’الدنيا سجن المؤمن’افتتاحية العدد 229
الدنيا سجن المؤمن
يرتبط أداء الإنسان وكل سلوكه بنظرته إلى الدنيا: هل الدنيا كل الحياة؟ أم أن الدنيا جزءٌ منها ومعبرٌ إلى حياة خالدة في الآخرة؟
ولعلَّ البعض يستنكر هذا التساؤل، خاصة في أوساطنا الاجتماعية، إذ يعتبر أنَّ الجميع مؤمنون باليوم الآخر، وبالتالي فالأمر محسوم! وفاته أنَّ المقصود هو الإيمان الحقيقي العملي، الذي ينعكس سلوكاً في حياة الإنسان، إذ لا يكفي الإيمان باللسان أو التحليل المنطقي، بل لا بدَّ من العمل الذي يثبت الإيمان بالآخرة. وفي القرآن الكريم، يربط الله تعالى بين التكذيب بيوم الدين أي يوم القيامة ودفع اليتيم، وعدم الحض على طعام المسكين...:" أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ "(1).
كل حياتنا مرتبطة بنظرتنا العملية إلى الدنيا، التي يعبِّر عنها جلَّ وعلا بالمتاع الزائل القليل: "فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآَخِرَةِ إِلاَ قَلِيلٌ"(2)، وما عند الله خيرٌ وأبقى: "ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ"(3). وهي التي قال عنها رسول الله(ص): "الدنيا سجن المؤمن وجنَّةُ الكافر"(4).
الدنيا سجنٌ للمؤمن بما فيها من اختبارات وابتلاءات وتكاليف وتعب وجهد، وبما يحيط به من ظلمٍ وفساد وزينةٍ محرَّمة ووسوسات شيطانية، وبما تتطلبة من تضحيات وتحديات وصبرٍ ومخالفةٍ لهوى النفس، فهي حياة مؤقتةٌ فانيةٌ ينتقل منها إلى جنة الخلد والنعيم الأبدي، ومع شوقه إلى جنة الله تعالى وما فيها تكون الدنيا بمثابة سجنٍ له بما فيها من فناءٍ وبلاء. أمَّا الكافر فيعتبرها كل الحياة التي يتمتع بها فلا حياة بعدها، ومهما عمل من آثام ومنكرات من أجل راحته ولذته، فهو يستثمر دنياه وحياته الوحيدة، لذا يتعامل معها بأنَّها الجنة التي عليه التزود منها من دون ضوابط. وينطبق عليه قول الله تعالى: "بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا"(5)، وقول الرسول(ص): "يأتي على الناس زمانٌ لا يبالي الرجل ما تلف من دينه إذا سَلِمَتْ دنياه"(6).
إنَّ تعاملنا مع الدنيا ينعكس على كل حياتنا وسلوكنا، فإذا اعتبرناها معبراً للآخرة، اخترنا سبيل الله خطاً مستقيماً، لا نحيد عن هديه وأوامره ونواهيه، قال تعالى: "وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"(7)، وهذا ما يجعلنا في دائرة الموعودين بالنصر والاستخلاف، مع كل آلام ومرارات الدنيا، إذ أنَّ إرادته جلَّ وعلا أنْ تكون كلمته الأعلى، وأنْ ينتصر الحق على الباطل انتصاراً شاملاً يملأ الدنيا على يد الإمام المهدي(عج)، فإذا عملنا في هذه الاتجاه، هانت علينا المصاعب والابتلاءات بما سنحققه في هذه الدنيا، وقد روي عن العياشي باسناده عن الإمام زين العابدين(ع): " أنه قرأ الآية: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ. وقال: هم والله شيعتنا أهل البيت. يفعلُ الله ذلك بهم على يدي رجلٍ منَّا، وهو مهدي هذه الأمة، وهو الذي قال رسول الله (ص): "لو لم يبقَ من الدنيا إلا يومٌ واحد لطوَّلَ الله ذلك اليوم، حتى يلي رجلٌ من عترتي، اسمه اسمي، يملأ الأرض عدلاً وقسطا كما ملئت ظلماً وجورا"(8).
لا تستعجل الأمور، فإنَّ لكل أمر أوانه ووقته، وأنت لا تعلم ما يخبئه الله تعالى لك من خيرات وتوفيق، وقد يكون التأخير لمصلحة أكبر وأفضل، فعن الإمام زين العابدين(ع): "ولعلَّ الذي أبطأ عني هو خيرٌ لي لعلمك بعاقبة الأمور"(9)، وسيكون وقت الظهور الذي يعم العدل والخير هو الوقت الأفضل لمصلحة المؤمنين والبشرية جمعاء.
"أيها العزيز. إذا كان لكل شيء تعويضٌ وبدل فلِمَ الحزن؟ وإذا كان الله عوناً لك فلم الوحشة والضياع والقلق؟ وإذا كانت التوبة مقبولة فلِمَ الاستسلام للفساد؟ وإذا كان التغيير ممكناً فلِمَ الاستهتار بارتكاب المنكرات؟ وإذا كانت الدنيا للفناء فلِمَ التعب سعياً للبقاء فيها؟ وإذا كانت الآخرة للخلود فلِمَ لا تشحذ همتك باللجوء إلى الله للتخلص من كل ما يعيق نجاتك؟!"(10).
إذا أردت أن تتصف أيَّها المؤمن بصفات المؤمنين بالآخرة حقاً، فاستفد مما وصف أمير المؤمنين علي(ع) ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن، فقال: "ينبغي للمؤمن أن يكون فيه ثماني خصال: وقورٌ عند الهزائز، صبورٌ عند البلاء، شكورٌ عند الرخاء، قانعٌ بما رزقه الله، لا يظلم الأعداء، ولا يتحامل للأصدقاء، بدنه منه في تعب، والناس منه في راحة"(11).
الهوامش:
1- سورة الماعون، الآيات: 1-3.
2- سورة التوبة، من الآية: 38.
3- سورة آل عمران، من الآية: 14.
4- الحرَّاني، تحف العقول، ص: 53.
5- سورة الأعلى، الآية: 16.
6- الحرَّاني، تحف العقول، ص: 52.
7- سورة الأنعام، الآية: 153.
8- الشيخ الطبرسي, تفسير مجمع البيان, ج 7, ص: 267.
9- من دعاء الإفتتاح.
10- كاتب المقالة، من كتابه سبيلك إلى مكارم الأخلاق، ص: 216.
11- الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص: 231.