سبيل الله

الشهادةُ خيارٌ دفاعيٌ فَعَّال.

الشهادةُ خيارٌ دفاعيٌ فَعَّال.

لم تكن الشهادة أمراً طارئاً في حياة الامة, فتربيتها وسلوكها مبنيان على الايمان بها, وانما أصبحت مثار جدل عند البعض, بسبب تقاعس الامة, وغرقها في ملذاتها, واقبالها على الدنيا بزخارفها وزينتها, وعندما تعود الامة الى التفاعل مع عطاءات الشهادة, فهي تعبِّر عن عودتها الى ايمانها وأصالتها.
تبقى أي مقاومة للعدو عاجزة عن تحقيق أهدافها ما لم تصل إلى الاستعداد للشهادة، التي تُعتبر خياراً دفاعياً فعالاً ومؤثراً، وتعطي الأمل بردع العدو وتحقيق النصر، كما نتلمَّس أهميتها من خلال الأمور التالية التي تؤكد على الشهادة كخيار دفاعي:
1- يعتمد العدو على القدرة العسكرية الأحدث والأكثر تطوراً للسيطرة، وتعتمد المقاومة المسلَّحة على إمكانات عسكرية متواضعة قياساً بما عند العدو، حيث لا يمكن لقدرات المقاومة التفوق على قدرات العدو، ولا تنافس قوةُ المقاومة قوةََ العدو، فإذا ما ربَّت المقاومة أفرادها على الاستعداد للشهادة، امتلكت قوةً معنوية تضيفها إلى قوتها المادية. انَّ المستعد للشهادة إنسان مبدئي مؤمن، اختار طريقه بملء إرادته، وهو يدرك أهمية الخطوة التي يُقدم عليها، وما تحمله من رصيد في استعداداته مع إخوانه للمواجهة. المستعد للشهادة صاحبُ عزيمة وتصميم، مؤمنٌ بمساره ومصيره، جاهزٌ للمخاطر والأعباء، وهو يمتلك قوةً إضافية تُكسِبُه اياها الشهادة، قوةً مُستمدَّة من الايمان بقوة الله الى جانب المؤمنين, تُمثِّل نموذجاً من القوة الانسانية, ليس مألوفاً لدى البشر في الحالات العادية, وهو يأمل التوفيق من الله تعالى: "وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ"(208).
وكما يكون التفاوت متحققاً لمصلحة العدو في القوة المادية، كذلك يكون التفاوت في القوة المعنوية، ولكن لمصلحة المقاومين، وهي تزيد من رصيد قوتهم كلما ازدادت لديهم، ولا يمكن إجراء القياس الدقيق لمستوى الإضافة الذي تهيِّئه الشهادة، إذ أنها تتكامل مع الإعداد العسكري والتدريب والخطط... وتتأثر قبل كل ذلك بمستوى الإيمان بمَدَد الله تعالى للمؤمنين، وهذا ما ينعكس إيجابياً وبشكل كبير على نتائج المواجهة.

2- يُزيلُ الاستعداد للشهادة حاجز الخوف من الموت, "وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَّحِيماً"(209), ما يعطي دفعاً وقوة للمجاهدين، في مقابل إسقاط فعالية السيطرة عند العدو الذي يعتمد فيها على إخافة خصمه، وهذا ما يوقع العدو في حيرة من أمره. فاستخدام القوة للإخافة بالقتل ليس مجدياً في المعركة مع المجاهدين، وهذا مؤشر إضافي لمصلحة المجاهدين في ميزان القوة، فعدم خوفهم قوة مضافة إلى قوتهم، تُنقِص من قوة عدوِّهم.

3- يعيش المؤمنون حالة من الاطمئنان بأنَّهم الأقوى مع قلة العدد والعدة، وأنَّ الواحد منهم يساوي عشرة من الأعداء, وذلك لإخبار الله تعالى لهم بذلك, قال تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ" (210)، وأن الأعداء يتوهمون قدرة المؤمنين فيفاجأون ويخسرون، "وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الأمُورُ"(211)، فتزداد قوة المستعدين للشهادة من جهتين: قناعتهم وواقعهم بأن قوتهم العددية مضاعفة مرات ومرات عن واقعها المادي، وإحباط أعدائهم بالمفاجأة بقدرة المؤمنين ونوعيتها ما يُضعِف قدرتهم مرات ومرات عن واقعها المادي.

4- دافعُ الشهادة المرتبطة باستعادة الحق أقوى من دافع العدوان المرتبط بالظلم والغصب، فإذا ما أضيفت ثمار الشهادة في سبيل الله, والتي تفتح أفق التعويض عند الله تعالى في يوم القيامة، بحيث يكون الموت محطةً إلى الآخرة التي فيها وَعْدُ الجنة، فإنَّها تنافس خوف المعتدي من الموت, الذي هو نهاية الحياة بالنسبة اليه, فلا أمل له الاَّ بالهروب منه. وقد أجرى الله تعالى مثل هذه المقارنة, عندما تحدث عن الألم الناتج عن القتال عند الفريقين، مع فارق جوهري يتمثل بالأمل والرجاء عند المؤمنين، قال تعالى: "وَلاَ تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً"(212).

5- يفتح الإقدام على الشهادة فرصة لتحقيق النصر المادي والفوز على الأعداء، في مقابل انعدام الفرص عبر الوسائل الأخرى، فعلى مستوى الفرد: قد يستشهد وقد ينتصر، وعلى مستوى الجماعة: قد يستشهد أفراد وتنتصر الأمة، ومن دون الإستعداد للشهادة والمواجهة التي يسقط فيها الشهداء يزداد الواقع سوءاً، ويتمكَّن العدو من فرض أهدافه كاملة.

6- تحققُ شهادة المجاهدين ردعاً للعدو، فإذا ما كان الانتصار متعذِّراً، وتفكيكُ قدرة العدو عسيراً، فإنَّ ردعه عن المزيد من السيطرة والعدوان والاحتلال إنجازٌ مهم، إلى حين تغيُّر الظروف وتطور قدرة المقاومة. ولو لم يكن من هدفٍ مرحلي للمقاومة إلا إعاقة حركة العدو وتجميد مشروعه، لكانت الشهادة في هذا السبيل عملاً جباراً يؤسّس لأفقٍ مفتوح في المستقبل أمام الأجيال القادمة، لتغيير المعادلة، وإعادة الحق إلى أهله.
الهوامش:
208- سورة هود، من الآية: 88.
209- سورة النساء، الآية: 100.
210- سورة الأنفال، الآية: 65.
211- سورة الأنفال، الآية: 44.
212- سورة النساء, الآية: 104.