كربلاء والنصر عنوانان متلازمان، وهما يوحيان للوهلة الأولى بالتباين، لأن كربلاء هي الشهادة، والنصر هو التفوق العسكري المباشر على الأعداء، والربط بينهما يحتاج إلى دقّة توصلنا إلى حقيقة هذين المفهومين المترابطين.
فكربلاء شهادة، وهذا أمر واضح لا لَبس فيه، وهذه الشهادة تحمل أرقى معاني الإنسانية، لأنها تعبير عن فناء الذات في خالقها، فلا يمكن أن يصل المرء إلى درجة التضحية بالنفس دون سؤال أو تردد أو ريبة أو خشية، إلا إذا وصلت صلته بالله تعالى إلى أرقى المستويات، بحيث ينسى نفسه مع الله جل وعلا . وفي كربلاء شاركت النخبة من المؤمنين المجاهدين والمؤمنات المجاهدات، فلكل واحد من المشاركين قصة وموقف، وقد كانت المشاركة متنوعة لمختلف شرائح الأمة، من الطفل إلى الشاب إلى الشيخ إلى المرأة إلى القائد، كلهم كانوا في كربلاء كتعبير مباشر عن أن الشهادة بمعناها الأرقى يمكن أن تلامس قائد المسيرة، كما يمكن أن تلامس كل فرد من الأفراد الذين ارتقوا في ايمانهم إلى درجة واكبوا فيها بشهادتهم شهادة المعصوم في كربلاء، وهذا يضعنا أمام الشهادة التي تكون برسم الأمة بكل أفرادها، ولا يضعنا أمام شهادة مقتصرة على إمام معصوم أو مقتصرة على شريحة خاصة دون الشرائح الأخرى. كربلاء هذه هي التي أسست، وهي التي بنت، وهي التي علمتنا الكثير، مما انعكس فيما بعد على واقع الأمة الإسلامية، وعلى مفاهيمها وأفكارها. فالإمام الحسين (ع) كفرد انتصر في كربلاء، وحبيبب بن مظاهر كفرد أنتصر في كر بلاء، ولكن الجماعة لم تنتصر عسكرياً، إلا أنها حققت انتصارات بمعنى آخر، سنتعرض لها. ولكن كيف انتصر الفرد في كربلاء ؟ كيف انتصر الإمام الحسين كفرد في كربلاء؟ وكيف انتصر حبيب بن مظاهر كفرد ؟ وكيف انتصر علي الأكبر في كربلاء؟ يمكننا أن نتلمس هذا النصر من خلال معان ثلاث:
أولاً : انتصر الفرد بشهادته التي أوصلته إلى جنان الخلد والى رضوان الله تعالى، وكل واحد منا يسعى كي يتقبله الله تعالى، فيعمل لتحقيق رضوانه. إنَّ شهادة الحسين (ع)، وشهادة من معه أوصلتهم إلى رضوان الله تعالى وجنته، فهم فازوا كأفراد، وغادروا الحياة الدنيا مأجورين مشكورين، ووصلوا إلى الرفيق الأعلى في أعلى مقامات الجنة وفي أرقى مستوياتها التي خصصت للأنبياء والأئمة والشهداء ، هذا النصر قد تحقق، وقد عبّر الله تعالى عن هذا المعنى من معاني النصر بقوله تعالى في القرآن الكريم {قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين }فاعُتبرت الشهادة توأماً في الحسنى للنصر، وهذا يؤكد أن الانتصار على مستوى الفرد قد تحقق وهو توأم النصر على مستوى الأمة، وهو إحدى الحسنيين { قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون}(1)، أمَّا الطرف الآخر فهو خاسر على كل حال، إما في الدنيا بالهزيمة، وإما في الآخرة بجهنم. وأما الطرف الأول فهو رابح على كل حال، إما بالنصر المادي المباشر، وإما بالشهادة التي تدخله إلى جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين .
ثانياً : ملامسة الإمام الحسين (ع) لمفهوم الأجل بالمعنى الإسلامي فموت الإنسان يكون في وقته المحدد، أياً كانت ظروف هذا الأجل،ألم يقل تعالى:{ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون}(2) ففهم الإمام(ع) يختلف عمَّا كان البعض ينصحه به فهو ذاهب إلى أجله بطريق اختاره لتنتهي حياته بنموذج مميز، دون أن تقدم الشهادة وقت الأجل ودون أن يؤخر غيرها وقت الأجل، وهذا المفهوم هو نصر حقيقي. فانتصار الإمام (ع) هو انتصار بالإقدام على الأجل دون أن يعيقه شيء، ودون أن يغير من مساره أي شيء، مهما كانت الظروف صعبة، ومهما كانت الظروف معقدة.
ثالثاً: انتصار المبدأ، لأنه بموقفه(ع) نصر الإسلام، وبموقفه ثبت مَعْلماً تاريخياً بقي مضيئاً لكل الأجيال التي أتت من بعده، وحفظ بذلك مضمون الإسلام المحمدي الأصيل، الذي لولا هذه الشهادة لما حفظ بهذه الطريقة التي وصلت إلينا، وهذا يفسر لنا قول رسول الله (ص) " حسين مني وأنا من حسين "، لأن الاستمرارية إنما حصلت بهذه الشهادة، وبهذه التضحية وبهذا العطاء، ومن ذاك الوقت أصبح الأمر واضحاً بأن الإمام الحسين (ع) إنما قتل في كربلاء للإصلاح في أمة محمد (ص)، "إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي".
بهذا يكون الإمام الحسين (ع) قد انتصر على المستوى الفردي، سواء كان الأمر بشهادته أو بالأجل أو بنصرة المبدأ، لكن لم يحصل انتصار على المستوى العسكري، فالانتصار العسكري له مقومات لا بدَّ أن تتوفر قبل أن يأتي دعم الله وتسديده للجماعة. يمكن للفرد أن ينتصر حتى ولو تخلفت الجماعة، ولكن الجماعة لا يمكنها أن تنتصر إذا تخلف عدد من أفرادها وسببوا بتخلفهم نقصاً في العدد والعدّة التي يجب إعدادها، والتي تكون سبباً لدعم وتسديد وتأييد الله تعالى. وهنا لا يتحمل كل فرد مسؤولية الجماعة، ولكن كل واحد من الجماعة يتحمل مسؤوليته كفرد إذا لم يقم بواجبه في الانتصار، وعلى أقل تقدير من خلال سعيه كفرد، وبناءً لتكليفه الشرعي في إطار هذه العناوين الحسينية الثلاثة، ولو لم يتمكن من الانتصار في دائرة الجماعة (على أساس التفاصيل التي سوف نذكرها). نحن في كربلاء أمام انتصار حسيني فردي لكل واحد من أنصار الإمام الحسين (ع) بكل المعاني دون شك ولا ريب، ويبقى الحديث عن انتصار الأمة .
هذا العمل في كربلاء أسس في الواقع لانتصار الأمة، صحيح أنه لم يحصل انتصار عسكري مباشر، لكن هناك تأسيس لقواعد تساعد الأمة على انتصارها، وهي خمسة :
القاعدة الأولى : تعبئة الأمة على أقصى روحية في العطاء، بحيث تبدأ بالبحث عن أقصى الشهادة قبل أن تتدرج في عطاءاتها، حتى لا تبقى خائفة وجلة أو مترددة بالشهادة القصوى ، بمعنى آخر: ثورة كربلاء عبأت باتجاه الاستشهاد ولم تعبئ باتجاه النصر، ولو كانت ساحتنا معبأة باتجاه النصر فقط فمن الصعب أن تنتصر، ولكن عندما تُعبأ الساحة باتجاه الشهادة، وتبغي حلماً عظيماً وتسديداً إلهياً في أن تحصل على شهادتها، عندها وفي أثناء السعي للقيام بالواجب، قد يحصل الناس على شهادتهم وقد يحصلون على نصر الله تعالى، أما الإنسان الذي يتوقع المكافأة ولا يتوقع البلاء يفشل ويقع في عقبات وعثرات أثناء الطريق. لاحظوا كيفية التربية الإسلامية على النصر، فهو غير مؤكد ويرتبط بمقدمات إذا توفرت توفر النصر،يقول تعالى :{يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم}(3)،ولكن كيف ننصر الله؟ هنا ندخل في تفاصيل مسؤوليتنا مع كل ما يحيط بها من تضحيات، ويقول تعالى:{ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون}(4)، هذا يعني إما الشهادة وإما النصر، فإذا كان الإنسان متأملاً بالنصر دون أن يتوقع تقديماً وتضحية وشهادة واقداماً، فهو يعمل لفوز دنيوي مباشر، بينما عليه أن يعمل لفوز أخروي يؤدي عادة إلى فوز دنيوي في أغلب الحالات، ولكن إذا لم تساعد الظروف فالفوز الأخروي مضمون، أما الفوز الدنيوي فهو غير مضمون. هذه الروحية نشرتها كربلاء في الأمة، وعبأت باتجاه الإيمان بالبذل إلى أقصى درجات العطاء.
ليست الإمكانات المادية سبباً لنصر المقاومة الإسلامية في لبنان، فالكل يعلم أنها أضعف بكثير من إمكانات العدو الإسرائيلي، ولا يتصورنَّ أحد أن الظروف السياسية هي التي سببت النصر، فالظروف كانت معقدة في مواجهة المؤمنين، ولكن الإسرائيليين لم يتحملوا موقفاً بطولياً أسقط سلاحهم، واسقط قدرتهم على الفتك، فهم يستخدمون أسلحتهم وتفوقهم العسكري ليقتلوا ويخيفوا بالموت، لكنَّ الذين يواجهونهم يبحثون عن الموت، فالإخافة بالقتل لا تنفع مع محبي الشهادة، ما حوَّل سلاح العدو إلى وسيلة غير فعَّالة، وفاقدة لقدرتها على تحقيق الهدف، وهذا ما أسقط قدرة العدو على المواجهة، ليجد نفسه أمام جماعة ملكت كل أسباب القوة المعنوية والروحية، وكل مقومات البقاء في الدنيا أعزاء أو العبور إلى الآخرة شهداء، عندها وقف العدو مذعوراً مدهوشاً، ورأى أن الهرب من المعركة أيسر الخيارات، وأفضل السبل، ففرّ سريعاً لأنه عجز عن المواجهة، بل عجز عن فهم ما يواجه، وأقول لكم بأنه سيبقى عاجزاً عن فهم ما يواجه .
القاعدة الثانية : كسر هيبة الظالم والفاسد سواء أكان حاكماً متغطرساً يحكم المسلمين أو عدواً يواجههم، كائناً من كان هذا الظالم في موقعه. فالواقع الذي عاشه المسلمون آنذاك هو واقع الاستسلام للحاكم والخوف منه والخضوع له، سواء برَّروا هذا الأمر بتبريرات شرعية معتبرين أن طاعة أولي الأمر الذين هم الحكام مؤمنين كانوا أو ظلمة، هي واجبة بحسب فهمهم وتحليلاتهم فيكونون بذلك قد عذَّروا أنفسهم ليلتحقوا بيزيد، أو كان السبب هو دنيا فانية أو مصالح آنية ارتضوها لأنفسهم، فهؤلاء كانوا خائفين أو مستسلمين أو معينين للحاكم الظالم. أتى الإمام الحسين(ع) ليسقط هيبة الحاكم الظالم، وليكشف للأمة حقيقته وحقيقة قدرته، وأنَّه يمكن إسقاط هذا الحاكم وكشف زيفه .. لا يوجد حاكم مقدس، إنما القداسة تأتي من العمل والصلاح، ولا تأتي من المنصب، فمن ادّعى أنه خليفة الله على الأرض باسم الإسلام فهو ادعاء باطل، لأن الخلافة لا تمنح للفاسدين المفسدين، وعليه يجب إسقاط الظالم وإسقاط مشروعيته، وهي مسؤولية شرعية وليس عملاً طوعياً، فقد خطب الإمام الحسين(ع) في جماعة الحر الرياحي عندما وصل إلى " البيضة" مبيناً تكليفهم:" أيها الناس، إن رسول الله (ص) قال: من رأى سلطاناً جائراً، مستحلاً لحُرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنة رسول الله(ص)، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغير بفعل ولا قول، كان حقاً على الله أن يُدخله مدخله"(5). إن هذه التربية تساعد الأمة في أن لا تستسلم لأي ظالم يتسلط عليها في المستقبل، وهذه قاعدة من قواعد الانتصار على الباطل في أي زمن .
القاعدة الثالثة : مسؤولية الأمة في إعداد العدّة، لأن النصر يحتاج إلى مقومات،ولو كانت العدّة كافية في كربلاء لحصل انتصار عسكري أيضاً، ولكن العدة لم تكن كافية بسبب انحراف أهل الكوفة ومن معهم، وتراجع المناصرين، وبسبب هؤلاء الذين لم يأخذوا موقفاً شرعياً من يزيد، وكانوا مع خطه وسيرته. فإذا أرادت الأمة أن تنتصر عليها أن تعد العدة، وعليها أن توفر المقومات، ولكن أي عدة تعد، هل تعد عدة تتشابه مع عدة الخصم؟ أو تعد عدة أقل من عدة الخصم؟ لم يحدد رب العالمين لنا شكل العدة، قال: {واعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل}(6)
الأمر الذي يضع جميع المسلمين أمام المسؤولية الشرعية، لأنه لو قال لهم اعدوا عدة كعدتهم حينها سيكون الكل معذورين لأنهم يحتاجون إلى وقت طويل لإعداد عدة العدو وقد لا يتمكنون أو لا يمكنهم العدو من ذلك، وأما {واعدوا لهم ما استطعتم} فكل واحد عنده استطاعة معينة ويجب أن يعد العدة بمقدار استطاعته ، أي أن كل واحد من المسلمين مسؤول في أن يعد بمقدار استطاعته، ليحقق مساهمة تساعد في صنع نصر الأمة، عندما تجتمع المساهمات مع بعضها البعض، لا أن ينتظر الآخرين حتى يهيئوا مساهماتهم. فإعدادك للعدة قبل غيرك مسؤولية، وعلى كل واحد أن يفتش عن مسؤوليته حتى تتظافر الجهود، فإذا سارت الأمة بأكملها لإعداد العدة، توفرت شروط النصر بسرعة، وتوفرت المقومات التي تساعد كي يقوم كل واحد منا بدوره فيتحقق الانتصار على أعداء الله تعالى.
ولتأكيد هذا الموقف نرى أن الرسول (ص) عندما تحدث عن نصرة الأمة قال:"إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها، وبدعوتهم وصلاتهم واخلاصهم"(7) وللوهلة الأولى يتساءل الإنسان المهزوم : إن الأمة تنتصر بالقوة إذا واجهت أعداء الله تعالى فكيف تنتصر بضعيفها ؟ وهل يمكن للضعيف أن يعطي إمكانية للنصر على مستوى الأمة ؟ الهدف الأساس أن لا يبقى أي فرد دون مشاركة في صنع النصر ودون حمل همومها، فلو قدم هذا الضعيف دعاء، فإن الدعاء يعبئه كجزء لا يتجزأ من العمل لتحقيق النصر. فتكون كل الأمة مشاركة في عملها وفي جهادها، فكما يكون السلاح عاملاً من عوامل القوة، يكون دعاء الضعيف واخلاصه هو عامل من عوامل القوة، حتى لا تستهتر الأمة بأي فرد من أفرادها، أو تعتبر أنها مثقلة بطاقة من الطاقات الموجودة فيها، لتكون بأجمعها متجهة إلى ساحة المواجهة، هذا بسلاحه، وذاك بتربيته، وثالث بدعائه، والرابع بسجوده، والخامس بانتظار أن يكبر حتى يكون مساهماً ومشاركاً، وعندما يرى الله تعالى إخلاص الأمة، وتقديمها بما تستطيع ينصرها بإذنه {وكان حقاً علينا نصر المؤمنين}(8). لقد كانت كربلاء مدرسة في استثمار كل الطاقات، سواء في الدائرة العسكرية بقتال الحسين(ع) وأصحابه، أو في الدائرة العاطفية بمقتل الطفل الرضيع وما تركه من آثار في إسقاط نموذج جماعة يزيد، أو في الدائرة الإعلامية التعبوية وما قامت به السيدة زينب(ع) في مسار السبايا وخطبها وتبيانها لأهداف الثورة.
القاعدة الرابعة : في تحمل عقبات النصر وامتحاناته وبلاءاته قبل أن يحصل، لأن الله يريد أن يختبر المستحقين للنصر بأعمالهم، قال تعالى:{ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين}(9)، إذاً الصبر وتحمل الأذية التي يواجهها المسلمون خطوة على طريق النصر، وقال تعالى{يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون}(10) فهناك صبر ومرابطة، وبعد أن تصبروا وترابطوا وتتحملوا لعّلكم تفلحون، ولا أحد يضمنها مئة بالمئة، فقد يكون التقديم من الناس دون المستوى المطلوب فلا يتحقق النصر الإلهي للأمة، فالبلاءات والصعوبات والأزمات التي يمر بها المؤمنون هي من المقدمات الطبيعية للاختبار والامتحان حتى يحصل نصر الأمة، فالأمة لا يمكن أن تنتصر بدون هذه المقدمات، وقد رأينا كيف انتصر المؤمنون في إيران الإسلام بعد أن دفعوا الكثير من الشهداء، وبعد أن تحملوا الكثير من المعاناة، وقادهم فاتح الإسلام في القرن العشرين الإمام الخميني (قدس) إلى فلاحهم ونجاحهم بعد أن تحملوا العقبات والصعوبات، وكانوا مؤهلين ليتحقق على يديه حلم الأنبياء، كما قال الشهيد الصدر (رضوان الله عليه)، وهذا أمر له علاقة بوجوب أن تقدم الأمة ما عليها. ومع كل مأساة كربلاء فالإمام الخميني(قده) يقول :" كل ما عندنا من عاشوراء " أي أن هذا الانتصار الذي نراه على مستوى الأمة هو من بركة التعبئة والتربية والعطاءات والتضحيات التي حصلت على قاعدة كربلاء وعلى قاعدة عاشوراء. وقد تحقق نصرنا في لبنان أيضاً بفعل هذه الروحية، لكن تذكروا تماماً عدد الشهداء 1281شهيداً وعدد الجرحى والأسرى والمعاناة، وكانت تمر بعض الحروب التي كان يشعر الكثير من الناس أنها آخر المطاف،بحيث لا يبقى شخص أو جماعة على هذه الأرض، ثم ينقذ الله تعالى ويوفق وينصر بتسديد منه، لمعرفته ورقابته أن بين هؤلاء من أخلص لله تعالى، وأن مقدار ما قدّموه يؤهلهم لينصرهم الله، فنصرهم الله نصراً عزيزاً.
كربلاء نعيشها حياة ولا نعيشها موتاً، فكربلاء حية بدليل أنه بعد 1361 سنة لا زالت تعرض بيننا وكأنها حصلت بالأمس، وهي في الوقت نفسه تمتلك من الحيوية ما يساعد في التربية والتعبئة المستديمة، ليكون ما حصل في سنة 61 ه مقدمة تتصل برسول الله (ص) للتواصل عبر التاريخ مع هذا المنهج الذي يحمله المؤمنون، فيتراكم عدد المناصرين وتصبح الأمة مؤهلة لتكون بمجموعها قد وفرت شروطاً للمهدي المنتظر(عج) حتى يخرج بعد انتظارنا له، وكما ننتظره فهو ينتظرنا، إننا بأعمالنا نكون قد هيأنا القاعدة لنقل كربلاء النصر إلى مقدمات جند الإمام المهدي (عج) ليتحقق النصر الأكبر {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين}(11).
نحن واثقون أن النصر الإلهي يلاحقنا ويتحقق في كل موقع من مواقعنا، ولكن المهم أن نعرف كيف نقدم على مستوى الأمة لا على مستوى الأفراد فقط، إذ عندما نقدم على مستوى الأفراد نساهم في صنع النصر المستقبلي للأمة، ولكن عندما نقدم كجماعة وكأمة نصنع نصراً حالياً ونهيئ لانتصارات جديدة، وهذا يحملنا مسؤولية متابعة هذا الخط بكل جرأة، ولا حاجة لأن نستعجل الأمور.إنَّ الذين تعبوا هم أولئك الذي ظنوا أننا نسير لهدف محدد ثم نتوقف عنده، لكن نقول لهم إن هدفنا لا يتحقق الا بعد أن نولي من هذه الدنيا، لأن هدفنا إقامة الحق، والحق في صراع دائم مع الباطل والباطل موجود ما دامت الحياة، وهو يتطلب استمراراً في المواجهة، فلنقلع عن التفكير المحدود الذي ينحصر بمزرعة أو قرية أو قطعة أرض أو كسب رخيص أو حياة هانئة دنيوية.. هذا تفكير بسيط جداً ومحدود جداً .. علينا أن نفكر كيف ننصر الإنسان والإنسانية، هذه النصرة لا تكون إلاَّ بدَكِّ الباطل حتى يسقط، إنها مهمة عظيمة وجليلة، تتطلب منا عطاءات كثيرة. إن الاستكبار والانحراف الثقافي والسياسي واغتصاب الأرض وغيرها عناوين الظلم والفساد والعدوان، وعندما ننتهي من كل الظلم والعدوان على هذه الأرض نتحدث إذا كان بالإمكان الاستراحة أم لا. إن علينا أن نستمر بانتظار الإمام المهدي (عج) ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً، ويريحنا من كل البلاءات التي نواجهها في حياتنا اليومية، ولكن الآن لا يوجد استراحة ولا يمكن ذلك، وإذا أردنا أن نستريح لن يدعنا الخصم نتوقف، فالأجدر بنا أن نبادر، فالفرق كبير بين مدافع عن نفسه اضطر للدفاع بغتة، وبين مقبل على الشهادة قام بردّة فعل احتياطية وأقبل على الموت دون خوف وكان جاهزاً للدفاع ويقوم بواجبه للتحرير.
الشهادة الحسينية هي شهادة المبادرة في صنع مستقبل الأمة، وليست شهادة الضرورة التي يئست من الواقع ووقفت أمامه جامدة، شهادة الإمام الحسين (ع) هي عمل هادف يؤسس لمستقبل الأمة بكل المعاني، ويجب أن نفكر كيف نؤسس دائماً لمستقبلنا ونكون في مورد المخطط للفعل لا في مواقع ردَّات الفعل. وعندما نقول للناس نحن متأملون بأن تنتصر الانتفاضة في فلسطين ولو بعد حين، فلأننا نعلم أن الانتفاضة عندما تستخدم نمط سلاح المقاومة الإسلامية نفسه وهو الاستشهاد في مقابل أعداء الله، فإنها ستزلزل الأرض تحت أقدام الصهاينة، وهؤلاء لن يمكثوا طويلاً، إنهم سيجدون أنفسهم في ورطة فيتراجعون تدريجياً ويخسرون مواقعهم .
القاعدة الخامسة: تتمثل في مشروعية النصر على أعداء الله تعالى وعلى الظالمين في هذه الحياة الدنيا، فالنصر من الأهداف التي حثَّ عليها الإسلام. وهو أمر مشروع وطموح مقبول، وقد وعد الله تعالى المؤمنين به عندما يستحقون ذلك لينعموا ببركاته:{وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون}(12). بل شجعهم على طلبه:{وما كان قولهم إلاَّ أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا واسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين}(13).
من حق المؤمنين أن يفرحوا بالنصر، فهو نصر لمبدئهم وعقيدتهم، وهو نصر لثمرة جهادهم وتضحياتهم، وهو إثبات لعظمة منهجهم وارتباطهم بالله جلَّ وعلا، طالما أن دينهم هو الأكمل والأتم ومحل الرضا الإلهي وهو الأصلح لحياة البشرية. ومن الطبيعي أن يتوقعوا هذا النصر لأنهم يحملون الإسلام وهو خلاصة استقرار وصلاح واستقامة الإنسانية.
لكن لا يجوز أن نتعلق بالنصر إلى درجة نسقط معها عندما ننهزم، فالهزيمة مرتبطة بمقومات لم تتوفر، وهي لا تعني انهزام المبدأ الذي نحمله. إن علينا القيام بواجبنا في تهيئة شروط النصر، وليس بيدنا أن ننتصر، فعلى العبد السعي وعلى الله تعالى التوفيق والتسديد. وإذا لم تعط التضحية ثماراً آنية ومباشرة فهذا لا يعني التوقف عن البذل، لأن الثمن جاهز عند الله تعالى في آخرة أفضل عند الخسارة في هذه الحياة الدنيا، ولأن تراكم البذل عبر عطاءات الأمة يحقق نصرها المستقبلي.
ورب سائل: لماذا تركزون كثيراً على الشهادة؟ لأن من تربى على الشهادة أعطى أقصى ما عنده، فإذا حصل النصر فإنما يحصل للجدير والمضحي الذي يحافظ عليه، وإن لم يحصل فلا تغيير في الموقف المستقيم. ليست الشهادة هروباً من مسؤولية النصر وطلبه، إنما هي طريق تربوي وعملي يساعد عليه. وهي سلاح قوي لمواجهة قوة الأعداء، وهي فرصة لتحقيق الانتصار في مقابل الإمكانات المادية المعادية، إنها تمثل سلوكاً إيمانياً في المحافظة على المبادئ وتهيء لمواجهة المنطق المادي الذي يخيفنا بهذه الحياة الدنيا، إذ عندما يملك الظالمون قدرة مهيمنة فهم يستخدمونها ويهددون بها لإنهاء حياة الإنسان حتى يخضع، فإذا كانت استعدادات الشهادة موجودة عنده فإن الاخافة تسقط والهيمنة تبوء بالفشل، وتتوازن المواجهة أكثر بل تعطي فرصة لقلب المعادلة والتغيير لمصلحة منطق الشهادة في مقابل منطق القوة المادية الظالمة.
علمتنا الثورة الحسينية كيف ننتصر في داخل أنفسنا أولاً، بتسليمنا لله لننتصر، وبعد ذلك في الخارج على أعداء الله تعالى، فمن كان يفكر أن يُعدَّ لنصر خارجي دون أن يلتفت إلى نصره في الداخل فلن ينتصر، أما من فكر كيف ينتصر في داخل نفسه على شيطانه وآثامه وانحرافاته، ليقرر بيع النفس لله، عندها فالطريق ممهدة للنصر بإذنه تعالى.
--------------------------------------------------------------------------------
الهوامش :
(1) سورة التوبة الآية 52.
(2) سورة الأعراف الآية 34.
(3) سورة محمد الآية 7.
(4) سورة التوبة الآية 111.
(5) تاريخ الطبري- ج4 ص 304.
(6) سورة الأنفال الآية 60.
(7) الدر المنثور للسيوطي -ج2 ص 237.
(8) سورة الروم الآية 47.
(9) سورة الأنعام الآية 34.
(10) سورة آل عمران الآية 200.
(11) سورة القصص الآية 5.
(12) سورة النور الآية 55.
(13) سورة آل عمران الآية 147.
ألقيت المحاضرة في قاعة الجنان- طريق المطار-محرم 1422ه.