مقالات

أخلاقية المسلم عند المواجهة

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف الخلق مولانا وحبيبنا وقائدنا أبي القاسم محمد(ص) وعلى آله الطيبين الطاهرين. السلام عليكم أيها السادة العلماء أيها الحضور الكريم ورحمة الله وبركاته.

23/2/2004
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف الخلق مولانا وحبيبنا وقائدنا أبي القاسم محمد(ص) وعلى آله الطيبين الطاهرين. السلام عليكم أيها السادة العلماء أيها الحضور الكريم ورحمة الله وبركاته.

عظم الله أجورنا وأجوركم بالمصاب الجلل بشهادة سيد الشهداء الإمام الحسين(ع) وخيرة أهل بيته وأصحابه، وجعلنا من أنصاره وأعوانه في صف مسيرة الإسلام المحمدي الأصيل، ونسأله تعالى ان يوفقنا للمحافظة على خط الهداية بقيادة إمام الأمة وقائدها الإمام الخامنئي(حفظه الله تعالى ورعاه) على نهج المعز لدين الله والمحيي لنهج الحسين وعلي وفاطمة(عم) الإمام الخميني(قده)، لنتوفق لحمل الراية مع إمامنا المهدي(عج)، والسلام على الشهداء الأبرار الذين عمَّدوا هذه المسيرة بدم العطاء بالتضحية والفداء، ليوصلوها إلينا نقية صافية تُعبِّر عن المضمون الحقيقي الذي أراده الله تعالى لنا على هذه الأرض.‏

سنتحدث في هذا اللقاء عن أخلاقية المسلم في الحياة، سواء أكان في حالة عادية في حياته اليومية، أو كان في مآزق يمر بها في المعركة أو الحرب أو الفتن أو المشاكل التي يمكن أن نواجهها، لنرسم صورة ما تعلَّمناه من الإسلام، وكيفية تجسيد هذه الخلقية وعن آثارها، مروراً بما قام به الإمام الحسين(ع) في بعض السلوك في كربلاء وما رافقها، لتتكون لدينا نظرة واضحة عن كيفية التعامل في كل الأحوال، وقد جسَّد هذه الخلقية رسول الله(ص) عندما وصل إلى المرتبة العليا التي عبَّر عنها رب العالمين في كتابه العزيز"وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ"، لا يوجد وصف أبلغ من هذا الوصف، ولا يوجد مقام أعلى من هذا المقام، وهو على خلق عظيم، لا ليحتفظ بهذا الخلق بل ليكون قدوة للأمة بأسرها لتحمل الأخلاق في حياتها" لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ"، والأسوة تستدعي أن نتبع خطوات الرسول(ص) وأن نعمل بمساره وأن نقلد سلوكه وأن نتعلم من أفعاله، كيف تمكَّن من تجسيد صورة المسلم الحق الذي يعمل من أجل الإسلام؟ وقد قال تعالى عن المؤمنين الذين يعملون في سبيل الدعوة إلى الله تعالى" وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ" وفي آية أخرى" ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ"كنموذج من نماذج الأخلاق الإسلامية في التعاطي مع الناس ومواكبة حياتهم لنجدد تجربة الإسلام الأصيل كما فرضه الله تعالى في حياتنا.‏

قال رسول الله(ص):" المسلم للمسلم حرام دمه وماله وعرضه" لاحظوا في هذه الرواية تحدثت عن المسلم بشكل عام، أي كل من نطق بالشهادتين بصرف النظر عن التزامه الدقيق او عدم التزامه، بصرف النظر عن انحرافه وفساده في بعض المجالات وصلاحه في مجالات أخرى،فبمجرد تلبسه بالإسلام يصبح ماله حرام ودمه حرام وعرضه حرام، ويجب أن نتعاطى معه بضوابط أخلاقية تحفظ ماله ودمه وعرضه، لأنه إنسان يعيش بيننا في أمة حملت لواء الحق، وعلى المسلمين أن يتصرفوا فيما بينهم بحدود وضوابط بحيث تكون الأخلاقية هي السائدة في التعامل، وإلاَّ انحرفوا عن مسيرة الإسلام وأخطأوا في سلوكهم وممارساتهم، فمن أراد أن يكون مؤمناً صادقاً صالحاً عليه أن يجسِّد هذه الخلقية في حياته في العلاقة مع الآخرين مهما كانت الظروف والاعتبارات.‏

بل أكثر من هذا، يوصي أمير المؤمنين علي(ع) مالك الأشتر عندما أرسله ليكون والياً على مصر فيقول له:"واشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان:إمَّا أخ لك في الدين، وإمَّا نظير لك في الخلق"، فأوصاه بالتصرف الأخلاقي الرحيم مع المؤمن كأخ في الدين، ومع النظير في الخلق ومن حمل ديناً آخر كإنسان يستحق الاحترام لإنسانيته، فالحاكم المسؤول والقائد المعني والإنسان في أي موقع من المواقع يتحمل مسؤولية التصرف مع الناس بأخلاقية عالية، فلا يحق له أن يصنفهم، هذا مسلم أتصرف معه بأخلاقية وهذا غير مسلم أتصرف معه بسوء وسلبية، أو هذا مؤمن أتصرف معه بلياقة وهذا غير مؤمن يعني أن لا حرمة له عندك، هذا أمرٌ مرفوض في الفهم الإسلامي ، فالمسلم المؤمن هو الذي يتميز بصفات تنعكس على الناس جميعاً مهما كانت أهواؤهم وآراؤهم ودياناتهم وإنطباعاتهم، لأنك أيها المؤمن إنما تعبر بالسلوك عن منهج الإسلام، وعليك أن تجسد هذه الأخلاق، لا من أجل أن يراك الناس خلوقاً، بل لتحمل أعمالك في يوم القيامة فتثبت عند الله تعالى أنك كنت جديراً بأخلاقك مجسداً لتعاليم السماء في حياتك وفي علاقاتك مع الناس.‏

إن التمييز الذي يحدثه البعض أو يختاره البعض بطريقة مزاجية بحيث يتصرف بأخلاقية مع البعض وبإساءة مع البعض الآخر، ويشرِّع لنفسه أن من حقه ان يسيء للبعض ويُحسن مع البعض الآخر، هذا السلوك لا ينسجم مع خلقية الإسلام، التي يجب أن تبقى مميزة وواحدة في أحرج وأصعب اللحظات التي يعيشها الإنسان، حتى في أرض المعركة، كما حصل مع الإمام الحسين(ع) حيث جمع المياه تحسُباً لمسار لا يكون فيه ماء قبل أن يصل إلى كربلاء، فأمر بملء الجرار، وأصبح يمتلك معسكر الحسين(ع) كمية كبيرة من الماء، فما أن وصلوا إلى منطقة في الطريق عند ذي حُسُم، إذ بجيش ابن زياد بقيادة الحر الرياحي يصل إلى هذه المنطقة لمنع الإمام الحسين(ع) من الاستمرار،أو لتوجيهه-كما فعل بعد الأمر الذي أتاه- إلى كربلاء بناءً على الأمر الصادر من الخلافة الظالمة في مواجهة ركب الإمام الحسين(ع) ومن معه، والإمام يعلم أن طلائع هذا الجيش هي طلائع معادية وستسبب معركة كربلاء، إنَّها الطلائع التي ستسيء في أدائها وسترتكب مجزرة رهيبة، فهو الإمام المعصوم الذي يعرف ويدرك كل شيء وأي مصير ينتظره. جاء هؤلاء وكما تذكر الرواية أن عددهم حوالي الألف تقريباً، وكانوا عطاشى والمكان لا ماء فيه، فأمر الإمام الحسين(ع) بسقي الجند وما معهم من حيوانات(جمال،خيل..)، فشرب الجماعة من الماء المخزَّن عند معسكر الإمام الحسين(ع). ما هذه الأخلاقية العظيمة التي سلكها إمامنا(ع) في هذه اللحظة؟ إنَّه يريد أن يعبِّر عن مضمون الإسلام، فالحرب لم تقع بعد، وهؤلاء مسلمون، وهم عطاشى والماء موجود عنده، فأخلاقية المسلم الراقية أن يقدم الماء، وهذا أمرٌ قليل أمام ما رأيناه في نهاية المطاف، إذ شرب القوم وبقي واحد منهم اسمه علي بن الطعان، هذا الرجل كان في حال مزرية من العطش، فجاء إلى الماء ولم يعرف كيف يشرب، ولم يعرف ماذا يصنع ليروي جمله، فقال له الإمام(ع):أنخ الراوية. فلم يفهم عليه.‏

قال له(ع):انخ الجمل(حتى يستطيع أن يشرب الجمل).‏

ثم قال له(ع)،إخنث السقاء(أمِلْهُ حتى تستطيع ان تشرب) فلم يتصرف بشكل جيد، فجاء الإمام الحسين(ع) وأَمَالَ له السقاء حتى يشرب ويرتوي فارتوى بيد الإمام الحسين(ع).‏

ما هذه الأخلاقية العالية التي تصرف بها الإمام في لحظة حرجة! وفي معركة يُقدر لها أن تقع بعد أيام! لأن الطريق إلى كربلاء ولأن القوم مصممون على مواجهة الإمام أو أن ينزل على حكم يزيد، وهو لن ينزل على حكم يزيد"هيهات منّا الذلة"، هذا أمرٌ مرفوض، وهذا أمرٌ لا يمكن أن يقع، والإمام قد حسم خياره، لكن فرق كبير بين الدخول في معركة مفروضة بالقتال وبين سلوك وأخلاقية يتصرف من خلالها إمامنا الحسين(ع) كتجسيد للأخلاق والتصرفات الإسلامية، وقد ذُكر في هذه الواقعة بعد أن وصل القوم إلى كربلاء وكان قد جعجع بهم الحر تنفيذاً لأمر ابن زياد ويزيد، وبالتالي أصبح واضحاً أن المعركة واقعة، أنَّ زهير بن القين (وهو من صحابة الإمام الحسين(ع) وهو صادق مؤمن) انتهز الفرصة ليقدم النصيحة من وجهة نظره للإمام الحسين(ع) طالباً أن يبدأوا قتال القوم لأنهم قلَّة، فقتال ألف أفضل من انتظار ان يأتي المدد وان يصبحوا بأعداد كبيرة وعندها تصعُب المعركة. ماذا كان جواب الإمام(ع)، قال:"ما كنت لأبدأهم بالقتال". هذا أمر لا يصدر عني لأني أريد أن انتهز كل فرصة ممكنة علَّهم يتبعونني، علَّهم يعودوا إلى رشدهم، على الأقل أن يُلقي عليهم المسؤولية أنهم هم الذين بدأوا المعركة، فالإمام كان يسعى لتفويت فرصة القيام بهذه المعركة بأقصى ما يستطيع. نصحهم، تحدث معهم وخاطبهم، حنَّن قلوبهم، عرَّفهم بيوم القيامة، عرَّفهم بنسبِهِ، صلَّى بهم، وخطب فيهم مرات عدة من أجل ان يلقي الحجة عليهم، ورفض اقتراح زهير أن يبدأهم بالقتال، لأنه لا يريد أن يسجل بأنه هو الذي افتتح المعركة، ولو كانت إمكانية تحقيق بعض المكتسبات في هذه اللحظات واردة، لكنها لا تساوي تلك الخسائر الكبرى والآثار الكبرى في أنه هو الذي بدأ المعركة، على الأقل هذا ما سيسجله التاريخ، وهذا ما سيدوَّن، أنَّه كان بالإمكان تفويت الفرصة بحدوث المعركة لكن الإمام قد بدأ. أراد الإمام(ع) أن لا يبدأ المعركة لإعطاء الدرس الحقيقي، في محاولة المؤمن الحق أن يفوِّت أي فرصة ممكنة من أن ينجر إلى معركة القتال بين المسلمين، لكن القوم بعد ذلك هم الذين بدأوا. وتعرفون من السيرة ما قاله عمر ابن سعد(لعنه الله): اشهدوا لي عند الأمير أني أول من رمى بسهمه"، وهذا دليل على اختلاف العقلية والأداء والروحية، الإمام الحسين يتجنب بدء المعركة حقناً لدماء المسلمين، بينما عمر بن سعد يتباهى ببدء المعركة لأنه منحرف عن خط الإسلام وعن خط الرسالة، هذان نموذجان مختلفان تماماً، ونحن مع معسكر الحسين(ع) نقف بأداء نرفض معه أن ننجر إلى معركة جانبية مخطئة مهما كانت، هذا الخلق الذي نتمثله في حياتنا هو الذي يؤسس لبناء الإسلام، وهو الذي يرقى عبر التاريخ، ألا تذكرون كيف تصرف رسول الله(ص) عندما أصبح مقتدراً، فدخل إلى مكة فاتحاً وكان القوم يتوقعون أن يقتل منهم ويسجن منهم ويشردهم في البلاد، فقال لهم:"اذهبوا فأنتم الطلقاء"، فأثبت بأدائه(ص) أنه ملكَ القلوب والعقول عندما لم ينتقم لنفسه قربة إلى الله ليثبت مسيرة الإسلام بين الأمة.‏

هذه الخلقية ترفع الإسلام وتقوي من مقامه، تجعله في الموقع المؤثر وفي معادلة العز بين الناس، ربما يعيش البعض حالة سطحية في التفكير فيقول بأن هذه الأخلاق لا تنفع في زماننا، أعطيكم تجربة رأيتموها بأم العين عندما حررت المقاومة الإسلامية جنوب لبنان والبقاع الغربي من العدو الإسرائيلي، فإنها لم تلاحق عميلاً ولم تقتل جريحاً ولم تأسر أي فرد من الأفراد على الرغم من أن الفرصة كانت متاحة لقتل المئات تحت عنوان ضرورات المعركة، لكن ضرورات الأخلاق وتعاليم الإسلام كانت أرسخ بين شبابنا المؤمن المجاهد، فلم يُعملوا في العملاء قتلاً ولا جرحاً ولم يُرهبوا الأطفال والنساء، ولم يتصرفوا إلاَّ بأخلاق أمر بها الله ورسوله(ص)، فبرز للعالم بأسره أن هؤلاء المجاهدين هم أبطال الشرف، وأبطال الأخلاق، وأبطال العزة والكرامة، ليسوا بحاجة للانتقام، وليس مسارهم أن يقتلوا الناس، إنهم يريدون تحريراً نظيفاً خالصاً لله تعالى، وهكذا كان فانتصروا انتصاراً أدهش العالم بأسره، حيث لم يُسجل لمقاومات الأرض عبر التاريخ في منطقتنا وفي غيرها أن المقاومة لم تنكِّل بأعدائها، وأنها تركتهم ليموتوا بغيظهم، فهي ليست بحاجة لبعض دماء تسقط من دون فائدة، كسباً للأجر وقربة إلى الله تعالى وتعبيراً عن المقام الرفيع عندما يرتبط الإنسان بالله تعالى، فيعفو عند المقدرة برُقي في الأداء لا يبلغه إلاَّ من ربط قلبه بالله تعالى وبرسوله وبالأئمة أهل البيت(ع).‏

هذه التجربة ماثلة أمامنا، وهذه الخلقية العظيمة نتصرف من خلالها بتعبير عن ديننا وعن قناعتنا، فهل خسرنا بهذا التصرف؟ لا، لقد ربحنا كثيراً، ربحنا أكثر بكثير مما يمكن أن نربح لو قتلنا بعض العملاء، ربحنا معنويات ستبقى عبر الأجيال، ربحنا تجربة أسست لمدرسة معاصرة في الأخلاق، ربحنا معنويات أن لا نكون مثل الآخرين في تصرفاتهم وفي عداواتهم وفي أعمالهم المنكرة، هذا شرفٌ لنا، هذا ربحٌ حقيقي في الدنيا بين الناس وربح في الآخرة عند الله، ربح في الدنيا بيننا وبين أنفسنا لنشعر برُقي ما تربينا عليه وما تعلَّمناه، فنشعر بالإعتزاز أننا لم نُسقط أنفسنا بسلوكٍ لا قيمة له ولا فائدة منه، فآثرنا أن لا ننتقم لأنفسنا قربة لله تعالى، وهذا أعلى وأعظم وأشرف في الأرض وفي السماء من الانتقام الذي يذهب هدراً ولا تكون له قيمة لا في الأرض ولا في السماء.‏

إذاً بإمكاننا أن نطبق أخلاق الإسلام، بإمكاننا في أحلك الظروف أن نتصرف بهذا الشكل، طالَبَنا الكثيرون وقالوا لماذا لم تواجهوا العملاء في طريقة محاكمتهم؟ وقلنا مراراً بأن طريقة محاكمة العملاء في الدولة اللبنانية لم تكن منصفة وعادلة، لكن لن ندخل إلى هذه المهاترة، ولن نكون جزءاً من إثارة موضوع سرعان ما سيتحول إلى موضوع طائفي ويضيِّع علينا الأهداف الكبرى، نحن حاضرون أن نكون أكثر أخلاقاً من كثيرين من أولئك الذين يحولون الأمور إلى عناوين غير حقيقية، سواء بعنوان طائفي أو غير طائفي، لننصرف إلى المهمات الأعلى والأكبر، كي لا نتلهى ببعض القشور، وهذه من أخلاقيات الإسلام التي تربينا عليها.‏

هذه الأخلاقية جعلتنا كباراً وجعلت المقاومة محل احترام، هل تعتقدون أن هذا الاحترام الموجود عند الطوائف والأحزاب في لبنان وفي العالم بين الدول والمنظمات، حتى عند أعدائنا فهم يقرون بأخلاقية مقاومتنا، هل حصلنا على هذا من دون تطبيق الأخلاق الإسلامية التي علَّمنا إياها رسول الله(ص) وأئمة أهل البيت(عم) في كل الظروف وفي كل الوقائع! إذاً هذه الأخلاقية شرفٌ لنا وخيرٌ لنا وضرورة في حياتنا.‏

عند محاولة نقل الخلافة إلى الخليفة الثالث عثمان بن عفان، كان بعض القوم يريدون مواجهة الحدث بأساليب مختلفة وكان هناك آراء راغبة بالمواجهة، طلبوا ذلك من أمير المؤمنين علي(ع)، الذي أعلن موقفاً سُجِل في التاريخ وهو موجود في نهج البلاغة كتعبير مباشر عن وجهة النظر التي تجسِّد المضمون الإسلامي الذي يجب أن يكون حاكماً ومؤثراً وأساسياً بشكل مباشر، قال:"والله لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن جور إلاَّ عليَّ خاصة التماساً لأجر ذلك وفضله، وزهداً بما تقاسمتموه من زخرفه وزبرجه"، أنا لن أسأل عن تلك الأمور التي تبحثون عنها في الدنيا، لن أنظر إلى تلك المكتسبات التي تسعون إليها، ما أريده كسب الأجر والفضل من الله تعالى، لا أريد الإنجرار إلى ما هي عليه الدنيا، فهذه أخطاء ينصرف إليها الكثيرون ويقعون فيها، هذا النموذج من نماذج الخلقية الإسلامية في التعامل مع الناس ومع الوقائع. ما الذي يهمنا؟ يهمنا أن يبقى الإسلام، فإذا كان بقاء الإسلام بصبرنا وتضحيتنا، إذا كان بقاء الإسلام وقوة المسلمين بتنازلنا عن بعض الأمور، إذا كان التعبير الأخلاقي يوصلنا إلى تحقيق الأهداف، إذاً لماذا نلجأ إلى الأساليب التي يلجأ إليها الآخرون؟‏

عندما نحمل الخلقية العالية في التصرف سنؤثر ونغيِّر في الناس، اسمعوا ما يقوله جلَّ وعلا:" وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ".هذا توجيه إلهي لأخلاقية تغيِّر الآخرين وتؤثر فيهم وتجعلهم يعيشون إعادة الحسابات، تجعلهم يعيشون الآلام، لأنك تتفضَّل عليهم بأخلاقك وتتفضَّل عليهم بتربيتك الصالحة وبأدائك الذي يُسقط ما في أيديهم، وإذا كنت كذلك، تستطيع أن تكون معبِّراً عن المضمون الحقيقي للإسلام مهما كانت الصعوبات والعقبات.‏

نحن لا نضاهي الآخرين بماديتهم ومكتسباتهم وأرضيتهم بل نضاهي الآخرين بما علَّمنا إياه الله جل وعلا وربَّانا عليه الرسول والأئمة(ع)، هذه هي قوتنا وهذه هي مواجهتنا مع الآخرين. يواجهوننا بالرذيلة فنواجههم بالفضيلة، يواجهوننا بالكذب فنواجههم بالصدق، يواجهوننا بقلة الأخلاق فنواجههم بدماثة الأخلاق، يواجهوننا بالانتقام فنواجههم بالعفو، هذه هي التصرفات التي نتصرفها.‏

اليوم تقول الصحافة الإسرائيلية أننا نصدق أمين عام حزب الله فيما يقوله لأنه لا يكذب على الناس، ولأنه جدي وصادق فيما يقول، ولا نصدق جماعتنا عندما يتحدثون، هذه النتيجة أتت من السلوك والممارسة اليومية ومن الخلقية التي نتميز بها. كل الناس اليوم في لبنان يقولون لنا تعالوا ادخلوا إلى الميدان السياسي الداخلي، لماذا؟ لأنهم يضجون من الفساد والانحراف والسرقات، ويعتبرون أن مشاركتنا مع الاستقامة والاخلاص والصدق والأمانة والعون للآخرين يمكن ان تؤثر في المعادلة الداخلية، فنخفف من سلبياتها ونتجه بالناس نحو الأفضل. نحن نقدِّر هذا الاهتمام من الناس، ونقدِّر هذه الدعوة الصادقة، ونحن نحاول بكل جهدنا أن نكون عند آمال الناس، لكن العقبات والصعوبات لها علاقة بتركيبة النظام ولها علاقة بالمآزق الموجودة في طريقة إدارة البلد، والتي تعتبر أصعب بكثير من إمكانية تعديلها وتغييرها بسهولة او بفترة زمنية قصيرة كما يرغب البعض، لكن في المقابل هذه السمعة هي سمعة طيبة نتجت عن هذا الأداء. انظروا إلى المجاهدين الذين قاوموا الاحتلال الإسرائيلي، انظروا إلى مكانتهم، وأنتم في مدينة الشهداء تعرفونهم وتعرفون أخلاقهم وسلوكهم وتضحياتهم وأنهم أنوار إلهية على الأرض من خلال تصرفاتهم وأدائهم، فهم أقوياء في المعركة لا يقف أحد أمام قوتهم وبطشهم وصلابتهم وشدة قتلهم للأعداء، لكنهم ساجدون عابدون لله تعالى يتميزون بالأخلاق العظيمة بين الناس قربة إلى الله تعالى منفذين لتعاليم السماء في علاقتهم مع البشر.‏

إذاً نحن مدعوون إلى أن نتربى على اخلاقية السلام وأخلاقية الحرب، أخلاقية العلاقة مع المؤمنين وأخلاقية العلاقة مع باقي الناس، يجب أن تكون أخلاقيتنا حاضرة بارزة مؤثرة لا تتغير مع تغير الظروف لنقدم إضاءات الإسلام في العلاقة مع الناس ولنعبر عن إيماننا الحقيقي بالسلوك والتجربة.‏

دعونا نعلِّم بسلوكنا وأدائنا وأخلاقنا وهذه مسؤولية، وقد رأيناها عند الإمام الحسين في أحلك الظروف في داخل المعركة، رأيناها عندما خطب خطبته الأولى في كربلاء وقال:" أيها الناس إذا كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم إلى مأمني من الأرض"وكان لا يزال يتصرف معهم على أساس إعطائهم الفرصة كي لا يتورطوا بهذه المعركة، هذه أخلاقية عظيمة موجودة عند الإمام الحسين(ع).‏

نجاحنا اليوم بأخلاقيتنا، إمامنا الخميني(قده) سحر العالم بأخلاقه وبتصرفاته وسلوكه وكيفية أدائه، نقلوا عن الإمام عندما كان في فرنسا عندما حان اليوم الذي فيه عيد الميلاد عند المسيحيين، فحاول بعض من عنده بناء على توجيهات الإمام(قده) أن يهيء الحلوى من أجل أن يوزعها على أهل الحي، سأل الإمام(قده): ماذا يحبون في مثل هذه المناسبات.‏

قالوا:يحبون الورد.‏

قال:إذاً أعطوهم مع الحلوى الورد، فوزعوا عليهم الحلوى مع الورد كتعبير عن التعامل الأخلاقي الإنساني في ملاحظة ما يُسر الآخرين في عيدهم، لأنهم يحتفلون بميلاد السيد المسيح(ع) ومن حقهم علينا أن نكون معهم في عيدهم، ونحاول أن نبرز لهم الفرحة، وأن نهديهم وأن نعطيهم بأخلاقية راقية عالية قلَّ نظيرها إلاَّ عند من آمن بالله وآمن بخط الإسلام وعمل من أجل طاعة الله تعالى، هذه نماذج أخلاقية راقية، هكذا نربح على الآخرين، فلو جاءت الدنيا بأسرها إلينا بالحيلة والخديعة والمكر والانحراف والرذيلة لما قبلناها "زين للناس حب الشهوات"، ولن نقع في دائرة هذه الشهوات مهما كانت، لأن أخلاقنا هي التي يجب ان تكون سائدة.‏

بالمناسبة، نحن قريبون من الانتخابات البلدية، وقد خضنا هذه التجربة كحزب الله في الدورة الماضية لأول مرة وخاضها الكثير من اللبنانيين بعد حوال 35 سنة، أي أنها كانت تجربة جديدة بالإجمال على الجميع، ومع ذلك حاولنا أن نخوض هذه التجربة بأفضل الإيجابيات وأقل الخسائر الممكنة، استفدنا منها واستخلصنا الدروس والعبر، وقررنا ان نسلك طريق الانتخابات البلدية بروحية المستفيد من تجربته من ناحية، وبروحية المتطلع إلى أخلاقية التعامل مع الناس في بلداتهم المختلفة، على قاعدة أن البلديات يجب أن تكون تمثيلية للناس، وبالتالي نحن نسعى لإيجاد أعلى قدر من التفاهم والتنسيق مع كل الأطراف والعائلات والفعاليات لنصل إلى مجالس بلدية تقبل التوافق إذا استطعنا ان نصل إلى هذا المستوى، وسنحاول جهدنا أن يكون الأكفأ هو الذي يتصدر اللوائح المختلفة، فنحن نؤمن بأن في الناس خيراً وأن في العائلات خيراً، فإذا برزت كفاءة مشهود لها ويمكن أن تكون قادرة على المشاركة الفعَّالة لإغناء المجلس البلدي فسنتعاون مع هذه الكفاءة ونعتبرها لنا، لأن الأكفاء ولو لم يكونوا محازبين فهم معنا وجزء منّا، ولأن المخلصين ولو كانت لهم آراؤهم الخاصة فطالما أنهم يقدمون الخدمات الجليلة نحن معهم ونؤيدهم ولو فازوا وحدهم من دون أن تكون لهم علاقة معنا، فالمهم أن تأتي هذه المجالس ممثلة للناس ومعبرة عن التكوين الاجتماعي في كل بلدة وقرية، فإذا لم يمكن ذلك بسبب وجود بعض التنافس أو بسبب عدم قناعة بعض الأطراف او بعض العائلات بالتقييم الذي نقيمه فلتكن المنافسة منافسة شريفة، ولا نريد منها ان تكون منافسة على موقع، نحن نريدها أن تكون منافسة لخدمة الناس، فمن نافس ونجح لخدمة الناس سواء أكان معنا أو لم يكن معنا نحن نعتبره جزءاً لا يتجزأ من اختيارنا عندما يحمل الكفاءة اللازمة وعندما يعمل لمصلحة الناس، فالأصل عندنا أن تكون المجالس تمثيلية لا أن تكون مسقطة من فوق، وبالتالي لا محادل ولا اتفاقات يمكن أن تلغي حضور الناس، بل الناس في البلدات والقرى هم الأساس لتكون المجالس معبرة عن اختياراتهم.‏

نسأله تعالى أن يوفقنا لنحافظ على أخلاقنا في السراء والضراء، وأن نحيي ذكرى الإمام الحسين(ع) وذكريات الأئمة الأطهار وذكرى الرسول(ص) من موقع السلوك الذي يجدِّد رسالة الإسلام ويسعى إلى قوله تعالى: " وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ" والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.‏

*الكلمة التي ألقاها نائب الأمين العام لحزب الله سماحة الشيخ نعيم قاسم في مدينة الهرمل في اليوم الثالث من محرم الحرام لسنة 1425هـ 23/2/2004م‏