببصماتها ومواصفاتها وأهدافها ولو كان من قام بها غير موجّه مباشرة من إسرائيل أو بالإدارة الاسرائيلية المباشرة، لأن طبيعة هذه الجريمة بعد اتفاق الدوحة وفي منطقة الجبل، تدلّ على أن الهدف هو تخريب الاستقرار والمصالحة، نحن أيّدنا المصالحة التي جرت في الجبل بين السيد طلال ارسلان والسيد جنبلاط، واعتبرنا أنها ضرورية للجبل وللمقاومة وللبنان، كما شجّعنا على المصالحة التي جرت في طرابلس وأجبنا من سألنا بضرورة بذل كل الجهود لوأد الفتنة، وكنا نتمنى أن تكون أسبق من ذلك بدل تلك الخسائر التي سبّبتها الأحداث هناك، ولكن كنا واضحين أننا مع هذه المصالحة، ونحن مع كل مصالحة، ولعل هذه الجريمة تطلق صفارة الانذار للمتلكّئين والمنتظرين، لأن أي سرعة في إنجاز المصالحة يقفل الباب أمام هؤلاء العابثين والذين يصطادون في الماء العكر. إذا ظنُّوا أنهم بهذه الأعمال يستطيعون إنجاز شيء ما في بلدنا فهم واهمون، ففي الواقع هذا التخريب عمره ثلاث سنوات بالحد الأدنى، وبشكل عنيف وبطرق غير مشروعة وبأساليب مقيتة، ومع ذلك عاد اللبنانيون جميعاً ليقتنعوا أن الحل بالوحدة والوفاق والمصالحة، وبغير هذا العنوان الوحدوي والوفاقي لا يمكن أن يبني لبنان، لا أحد يستطيع أن يأخذ لبنان لمصلحته، ولا أن يُدير لبنان بحساباته، ولا يستطيع أحد أن يُنصِّب نفسه زعيماً على لبنان نيابة عن الطوائف أو الأحزاب أو اللبنانيين، ولا يستطيع أحد أن يبيع ويشتري على حساب لبنان في صفقات دولية أو إقليمية، فلبنان للبنانيين ونحن جزء من هؤلاء وجميعنا شركاء، وسنقطع اليد التي ستمتد إلى لبنان لتقسِّمه أو تبيعه للأجنبي أو لتجعله في دائرة خفافيش الليل الذين يقتلون ويهربون، وإن شاء الله ستكون اليد مشارة إليهم في يوم من الأيام.

بات واضحاً أن المراهنة على التوتير السياسي ومذهبة المواقف لا يمكن أن تؤدي إلى نتيجة، وقد وصلت إلى طريق مسدود. كل من كان لديه أمل أو تصوُّر أنه بتخريب البلد والتوتير المذهبي وبالعمل الذي يحرِّك الساكن ويخرب الاستقرار، يمكن أن يصل بهذه الأعمال إلى نتيجة، فتبيَّن أن الحائط مسدود ولا يمكن الوصول إلى نتيجة، إذاً علينا أن نلجأ إلى الطريق الآخر وهو بناء لبنان، وهو التعاون من أجل هذا البناء. لقد أصبح من الواضح أنه علينا أن نقرأ الخطة الأمريكية التي أعلنتها الصحافة الأمريكية ونُشرت في صحافتنا نقرأها مراراً وتكراراً، أمريكا تقول بكل وضوح أنها تريد أن تدخل إلى المنطقة العربية والاسلامية من خلال الإثارات المذهبية والفتن الطائفية، وإذ بنا نسمع البعض يُثير هذه النغمة تحت عناوين نصرة المذهب أو نصرة الدين، فأي نصرة للمذهب تجعل الطائفة والمذاهب والبلد بيد أمريكا وإسرائيل، نصرة الدين إنما تكون بتحرير القدس وطرد أمريكا من منطقتنا، وتكون بأن نمدّ أيدينا إلى بعضنا البعض لنرفع الجوع والحرمان والمعاناة والمآسي لنبني وطننا بناءً نستفيد منه جميعاً، ونحرِّره من كل غاصب ومن كل وصيّ، هذا هو الحل، والذي يريد بوصلة تلعن المذهبية عليه أن يواجه المشروع الأمريكي الاسرائيلي، ومن كان يفكر بمذهبة أدائه هو حتماً في اتجاه المشروع الاسرائيلي، كان قاصداً لذلك أو غير قاصد، ففي النهاية لا فرق بين الجاهل والعالم إلا بمستوى الجرم، لكن تحت عنوان الجهل نؤدي خدمة لأمريكا وإسرائيل من خلال إثارات مذهبية ونقاشات لا تسمن ولا تغي من جوع، واتهامات ليس لها نهاية، من هو الذي سيتفيد من هذا؟ نستطيع نحن أن نعالج شؤوننا في ما بيننا، ونستطيع أن نتحدث عن كل شيء فيما بيننا، أما مع الناس فعلينا أن نحدِّثهم عن القلب الواحد والبلد الواحد والمقاومة الواحدة والعدو الواحد حتى ننجح، وبغير ذلك لا يمكن أن ننجح.

نحن مقبلون على طاولة الحوار، وأصبحت محلّ كلام عند الجميع، لكن كلٌّ يقارب الحوار على طريقته. إذا أردنا أن ينجح الحوار وبسرعة وبدون كثرة جلسات، هناك ثلاث قواعد إذا كانت موجودة في داخل الحوار لا نحتاج لأكثر من جلستين أو ثلاث جلسات: القاعدة الأولى أن يكون المجتمعون متفقين أن لديهم عدواً واحداً هو إسرائيل، ثانياً أن يكونوا مقتنعين ببناء الدولة القادرة العادلة المتوازنة القوية النظيفة التي تضع حداًّ لكل أنواع الفساد والانحراف، وتعمل لتساوي بين المواطنين وتهتمّ بالبناء الاجتماعي الاقتصادي من موقع الاقتدار والمساواة بين المواطنين، ثالثاً أن يكون الهدف توفير المقومات اللازمة لتحرير الأرض وتأمين الدفاع عن لبنان من خلال الاستراتيجية الدفاعية، فإذا كانت هذه القواعد الثلاثة موجودة أنا أعتقد أن جلسات الحوار تُثمر بسرعة، وإذا كانت واحدة من هذه القواعد غير موجودة سيأخذ الحوار جلسات وجلسات لأن البعض سيتكلم في الشرق والبعض الآخر في الغرب، وسيسرح الخيَّال بينهما وعندها ستكون المطاعم مشغولة بمآدب جلسات الحوار. نحن واضحون وما نريده نقوله ولا نقول ابن عمّ الكلام، نقول بأننا نريد المقاومة للدفاع عن لبنان فنسمع البعض يقول نريد سلاح الدولة ولا نريد غيره، قولوا بالصريح أنكم لا تريدون سلاح المقاومة حتى لو أدى ذلك إلى دخول إسرائيل إلى لبنان، وأنتم تعلمون أن سلاح الدولة لا يستطيع أن يقاوم إسرائيل، إذاً تعالوا إلى حلٍّ تجعل الدولة قادرة بسلاحها لتقاوم إسرائيل، عندها قولوا لنا ماذا تفعلون؟ فتملكون الجواب الذي تريديونه، ونحن حاضرون للموافقة على أي استراتيجية دفاعية تؤدي إلى مواجهة الاحتلال كائناً من كان من يواجهها، نحن نبحث عن وظيفة مواجهة الاحتلال ولا نبحث عمّن يحمل السلاح، نريد السلاح لطرد المحتل ولا نريده لنتواجد في الداخل، لأننا في الداخل يكفينا ما عندنا من شعبية وحب ومن جماهير ومن تأييد، تتغلّب في صناديق الاقتراع، فلسنا بحاجة للسلاح على صناديق الاقتراع، نحن بحاجة لنحمي صناديق الاقتراع من اسرائيل ومن خفافيش الليل، هؤلاء الذين يستحقون المواجهة أما صناديق الاقتراع فهي في قلوب أهلنا وأحبتنا وهي مملوءة منذ اليوم وسننجح منذ اليوم بإذن الله تعالى.

وهنا لا بدّ أن نحسم الجدل حول المقاومة والدولة، لم تكن المقاومة يوماً عائقاً أمام الدولة، بل كانت سنداً دائماً لها، لأن لبنان المحرّر في سنة 2000 هو الذي بدأ الحركة الإعمارية في إطار طرد إسرائيل، أما قبل سنة 2000 كنا نعاني من إمكانية الإعمار في الداخل بسبب وجود إسرائيل على ما يقارب 10 بالمئة من الأرض اللبنانية فضلاً عن التهديد المتواصل، وهنا الدولة إنما فشلت في السابق لا لأنه يوجد مقاومة، فالمقاومة هيّأت لها كل الظروف المناسبة لتعمل كدولة، لكن الدولة فشلت لأن رعاتها لم ينصفوها بشكل جيد، فوقعت في دائرة المحاصصة والرشاوى والفساد واستغلال الدولة لمصلحة الطوائف والمذاهب وتقسيم الحصص، وعملت بعض الأجهزة على إيجاد بؤر أمنية، علّها من خلال هذه البؤر تتمكن من الضغط من أجل تغيير المعادلات الشعبية كي تكسب السيطرة على البلد، كل التفكير كان تفكير مالي سياسي أمني، ولم يكن التفكير من أجل الإعمار والبناء، وعلى كل حال هذه النتائج هي التي تدلّ فإنما الأعمال بخواتيمها، واحد يقول أنه أمضى عشرين عاماً يعمِّر لبنان، أين عمّرت؟ من عمّر فليرينا أين عمّر وماذا عمّر؟ المشكلة في ضعف الدولة من رعاة الدولة وليس من المقاومة، وأنا أقول لكم بكل وضوح: لا توجد معادلة إسمها الدولة في مقابل المقاومة أو المقاومة في مقابل الدولة، كما لا توجد معادلة اسمها الدولة والمقاومة، ونحن نرفض هذه المعادلة، إنما يوجد معادلة واحدة اسمها الدولة التي تحتضن المقاومة من داخلها ومن ضمنها، ليكون الوطن سيداً حراًّ مستقلاًّ، وكل الآخرين خدم لمصلحة هذا الوطن، ليحرِّروه ويبنوه معاً وبأيدٍ مجتمعة. هذا ما نريده وهذا ما نعمل له، أما أن يأتي البعض ويقبل لبنان كيفما كان، فإذا كان أحدهم مأنوساً بالاحتلال فليتفضل ويذهب إليهم لأننا لسنا مأنوسين بالاحتلال، وإذا كان أحدهم معجباً بأداء أمريكا في الشرق الأوسط فليلتحق بالادارة الامريكية توجيهاً وتنظيماً ومالياً أيضاً، أما نحن نريد لبنان القوي لأن لبنان الضعيف دون مقاومة هو أولاً مكسر عصا لاسرائيل، ومرتعاً للوصاية الأمريكية، وملهىً للمخابرات الدولية، ونحن لا نريده لا مكسر عصا ولا مرتعاً ولا ملهىً، نريده لبنان العزيز الذي يقف شامخاً أمام العالم، يعلِّم الدروس ويعلِّم المقاومة ويتباهى بأنه حرَّر أرضه من اسرائيل الجاثمة على منطقتنا لستين سنة، ويقول للعالم أن شباب لبنان هم أعظم شباب قاوموا وقاتلوا وواجهوا، وأن نساء لبنان حموا وطنهم بموقفهم. تعالوا لنقف وقفة متراصة في مواجهة المشروع الامريكي الاسرائيلي، لنعطي تجربة للعالم: كيف يكون لبنان حراًّ؟ حتى نبنيه على قاعدة الحرية لا على قاعدة الوصاية.