"واجعل يقيني أفضل اليقين". اليقين هو التصديق الجازم الناشئ عن العلم والذي لا يعتريه ريب، وعلى الإنسان أن لا يكتفي بما يُشعره باليقين، بل أن يطلب أفضل اليقين الذي يؤمِّن له رسوخ الإيمان، فلا شكٌ، ولا ريبٌ، ولا شبهةٌ تزلزل الاعتقاد والتسليم لله تعالى. وها هو النموذج الأرقى في يقين أمير المؤمنين علي(ع):"لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا"(28)، إنَّها درجة العصمة التي تعيش الإيمان حالة كمال في كل شيء، وهي محطة القدوة التي يجب أن نعمل بهديها للارتقاء إليها. إنَّ اليقين درجة أعلى من الإيمان والتقوى، فعن أبي الحسن(ع):"الإيمان فوق الإسلام بدرجة، والتقوى فوق الإيمان بدرجة، واليقين فوق التقوى بدرجة، وما قُسم في الناس شيء أقل من اليقين"(29).
ما الذي يمنعك أن تسعى لتكون واحداً من هؤلاء القلة من المتيقنين؟! إنها درجات تجتازها واحدة بعد أخرى في محطَّات تصاعدية، من الإسلام، إلى الإيمان، فالتقوى، فاليقين، إلى أفضل اليقين.و"اعلم أنَّ العمل الدائم القليل على يقين، أفضل عند الله جلَّ ذكره من العمل الكثير على غير يقين"(30).
وما هي علامة اليقين؟ هل تريد اختبار نفسك وتحديد موقعك؟
عن اسحاق بن عمار قال: سمعت أبا عبد الله(ع) يقول:"إن رسول الله(ص) صلَّى بالناس الصبح، فنظر إلى شاب في المسجد وهو يخفق ويهوي برأسه، مصفراً لونه، قد نحف جسمه، وغارت عيناه في رأسه، فقال رسول الله(ص):كيف أصبحت يا فلان؟
قال: أصبحت يا رسول الله موقناً.
فعجب رسول الله(ص) وقال: إن لكل يقين حقيقة فما حقيقة يقينك؟
فقال:إن يقيني يا رسول الله هو الذي أحزنني، وأسهر ليلي، وأظمأ هواجري، فعزفَت نفسي عن الدنيا وما فيها، حتى كأني أنظر إلى عرش ربي، وقد نصب للحساب، وحشر الخلائق لذلك وأنا فيهم، وكأني أنظر إلى أهل الجنة، يتنعمون في الجنة، ويتعارفون على الأرائك متكئون، وكأني أنظر إلى أهل النار وهم فيها معذبون مصطرخون، وكأني الآن أسمع زفير النار، يدور في مسامعي.
فقال رسول الله(ص) لأصحابه: هذا عبدٌ نوَّر الله قلبه بالإيمان. ثم قال له: الزم ما أنت عليه.
فقال الشاب: ادع الله لي يا رسول الله أن أرزق الشهادة معك.
فدعا له رسول الله(ص)، فلم يلبث أن خرج في بعض غزوات النبي(ص) فاستشهد بعد تسعة نفر وكان هو العاشر"(31).
هذا الشاب الذي يُحتمل أن يكون حارثة بن مالك الأنصاري، واحد من ثلةٍ مؤمنة أقاموا الدين على الأرض بجهادهم وتضحياتهم، وبإمكانك أن تكون واحداً منهم، فتأمل فيما أنت عليه، وتخلَّى عن هذه الدنيا الفانية بترك حرامها، وأَقْبِلْ على الآخرة بشوق لقاء الأحبة، ودرِّب نفسك على أن تستكشف روحُك مصيرها ومصير الخلائق، في مشهد يستحضر صورَ يوم القيامة، لتكون حاضرة لديك كما تحضُر عند المتقين الموقنين، الذين يعيشون لحظات السعادة الأبدية في النعيم الدائم، ويحزنون لشقاء الضالين مع ما يحيط بهم من الجحيم المستعر الذي يذيب البشر والحجر، ويتلهَّفون لتنطلق أرواحهم من أجسادهم كي ينغمسوا في لذة العطاء الإلهي الدائم، وقد وصفهم أمير المؤمنين علي(ع) بقوله:"ولولا الأجل الذي كتبَ الله عليهم لم تستقرَّ أرواحهم في أجسادهم طرفة عين، شوقاً إلى الثواب، وخوفاً من العقاب. عظُم الخالق في أنفسهم، فصغُر ما دونه في أعينهم، فهم والجنةُ كمن قد رآها فهم فيها منعَّمون، وهم والنار كمن قد رآها، فهم فيها معذَّبون. قلوبُهم محزونة، وشرورُهم مأمونة، وأجسادهم نحيفة، وحاجاتهم خفيفة، وأنفسهم عفيفة. صبروا أياماً قصيرة أعقبتهم راحة طويلة. تجارةٌ مربحة يسَّرها لهم ربهم. أرادتهم الدنيا فلم يريدوها، وأسَرتهم فَفَدوا أنفسهم منها"(32).