مقالات

نص الكلمة التي ألقاها نائب أمين عام حزب الله سماحة الشيخ نعيم قاسم في حفل إفطار جمعية التعليم الديني الإسلامي في قصرنبا بتاريخ 6 رمضان 1424 هـ الموافق 1 تشرين الثاني 2003 م-

رقي المنهج لرقي الإنسان

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الخلق مولانا محمد وعلى آله الطاهرين .

السلام عليكم أيها الحفل الكريم ورحمة الله وبركاته...

1 - رقي المنهج لرقي الإنسان:

تقبل الله الطاعات، وجعلكم من أهل الرحمان، ووفقنا جميعاً للقبول في هذا الشهر المبارك كي نتمكن من اجتياز الدنيا بصحائف أعمال خيرة نتمكن معها أن نجتاز الى آخرة أفضل، ونحن عندما نعيش حالة الإيمان وحالة التدين إنما نعيشها لأنها تنسجم مع فطرة الإنسان، ولأنها تسعد حياتنا ومستقبلنا، ولا نحمل هذا الدين تقليداً أعمى أو وراثة عائلية أو التزاماً طائفياً يطوقنا بتعاليمه أو يلزمنا بأطروحته، إنما نحمل الدين لأنه منهج الحياة الفضلى ولأنه يملك السعادة الدنيوية والأبدية في آن معاً، نحن لا نقبل ديناً مفروضاً أو معلباً فمثل هذا الدين هو لسجن الإنسان وتكبيله وتقييده لا لإحيائه، نحن نقبل بالدين عندما يكون محركاً للعقل والمشاعر ويحقق إرادة الإنسان الكاملة في الحياة وهذا ما ندعو إليه.

لو راقبنا جيداً حقيقة الإنسان وحقيقة تعاليم السماء لوجدناهما متناغمتين بشكل كبير، لا فرق فيهما إن أُحسن الربط بينهما. قال تعالى (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِْنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ) فلا خلق أفضل وأحسن وأجمل وأرقى من خلق الإنسان، ففيه الصفات الكمالية وفيه كل صفات الرقي وصفات بناء الحضارة وبناء السعادة في الدنيا والآخرة، فالإنسان مخلوق بمقومات راقية لا يمكن أن يصل إليها أي مخلوق، ولا يمكن أن يصنعها أي صانع، فالله تعالى هو الخالق الأوحد الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم. هذا الإنسان الذي توفرت له كل عوامل القوة والعزم والرقي والإستقلال والسعادة لا بد له من منهج يتوافق مع هذه الكفاءات التي يحملها. فلو كان المنهج متدنياً وبسيطاً لضاعت إمكانيات الإنسان في منهج لا ينسجم مع الإمكانيات التي وضعها الله تعالى في هذا الكيان البشري، تماماً كالآلات الحديثة المتطورة التي تحتاج من يتعاطى معها بكفاءاتها وإن لم تتوفر لها الكفاءة الملائمة كانت عبئاً. فالمنهج يكون عندها عبئاً على الإنسان والإمكانات الكاملة في شخصيته لا تستغل كما يجب، فيسقط المنهج ويسقط الانسان، لذا كان المنهج الإلهي هو المنهج الأرقى الذي ينسجم مع الإنسان الأرقى، فهو يتحدث بشمولية ويأخذ بجوانب الحياة كافة كي لا يكون الإنسان ضعيفاً أو عاجزاً أمام سعادته في الحياة، بل يوفر له هذا المنهج كل مقومات القوة التي تنسجم مع كفاءاته وإمكاناته، فتمتزج قوة المنهج مع قوة الخلق كي تكون إنساناً عظيماً على الأرض وعظيماً في السماء.

2 - تعاليم للحياة:

لذا لم يكن منهج الله تعالى في يوم من الأيام تعاليم عابرة أو توجيهات زائلة أو نصائح فردية بين الإنسان وربه وكأنها تعاليم سرية يقولها رب العالمين لمخلوقاته حتى لا يعرف الأخرون ما قاله الله للإنسان. لم يكن ديننا بهذا الشكل ولم تكن تعاليم السماء بهذا المضمون إنما كانت هذه التعاليم تعاليم الحياة. وتعاليم الحياة هي تعاليم المستقبل المشرق، تعاليم النهضة الإنسانية، تعاليم العزة والكرامة، تعاليم الإنقلاب على الجهل والكفر والقضاء على الانحراف والفساد لتنسجم مع طاقة الإنسان وقدرته. إذا تمعنا في جوهر شريعتنا المقدسة واطلعنا على تعاليم الإسلام التي لخصت وجمعت تعاليم السماء في الرسالات السماوية لوجدنا أنها تحاكي كل زاوية من زوايا حياة الإنسان، وتحاكي كل شأن من الشؤون الخاصة المتعلقة في بنية الإنسان لتنقله الى هذا المقام الرفيع، ولتجعل منه إمكانية عظيمة لكي يكون راقياً في الدنيا ومكافأً في الآخرة. فالخلق في أحسن تقويم ينسجم مع التوجيه في اتجاه الكمال، ولذا عند مراجعتنا لتعاليم الإسلام نجد أنها توجه الإنسان نحو مصلحته، ونحو سعادته ولا تتعرض لحرمانه من أية حاجة من حاجاته الدنيوية، بل تلطفها وتهذبها وتقومها كي يكون الإنسان مرتاحاً ومطمئناً في كيفية التعاطي معها. وكل الأوامر الإلهية هي أوامر للإنسان وليست أوامر لله تعالى، أي أن الله تعالى عندما يأمرنا لا يأمرنا لأجله إنما يأمرنا لأجلنا، وعندما يشرع لنا لا يشرع لراحته فهو مرتاح بدوننا ومعنا إنه غني عن العالمين ، لكنه يشرع لراحتنا واطمئناننا واستقامتنا ، مع ذلك فإنه من رحمته لا يلزمنا بما يشرع (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) ، وأنت الذي تدفع ثمن طاعتك لله تعالى أو انحرافك عن طاعته. فالله تعالى لا يريد لتشريعه أن يسود بالقوة إنما يريد له أن يُختار من قبل الناس بهدوء وبرودة أعصاب وتفكير وتأمل. خض تجربتك في الإنحراف والإستقامة لكن استمع الى توجيهات الله تعالى علّها تحاكي حاجاتك في لحظات التأمل فتعود الى طاعة الله تعالى بعد تركك لهذه الطاعة فترة من الزمن. من هنا نحن لا ندعو إلى تعاليم الإسلام كدعوة طائفية محصورة ومحدودة، إنما ندعو إلى تعاليم الإسلام كمنهج للحياة يناقش ويحاور، يباهل ويجادل، يتدخل في العواطف ويؤثر فيها، يواجه الكفر ويتحدّاه ويقدم الدليل ويناقشه. هذا هو المنهج الذي نؤمن به والذي يؤثر على الحياة ليحركها نحو حياة أفضل وبعد ذلك يوصلك الى آخرة أفضل. قال الله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) ، ثم يقول عز وجل (نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الآْخِرَةِ) ، أي أن الأمر لا يرتبط فقط بأن يكون التطلع نحو الآخرة على أساس المكسب والنتيجة، فهذا المكسب وهذه النتيجة هما المكافأة وليسا المطلب والهدف. إن الله تعالى عندما يطلب منك أمراً إنما يطلبه لحياتك ودنياك ولا يطلبه لآخرتك، لكن إذا نجحت في دنياك كافأك على نجاحك في الآخرة، فالذين يتوقعون أو يعتقدون أن أعمالهم من أجل الآخرة هم مخطئون لأن أعمالهم من أجل الدنيا، بينما الآخرة لا تعدو عن كونها مكافأة عن الدنيا، فمن أحسن في الدنيا كافأه الله تعالى ومن أساء فيها عاقبه على إساءته، وليست الدعوة من أجل المكافأة أو العقوبة، إنما الدعوة من أجل الإستقامة لصلاح أمر الإنسان وراحته وسعادته، فإن أحسن نال المكافأة وإن أساء أصابه العقاب الشديد.

3 - التكليف لمصلحتنا:

عندما ننظر إلى الحالة التوجيهية للإسلام على أساس الوضع الدنيوي يتغير تعاملنا مع الدين، فهناك فرق كبير بين أن نتعامل مع الدين ليبعدنا عن الحياة الى جوار الله، وبين أن نتعامل مع هذا الدين ليدخلنا في قلب الحياة بفاعلية وكفاءة لنصل الى الله من خلال فعاليتنا الدنيوية وإلا ماذا نفعل في هذه الدنيا ؟ إذا كان المبتغى هو الآخرة كان يمكن لله تعالى أن يخلقنا للآخرة دون أن نمر بمعبر الدنيا، ولكنه خلقنا للدنيا من أجل أن نعمل فيها، (وَ قُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ وَ الْمُؤْمِنُونَ) ، فسيرى عملكم في الدنيا وليس في الآخرة، ففي الآخرة النتائج والإعلانات ولا يوجد عمل في الآخرة ولا تكليف ولا توجد مسؤولية فيها. فالمسؤولية والتكليف والعمل في هذه الدنيا. إذاً علينا أن نصلح دنيانا وأن نستقيم فيها وأن نعمل في داخلها من أجل أن نرقى ومن أجل أن نصل إلى المستويات الراقية التي تنسجم مع كفاءاتنا وإمكاناتنا. حرام عليك أيها الإنسان أن لا تكون كفؤاً وقد خلقك الله في أحسن تقويم، ثم ترضى بالقليل السيئ في هذه الحياة الدنيا ! هذه خسارة لما أعطاك الله تعالى من مقومات النجاح، يجب عليك أن تكون بارعاً في الاستفادة من إمكاناتك نحو الأفضل والرقي والارتفاع إلى الأعلى من خلال عطاءاتك ومن خلال عملك . نحن نفهم الدين تعبيراً عن توجيه الإنسان نحو صلاحه وفلاحه في الدنيا أوّلاً، وبعد ذلك تكون المكافأة في الآخرة. قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : (إعمل بفرائض الله تكن أتقى الناس) . يمكن للواحد أن يكون إنساناً عظيماً يستغل الإمكانات والطاقات ويصبح راقياً، وإنه أمر بسيط أن تلتزم بمجموعة من الفرائض فتجد نفسك أنك وصلت الى ما يرضي الله. مثل الذي يزور الطبيب فيقول له التزم بهذه التعليمات وبعد سنة تشفى. الله تعالى يقول للإنسان خذ من هذه الأدوية: الصلاة، الصوم، الزكاة، استقامة اللسان وصونه، عدم استراق السمع، وعدم السير بالقدمين الى حيث لا يحب، إلتزم توجيه الله عز وجل وعطاءه فيما يتعلق بعقلك وعاطفتك وفيما يتعلق بجسدك ونفسيتك من أجل أن تكون مستقراً مستقيماً. طبق هذه الأمور التي يأمر بها الله تعالى تجد نفسك في موقع عظيم وفي أحسن حال من العقل والبدن وفي حياتك الإجتماعية وعلاقاتك مع الناس وفي كيفية إدارة شؤونك. ولكن أن يعظم الإنسان شؤون تكاليف الدين فهذا أمر خاطئ. بالله عليكم فلنعد المحرمات والمحلّلات في الدين نجد أن المحرمات قليلة جداً بينما المحلّلات كثيرة لا تعد ولا تحصى، لكن المحرمات تشكل جاذبية أحياناً للإنسان فينغمس فيها ويعتقد أنه يمكن أن يصل الى نتيجة ترضيه في النهاية، ولكنه يكتشف فيما بعد أن هذه المحرمات سيئة. سيئة بالتعريف الإنساني قبل أن تكون سيئة بالتعريف الإلهي. فنتائج الإنحراف الإنساني تنعكس على الإنسان في الحياة قبل أن تنعكس عليه في الآخرة، وبالتالي عندما يوجهنا الله تعالى الى هذه الفرائض وهذه الأوامر فلمصلحتنا من أجل أن نستفيد في الدنيا والآخرة. قال أمير المؤمنين(عليه السلام): (من أخلص بلغ الآمال) . فإن أي أمل يكون عندك في الرضا فإنك ستصل إليه مع الإخلاص، وإنك ستحقق كل شئ، وستنجز كل شئ في هذه الدنيا وستنتصر على الكفر فيها، وستتوفق لإعمار الأرض في هذه الدنيا، وإن السلبيات التي نجدها إنما نجدها من المنحرفين وأهل الإنحراف. (دعوني أكون صريحاً معكم): لأن أهل الإستقامة قلة وأهل الإنحراف كثرة ينتصر الإنحراف على الإستقامة ونجد أنهم أقوياء ونحن أبناء الإستقامة الطرف الأضعف.

4 - المعادلة الإلهية:

إنها معادلة طبيعية ولكن، قل لي من هم جماعة الإستقامة ؟ من هم أصحاب الإستقامة ؟ كم هو عددهم ؟ وهل هم متفقون ؟ هل هم قوة واحدة ؟ هل يشكلون لوبي ضاغط مثلاً على الإنحراف ؟ بينما نجد أن جماعة الإنحراف كثر وبالتالي مع كثرتهم هم يسيطرون، لأن الله تعالى أوجد معادلة دنيوية. إن الأمور لا تمر بفرض إلهي وبعطاء إلهي إنما تمر بمعادلات إلهية، إذا عملت نجحت، وإذا انتظرت فشلت، وإذا جاهدت حققت النصر، وإذا جلست في بيتك دخلت السجن. هذا أمر طبيعي لأنه توجد معادلة للإنتصار والإنكسار، للفساد والإستقامة، وكما يحتاج الفساد الى عمل تحتاج الإستقامة الى عمل، وإلا فإن هؤلاء الفاسدون يعملون بالليل والنهار، والفرد منهم ينام أربع ساعات أو خمس باليوم. لأن فساده يعيش من خلال اللذة وبالتالي يشعر أن المحافظة عليه يتطلب جهداً. بينما نحن لا نبذل الجهد الكافي على طريق الإستقامة فنشترط من أول الطريق إذا استقمنا ما هي النتيجة (يا أخي) إبدأ بالعمل حتى يعمل معك الآخرون فتشكل قوة مع الجماعة من أجل أن تنتصر فلطالما قالوا لنا لا تتعبوا أنفسكم (معادلة مواجهة إسرائيل معادلة صعبة)، يا أخي لماذا هي معادلة صعبة ؟ قيل لأن إسرائيل قوية ونحن ضعفاء، إذاً لنعمل على أن نقوّي أنفسنا حتى نعالج الضعف الذي يوجد فينا. كان البعض يقول لا نستطيع، لماذا لا تستطيع يا أخي ؟ إذا كانت قوتنا بمقدار عشرة فلنسع لتكون أحد عشر أو إثني عشر أو عشرين، إذا كنا خمسة فلنجتمع حتى نصبح عشرة، إذا كنا ضعفاء في العلم فلنتعلّم وإذا كنا ضعفاء في القوة فلنتقوّى أي فلنسع لنغيّر المعادلة تدريجيّاً، على الأقل إن لم نتمكن من منافستهم فلنتمكن من تقليل الهوة بيننا وبينهم ومع وجود الرهان على تساقط إمكاناتهم قد نصبح في مرحلة من المراحل أقوى لإعتبارات عديدة، لا باعتبار القوة المادية فقط، لأنه لا يجوز أن نغفل القوة المعنوية وقوة الإيمان وقوة الوحدة وقوة الحق بأرضنا المحتلّة. هذه جميعاً تجتمع لتحقق نصراً على العدو ، وهذا ما قد حصل بانتصار المقاومة الإسلامية في لبنان على اسرائيل على الرغم من قلة الإمكانات، وذلك بسبب تجميع القوة من مصادرها المختلفة لتواجه قوة الآلة الإسرائيلية، فانتصر الحق على الباطل وانتصر أصحاب الأرض على المحتلين وانتصر الضعف المجبول بالإيمان على القوة المجبولة بالعدوان، وهذه تجربة صالحة لأن تتكرّر شرط أن نثق بأنفسنا وبطاقاتنا وإمكاناتنا الذاتية. إذاً نحن معنيون بأن نبحث عن عوامل القوة من أجل أن نغير المعادلة.

5 - حضاريون لا طائفيون:

ربما فكر البعض أننا متدينون سذّج عاديون (نقول بصراحة): نحن متدينون حضاريون نفهم الحياة ونعرف كيف نتعاطى معها، نتدخل في تقنيّاتها، نواكب التطور العلمي، ندخل السياسة من أوسع أبوابها، نتدخل في كل التقدم التربوي والتعليمي، نتعاطى بكل ما أنتجته البشرية، نأخذ خيرات الدنيا حيثما وجدت دون أن نسأل عن دينها وعن انتماءاتها ثم نضعها بعد ذلك في صندوق الإيمان ونتوكل على الله تعالى متزودين بافضل ما أنتجته البشرية مع أفضل ما خلقنا الله تعالى عليه، مع أفضل ما وجهنا الله تعالى إليه، لنجعل من هذه الأمور الفاضلة فضلاً عظيماً نواجه به تقلبات الحياة لننتصر بإسم الله وفي سبيل الله تعالى، وهذا أمر لا نخفيه على أحد ونحن واضحون في تطلعاتنا ونظرتنا إلى الأمور.

لهذا ليس النجاح في حياتنا والذي رأيناه يتمثّل في مواقع مختلفة ناتج عن صدفة عمياء وإنما هو ناتج عن خطّة وتدبير، وعن انسجام مع ما خلق الله تعالى من مقومات النجاح في حياتنا اليومية. نحن مدعوّون للعودة الى الدين لنتعرف اليه من بابه الحقيقي لا أن نبقى مختبئين وراء ادعاءات التدين التي لا تمت الى الدين بصلة، نحن مدعوّون للعودة الى الدين المنفتح الذي يحاكي الإنسان ولا يُفرض عليه والذي يخاطب العقل ولا يثير الغرائز، والذي يربي المشاعر ولا يدفن الحقائق والذي يتحرك من الإنسانية وعبرها، ولا يُحاصر في زاوية ضيقة ضدّ الإنسانية، والذي يجمع أهل الخير في أي مكان في العالم من أجل مواجهة الباطل والشر والفساد. نحن ندعو إلى تدين يعيدنا الى أصالتنا، الى قوتنا، إلى ما خلقنا الله تعالى عليه في احسن تقويم، ونرفض الطائفية المقيتة التي تعبّر عن عصبيّة جامدة لا حراك فيها ولا حياة لها ولا مستقبل لها، نحن نرفض كل أولئك الذين يمتطون لباس الدين ويسيرون في الإتجاه الطائفيّ لمصالحهم وغرائزهم ومكاسبهم على حساب المستضعفين وعلى حساب الأكثرية الصامتة من النّاس. ليس كل من وضع عنواناً دينياً وتلبس باللباس الطائفيّ أصبح متديّناً فالطائفيّة لها آثارها والتدين له آثاره. إذا رأيتم الفساد والسرقة والقتل على الهوية باسم الدين، والعمالة والإنحراف والخداع في السياسة وفي العمل بين النّاس فاعلموا أنه سلوك طائفيّ عصبيّ منبوذ، وإذا رأيتم الأخلاق والإستقامة والمقاومة والجهاد وحسن التصرف وأمانة التمثيل والعمل لخدمة الناس فاعلموا أن هذا هو التدين الحقيقي. سواء رفع أصحابه شعار التدين أم لم يرفعوا الشعار.

هناك فرق يبرز في الواقع العملي كي لا تلتبس الأمور وتختلط مع بعضها، هل نعاني في لبنان من الدين ؟ نحن نعاني في لبنان من قلّة الدين، ومن قال لكم بأننا نعاني من الدين ؟ إنما يحاول البعض أن يختبئ وراء منافعه ومكاسبه، لأن الدين لم يكن موجوداً عند قتال الشوارع ولم يكن موجوداً بالعمالة مع اسرائيل، كذلك لم يكن الدين موجوداً عندما تولّى البعض مناصب حسّاسة في الدولة فسرقوا أموال الناس وخدعوا البشر جميعاً من أجل مصالحهم ومكاسبهم الخاصّة، ولم يكن الدين موجوداً حتى عند أولئك الذين تصدّوا على المنابر واستخدموا آيات من القرآن أو من الإنجيل أو من التوراة، ثم ظهر من خلال سلوكهم أنهم لا يعملون إلا لمصالحهم ولا يهتمّون لأمور الناس إلا من خلال وسائل الإعلام وعلى شاشات التلفزة. هؤلاء لا يحملون الدين ولو ادعوا ذلك وأعلنوه. وعن المحاصصة في لبنان، فلنكن صريحين. المحاصصة ليست ديناً، المحاصصة عصبية، وتوزيع المكاسب على الزبانية ليس ديناً، إنما هو تحريك فئوي لمصالح آنية، واستخدام الكفاءات لمصالح آنية لا يعبر عن إيمان ولا يرضى عنه الله تعالى مهما كان الإدعاء ومهما كان التبرير. نحن بحاجة إلى أن يتعلم النّاس حقيقة الدين ويتعرّفوا عليه، لكي لا يخدعهم البعض بأعمال ثم يأتوا بكلمات مكتوبة ليعطوا من خلالها شرعية لأعمالهم بأن الله قال والرسول قال ! أتركوا الله جانباً واتركوا الرسول جانباً، واعلموا أنكم إذا عملتم بما قال الله فالنور يظهر على وجوهكم، (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) ، وأما الذين يسرقون ويفسدون وينحرفون فسيماهم على وجوههم من أثر السرقة والإنحراف، والناس يرونهم حتى ولو لم يرفعوا يافطات، ولو أقسموا بالله العظيم ألف مرّة لكُتب فوق رؤوسهم: كاذبون كاذبون كاذبون، والناس تقرأ ما على رؤوسهم ولا تقرأ ما على ألسنتهم، والكل أصبح يعرف كل شئ سواء كتبت الصحافة أم لم تكتب، فما كتب على الجبين لا يمكن أن يمحى لا بالتنر ولا بكل وسائل التنظيف. فالقذر تفوح رائحته في كل مكان ويلتفت إليه النّاس حتى ولو أراد أن يمنعهم من الإلتفات ، لأن جاذبية رائحته النتنة تدفع النّاس إلى أن يبحثوا عن مصدرها حتى يتجنّبوها، علّهم يفوزوا برائحة طيّبة عند من آمن بالله وخافه في الدنيا والآخرة.

6 - إحذروا أمريكا:

نحن بحاجة إلى تعليم ديني من أجل أن نتعرّف على أحكام شريعتنا المقدّسة من أجلّ أن نتعرّف على حياتنا وعلى إمكانياتنا وعلى مستقبلنا، ولكن احذروا من الدين الذي تريد أمريكا أن تسوقه في منطقتنا، لقد أصبحنا في أجواء تتحدّث كثيراً عن تغيير للمناهج في البلاد العربية والإسلامية، لكن المميّز في هذه المرّة هو أن المناهج المستهدفة في التغيير ليست مناهج التعليم العام في الفيزياء والكيمياء لمواكبة التطوّر، إنما مناهج الدين، على أن يكون المشرفون من الأميركيين لأنهم أعلم بما يريده الله تعالى من العرب، على أساس أن العرب قصّروا خلال فترة طويلة من الزمن فلم يعودوا قادرين على معرفة ما تريده السماء منهم فأتى فراعنة الأرض وعلى رأسهم (بوش) من أجل أن يعلموا الناس كيف تكون العلاقة مع الله ! وكيف تكون العلاقة مع النّاس ! لتسخّر المنطقة لخدمة المشروع الإسرائيلي. نحن نرفض أيّ تعديل وأيّ تغيير في المناهج الدينية أو التعليمية في منطقتنا عبر الطلبات الأمريكية لأنها طلبات مشبوهة، ونعتبر أن المصيبة ليست في المناهج وإنما كانت دائماً من جهتين أساسيتين: الأولى من أولئك الذين لا يملكون أهليّة للتعليم فأساؤوا في كيفية التوجيه، والثانية من الإستكبار الذي يحاول أن ينصب اولئك الذين لا يحملون الكفاءة ثم يكتشف بعد ذلك أنهم لم يحقّقوا مصالحه.

لقد اكتشف الأمريكيّون أن الأغبياء من الحكام هم عالة عليهم فالحاكم الغبي يدار بواسطتهم، لكن إذا كان الحاكم غبيّاً هل تعتقدون أن الشعوب غبيّة ؟ الحاكم الغبي يفضحكم والحاكم العاقل لا يقبلكم فإذاً أنتم خارج منطقتنا مع الغبي ومع الواعي. فافهموا بأن الدخول إلى منطقتنا صعب جداً. وإذا قررتم الحرب علينا كما فعلتم في العراق فإنكم ستخرجون أجسادكم محمّلة ، ولن تتمكنوا من إقامة ما تريدون، وإذا كنتم تعتقدون أن صرف بضعة ملايين من الدولارات يساعد على تعديل الكراهية فاعلموا أن قراركم هذا زاد من الكراهية، ففتّشوا عن طريقة أخرى، وأنصحكم أن تخرجوا من منطقتنا وتتركونا بسلام وأمان، عندها يمكن أن تخف الكراهية. واعلموا أن الكراهية ناشئة عن أعمالكم وليست ناشئة عن تربيتنا، وللأسف فالكثيرون في منطقتنا كانوا يحبونكم أيها الأميركيون ويرحبون بتعاونكم وقناعتكم وديمقراطيتكم، ولكن الحمد لله تعالى، لقد علّمتموهم عمليّاً أن التابعين لهم هم أول الخاسرين وأوّل الساقطين، من وجهة نظرهم فأنتم الذين عمّمتم هذه الكراهية بأساليبكم. نحن أبناء الشعب وأبناء هذه المنطقة لا نحتاج إلى إرشادات وتوجيهات منكم. اتركونا ندبر شؤوننا ودعونا نتعلم ونتربّى ونتثقّف كيفما نشاء، لكن إذا تدخّلتم فهذا يعني أنكم ستوحدوننا بعدوانكم، وهذا شأنكم، جرّبوا حظّكم ما شئتم ولكن اعلموا أن التاريخ لا يعود إلى الوراء، فلم تعد منطقتنا سائبة، ولم تعد منطقتنا بتصرفكم كما تشاؤون. لقد عمّ الضياء وانتشر الوعي وأصبح هنالك إدراك كبير، وإن شاء الله يحصل التغيير وتعود لنا القدرة على تغيير الواقع بالإتجاه الأفضل ونحو التعليم والتربية اللذين يؤديان إلى قتل الفساد بالفضيلة والى طرد الإحتلال بالمقاومة والى تعميم مستقبل النّاس في مقابل أولئك الذين يسرقون مستقبل أطفالنا .

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته