مقالة افتتاحية مجلة بقية الله- العدد199.
أراد الله تعالى للإسلام أن يعلو وينتصر، فحفظ لنا القرآن الكريم من التحريف:"إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ "، ومكَّن محمداً(ص) أن يقيم دولة الإسلام في شبه الجزيرة العربية في أهم بقعة جغرافية استراتيجية وسط شعب أجلف صعب، ووعدنا بأن يقيم الإمام المهدي(عج) دولة العدل الإلهية على الأرض. وما بين إقامة دولة الإسلام الأولى على يد محمد(ص) وإقامة الدولة العالمية على يد القائم(عج) تحصل انتكاسات وصعوبات تُبعد الإسلام عن مسرح الحياة، وينحرف الكثير من أتباعه عن جادة الحق، وتفسره بعض الفرق بما لا يتلاءم مع أصل التشريع، وتكثر الاجتهادات التي لا يصيب بعضها ما أراده الله ورسوله منها، وهذا جزء من الابتلاء للأمة، يأتي الفرج من بعده في آخر الزمان.
قال رسول الله(ص):"إنَّ الإسلام بدأ غريباً، وسيعودُ غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء"(1)، هذا تصريحٌ واضح من خاتم الأنبياء(ص) بأنَّ الإسلام الذي شقَّ طريقه في الجاهلية، وكان غريباً عنها، سيصبح غريباً من جديد، فهنيئاً لمن يحملونه ويعيشون الغربة معه، لأنهم الذخيرة التي تُراكم التهيئة لانتصار الإسلام في المستقبل، ذلك أن الحال سيتغير وسيرجع الحق إلى أهله، كما نقل الإمام الرضا(ع) عن رسول الله(ص):"إنَّ الإسلام بدأ غريباً، وسيعود غريباً، فطوبى للغرباء.
قيل: يا رسول الله، ثم يكون ماذا؟
قال(ص): ثم يرجع الحق إلى أهله"(2).
لكن عودة الدين ستكون صافيةً نقيةً مما علق بها من أخطاء وإساءات، وسنكون مع الإمام المهدي(عج) كأنَّنا مع رسول الله(ص)، نأخذ من النبع الصافي، ونتعرف على تفسير الرسالة الإسلامية بشكل صحيح، فلا ظنٌّ، ولا احتياط، ولا تردد، بل أحكام شرعية قطعية يدلنا عليها المعصوم الذي لا يخطئ ولا ينسى ولا يسهو. وبما أنَّنا في زمن الغيبة، فإنَّ مراجعنا العظام أعلى الله مقامهم في الدنيا والآخرة، قد بذلوا غاية جهدهم لتقديم الأحكام الشرعية للمكلفين بطريقة ميسرة، لكنَّهم وقفوا عند بعض الروايات والأحكام فاحتاطوا فيها لعدم ثبوت الحسم فيها، وربما لم يساعدهم اجتهادهم في أحكام أخرى، ومع أننا كمكلفين مبرئي الذمة عند الله تعالى عندما نقلِّد المجتهد لنتعرف على أحكام ديننا، لكنَّ الإمام المهدي(عج) سيطلعنا على الأحكام الشرعية القطعية والأكيدة، وهي نعمةٌ كبيرة للذين عاشوا غربة الدين بغياب الإمام(عج). وقد ذكرت الروايات بأنَّ الإمام (عج) يأتي بأمرٍ جديد، والمقصود بذلك ثلاثة معانٍ:
الأول: يعيدُ ما أتى به رسول الله(ص)، بعد أن تراكمت التفسيرات والالتباسات والفرق، فهو جديدٌ لتميّزه عما هو سائد ومألوف بالنسبة إلينا، لكنَّه متطابق تماماً مع ما أتى به رسول الله(ص). عن أبي جعفر(ع):"إنَّ قائمنا إذا قام، دعا الناس إلى أمرٍ جديد، كما دعا إليه رسول الله(ص)" (3). وفي رواية أخرى عن الإمام الصادق(ع) يستخدم تعبير الهدم لما هو موجود، ليقيم مكانه ما أقامه خاتم الأنبياء(ص)، وكأنه استئناف للإسلام من جديد، وقد سأله عبد الله بن عطاء المكي عن سيرة الإمام المهدي(عج) كيف تكون؟ فأجاب:"يصنع كما صنع رسول الله(ص)، يهدم ما كان قبله، كما هدم رسول الله(ص) أمر الجاهلية، ويستأنف الإسلام جديداً"(4).
الثاني: يرفع الضلالة عن الأئمة، كائناً ما كان سببها ومصدرها، فقد سُمي مهدياً لأنَّه يهدي من الضلال، وهو يطبق هذا الأمر في حياة الناس، ويستخدم سلطته وقوته دفاعاً عن الحق، ويستخدم سيفه ليغيِّر الواقع في مواجهة الكفر والانحراف، فالمهدي(عج) يُبيِّن طريق الإسلام المستقيم، ويثبِّته بالدفاع عنه بما يمتلك من قوة مع أنصاره وأعوانه.
فعن أبي عبد الله (ع):"إذا قام القائم، دعا الناس إلى الإسلام جديداً، وهداهم إلى أمرٍ قد دُثر، فَضَلَّ عنه الجمهور، وإنَّما سُمي القائم مهدياً، لأنَّه يهدي إلى أمرٍ قد ضلوا عنه، وسُمي بالقائم لقيامه بالحق"(5).
وعنه أيضاً سُئل عن القائم(عج) قال:"كلُّنا قائمٌ بأمرِ الله، واحدٌ بعد واحد، حتى يجيء صاحب السيف، فإذا جاء صاحب السيف، جاء بأمرٍ غير الذي كان،"(6)، إذ أنَّه يحمي هذا الدين في حياة الناس بحضوره وقوته فضلاً عن علمه ومعرفته.
الثالث: يعمل بكتاب الله تعالى وسنة رسوله(ص)، فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وينشر العدل في الأرض، ويواجه الظلم والظالمين، فهو الكتاب الناطق الذي يعيد للإسلام مكانته بعد غربة، ويعيدُ الناس إلى الدين في دولتهم ونظام حياتهم ومعاملاتهم ، فيظهر على ما عداه وعاداه، ويرتاح المؤمنون بين العباد وفي البلاد. فعن أبي بصير، أنَّه أتى رجلٌ إلى الإمام الكاظم(ع) فقال له: إنكم أهلُ بيت ِرحمةٍ اختصَّكم الله تبارك وتعالى بها. فقال(ع) له:"كذلك نحن، والحمد لله، لا نُدخل أحداً في ضلالة، ولا نُخرجه من هدى، إنَّ الدنيا لا تذهبُ حتى يبعث الله عزَّ وجل رجلاً منَّا أهل البيت، يعمل بكتاب الله ، لا يرى فيكم منكراً إلاَّ أنكره"(7).
وعن أبي جعفر(ع):"فإنَّما سُمي المهدي لأنَّه يهدي لأمرٍ خفي، يستخرج التوراة وسائر كتب الله من غارٍ بإنطاكية، فيحكم أهل التوراة بالتوراة، وبين أهل الإنجيل بالإنجيل، وبين أهل الزبور بالزبور، وبين أهل الفرقان بالفرقان، وتُجمع إليه أموال الدنيا كلها، ما في بطن الأرض وظهرها، فيقول الناس تعالوا إلى ما قطعتم فيه الأرحام، وسفكتم فيه الدماء، وركبتم فيه محارم الله، فيُعطي شيئاً لم يُعطَ أحداً كان قبله. وقال رسول الله(ص): هو رجلٌ مني، اسمه كإسمي، يحفظني الله فيه، ويعمل بسنتي، يملأ الأرض قسطاً وعداً ونوراً، بعدما تمتلئ ظلماً وجوراً وسوءاً"(8).
الهوامش:
1- الشيخ الصدوق، كمال الدين، ص: 201.
2- الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا(ع)، ج1، ص: 218.
3- النعماني، كتاب الغيبة، ص: 336.
4- المصدر نفسه.
5- الشيخ المفيد، الارشاد، ج2، ص: 383.
6- الشيخ الكليني، الكافي، ج1، ص: 536.
7- المصدر نفسه، ج8، ص: 396.
8- الشيخ الصدوق، علل الشرائع، ج1، ص: 161.