اعتاد الناس على الأعمار العادية للبشر، والتي لا تتجاوز المائة عام إلاَّ ما شذَّ وندر، وهذا ما عليه الحال في القرون الأخيرة، وإنْ ورد في التاريخ أعمارٌ طويلة في زمن سيدنا آدم(ع) وزمن نوح(ع) وغيرهما ممَّن عمر مئات السنين كأفراد أو أقوام،.
باسمه تعالى
مقالة افتتاحية مجلة بقية الله-العدد 158/ شهر تشرين ثاني
حكمة العمر المديد للإمام المهدي(عج)
اعتاد الناس على الأعمار العادية للبشر، والتي لا تتجاوز المائة عام إلاَّ ما شذَّ وندر، وهذا ما عليه الحال في القرون الأخيرة، وإنْ ورد في التاريخ أعمارٌ طويلة في زمن سيدنا آدم(ع) وزمن نوح(ع) وغيرهما ممَّن عمر مئات السنين كأفراد أو أقوام،.
وعندما يجري الحديث عن طول عمر إمامنا المهدي محمد بن الحسن(عجل الله تعالى فرجه الشريف) الذي بلغ من العمر في الخامس عشر من شعبان لهذا العام 1170 سنة هجرية (الفرق بين عام 1425هـ الحالي وعام ولادته الشريفة 255هـ)، ينبري البعض لمناقشة هذا الاحتمال من الناحية الجسدية، وما إذا كان الإنسان قادراً على هذه الحياة الطويلة رغم عوامل الفناء الكثيرة التي تحيط به! خلافاً لما جرى عليه الواقع بشكل عام. لكنَّهم لا يلتفتون إلى أمرين:
الأول: حصول حالات بشرية طويلة العمر، كما هي حالة النبي نوح(ع) التي حدثنا عنها القرآن الكريم:" وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَ خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ"(1)، وهذه المدة(950 سنة) مختصة بفترة دعوته لقومه وإلاَّ فمجموع عمره يصل إلى حوالي الألف وخمسمائة سنة على بعض الروايات، وحالة أصحاب الكهف 309 سنوات في الكهف عدا عن عمرهم العادي الذي يضاف إليها، قال تعالى:"وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاَثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً"(2).
الثاني: إرادة الله تعالى في أن يفعل ما يشاء، ويخلق كما يشاء، فهو الذي خلق آدم(ع) من تراب، وعيسى(ع) من غير أب،"إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ"(3)، فالنتيجة " إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ"(4)، ولا مانع أبداً في عالم الإمكان، وقد أكَّدت بقاءه حياً الروايات الكثيرة المنقولة إلينا، ومنها عن الإمام زين العابدين(ع):"في القائم منَّا سنن من الأنبياء: سنَّة من نوح(ع)، وسنَّة من إبراهيم(ع)، وسنَّة من موسى(ع)، وسنَّة من عيسى(ع)، وسنَّة من أيوب، وسنَّة من محمد(ص). فأمَّا نوح(ع) فطول العمر، وأمَّا من إبراهيم(ع) فخفاء الولادة واعتزال النَّاس، وأمَّا من موسى(ع) فالخوف والغيبة، وأمَّا من عيسى(ع) فاختلاف النَّاس فيه، وأمَّا من أيوب(ع) فالفرج بعد البلوى، وأمَّا من محمد(ص) فالخروج بالسيف"(5).
فطول عمر الإمام المهدي(عج) أمرٌ إعجازي أراده الله تعالى لحكمة ارتآها، ولعلَّ بعض ما يمكن أن نتلمَّسه من هذه الحكمة أموراً عدة منها:
1- إن حضور الإمام الدائم بيننا في غيبته الكبرى عن أنظارنا وتواصله المباشر معنا، يجعلنا نعيش حالة الارتباط بإمام حاضر، ويفسح في المجال لصلةٍ حيوية به، فقد يكون حاضراً في مجلسنا، أو معركتنا، أو مواقفنا، أو رعاية شؤوننا، وهذا ما يكسبنا نوع علاقة لا تتوفر في حال انتظار إمام غير حي، ويضعنا في حالة نفسية ومعنوية مترقبة لتأييده وتسديده طالما أنَّه حاضر غائب يواكب ما نحن عليه، ونتأمل أن يكون معنا وبيننا في قضايانا المختلفة.
2- استيعاب الحياة البشرية للوجود الدائم للمعصوم، كي لا تخلو الأرض من حجة، فمن كلام لأمير المؤمنين علي(ع) لكميل بن زياد(رض) قال:"لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة، إمَّا ظاهراً مشهوراً، أو خائفاً مغموراً، لئلا تبطل حجج الله وبيناته"(6). وهذا ما يغطي وجود القيادة المعصومة على إمتداد حياة الناس، لربطهم بها، وانقاذهم من الضياع، وتحميلهم مسؤولية حسم مسارهم وخيارهم في أن يكونوا مع القيادة الحقة التي ترشدهم إلى طريق الهدى.
3- الجهوزية الدائمة لظهور الإمام(عج)، فمع حياته لا يمنع ظهوره إلاَّ عدم اكتمال الظروف التي تهيئ لهذا الظهور، ومتى علمنا أنَّه موجود ينتظرنا، وينتظر فيما ينتظره أن نكمل العدة المناسبة كي نكون من أنصاره وأعوانه، فهذا ما يحفِّزنا للعمل الدؤوب من أجل تهيئة الثلة المؤمنة المجاهدة التي تسير في ركبه وتكون من جنده. فعندما يشتد فيه الفساد والطغيان في زمنٍ ما، وتلهج الثلة المؤمنة بظهوره، وتعمل لتكون من أنصاره، يكون احتمال الظهور قائماً، ما يجعل الأمل كبيراً في أن يحصل الأمر في زماننا، وهذا ما يشحذ هممنا ويزيدنا قوة وعزيمة لعمل نتوقع نتائجه في حياتنا.
4- إبطال دعوى المدَّعين للمهدوية بأبسط الأدلة، فالإمام مولود وحاضر، وهو من أولاد الإمام الحسين(ع)، انه محمد بن الحسن العسكري(عج)، ولا يستطيع المخادعون أو المزوِّرون التدليس على الناس بتركيب معطيات توهم بكون فلان المولود هو الإمام، فللإمام صفات واضحة ودليله معه، ولا يستقر أي تزوير بسبب سهولة انكشافه.
نحن مسؤولون في الاستفادة من مبايعة صاحب الزمان الحي الحاضر المنتظر، ومن التهيئة لنكون مستعدين لإمرته وقيادته، وأن نعيش حياته بكل أبعادها، لنفوز بخيرات الارتباط بالإمام الحاضر الغائب(عجل الله فرجه الشريف).
نعيم قاسم
* * * * * * * * * * * *
الهوامش:
(1) سورة العنبكوت، الآية: 14.
(2) سورة الكهف، الآية: 25.
(3) سورة آل عمران، الآية: 59.
(4) سورة يس، الآية: 82.
(5) كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق- ص322.
(6) نهج البلاغة- من حكم الأمير(ع)ومواعظه-الرقم147.