’علة الغيبة الكبرى’ افتتاحية العدد191
علة الغيبة الكبرى
لماذا الغيبة الكبرى عن الناس للإمام المهدي(عج) ؟
وهل لها مبررات عقلية أم تعبدية؟
هل من حكمة في عدم التدخل الإلهي لفرض إرادته بنصرة الإمام(عج) من دون هذه الغيبة الطويلة؟
وهل يعتبر الخوف على الحياة من الأعداء مبرراً كافياً لهذه الغيبة؟
سئل الشيخ المفيد(رض) وهو من كبار علمائنا ممن عاشوا في القرن الرابع الهجري(ت413هـ) بما يلي:" إذا كان السبب في الغيبة - التي طالت مدتها ، و امتدت بها الأيام - هو كثرة الأعداء، والخوف على نفسه منهم ، فقد كان الزمن الأول على الأئمة من أبائه أصعب ، وكان أعداؤهم أكثر ، والخوف على أنفسهم أشد وأكثر ، ومع ذلك فإنهم كانوا ظاهرين ، ولم يستتروا ، ولا غابوا عن شيعتهم ، حتى أتاهم اليقين، فهذا يُبطل هذه العلة في الغيبة .
فأجاب الشيخ باختلاف الحالتين: حالة صاحب الزمان(عج)، وحالة الأئمة من آبائه (عم). إنَّ الذي يظهر من أحوال الأئمة الماضين (عم)، أنهم أُبيحت لهم التقية من الأعداء ، ولم يكتفوا بالقيام بالسيف مع الظهور ، لعدم مصلحة في ذلك ، ولم يكونوا ملزمين بالدعوة ، بل كانت المصلحة تقتضي الحضور في مجالس الأعداء ، والمخالطة لهم ، ولهذا أذاعوا تحريم إشهار السيوف عنهم ، وحظر الدعوة إليها ، لئلا يزاحم الأعداء ظهورهم وتواجدهم بين الناس . وقد أشاروا إلى مجيء منتظرٍ يكون في أخر الزمان ، إمام منهم ، يكشف الله به الغمة ، ويحيي به السنة ، يهدي به الأمة ، لا تسعه التقية عند ظهوره . و قد ذكر الشيخ في هذا المورد عدة من علامات الظهور . ثم قال: فلما ظهر ذلك من السلف من آباء صاحب الزمان(عم)، وتحقَّق عند سلطان كل زمان، وملك كل أوان، علموا من الأئمة الماضين(عم) أنَّهم لا يتدينون بالقيام بالسيف ، و لا يرون الدعاء إلى أنفسهم ، وأنهم ملتزمون بالتقية ، وكف اليد ، وحفظ اللسان ، والتوفر على العبادات، والانقطاع إلى الله بالأعمال الصالحات . لما عرف الظالمون من الأئمة هذه الحالات، أمَّنوهم على أنفسهم ، مطمئنين بذلك إلى ما يدبرونه من شؤون أنفسهم ، ويحققوه من دياناتهم ، وكفَّهم ذلك عن الظهور والانتشار ، واستغنوا به عن الغيبة والاستتار . لكنَّ إمام هذا الزمان(عم)، لما كان هو المشار إليه بسلِّ السيف ، والجهاد لأعدائه ، وأنَّه هو المهدي الذي يُظهر الله به الحق ، ويُبيد بسيفه الضلال، كان الأعداء يترصدونه ، ويبغون قتله ، ويطلبون قتله وسفك دمه.
وحيث لم يكن أنصاره متهيئين إلى وقت ظهوره ، لزمته التقية ، وفُرضت عليه الغيبة ، إذ لو ظهر بغير أعوان لألقى نفسه بيده إلى التهلكة ، ولو أظهر نفسه في غير وقته لم يألُ الأعداء جهداً في استئصاله وجميع شيعته وإراقة دمائهم على الاستحلال.
ولما ثبتت عصمته بأدلتها وجب استتاره من أعدائه، حتى يعلم - يقينا لا شك فيه - حضور الأعوان، واجتماع الأنصار، وتكون المصلحة العامة في ظهوره بالسيف . فافترقت حاله عن حال آبائه الأئمة عليهم السلام.
ثم إن الشيخ (المفيد) عارض الخصوم ببيان أحوال النبي(ص) وسيرته الشريفة، حيث أقام في مكة ثلاثة عشر سنة، لا يرى سلَّ السيف ولا الجهاد ، وتصبَّر على التكذيب ، وصنوف الأذى ، وتعذيب أصحابه بأنواع العذاب، وكان المسلمون يسألونه الإذن لهم في سلِّ السيف ومباينة الأعداء، فيمنعهم ويأمرهم بالصبر ، ولم يزل كذلك حتى طلب من النجاشي ملك الحبشة أن يخفر أصحابه من قريش، ثم أخرجهم إليه، واستتر خائفاً على دمه في شعب أبي طالب، ثلاث سنين، ثم خرج من مكة بعد موت عمه أبي طالب مستخفياً، وأقام في الغار ثلاثة أيام ، ثم هاجر إلى المدينة . وهناك رأى القيام بالسيف واستنفر أصحابه ، وهم يومئذ ثلاثمائة و بضعة عشر رجلاً، ولقي بهم ألف رجل من أهل بدر، ورفع التقية عن نفسه، إذ ذلك.
وسرد الشيخ (المفيد) حوادث عديدة من السيرة الشريفة، ثم قال: فلم لم يقاتل في مكة ؟ وماله صبر على الأذى؟ ولم منع أصحابه من الجهاد وقد بذلوا أنفسهم في نصرة الإسلام ؟ وما الذى اضطره إلى الاستجارة بالنجاشي؟ لم وما الذي دعاه إلى القتال بأصحابه مع قلة عددهم وتثاقل بعضهم؟ وما وجه اختلاف أحواله وأعماله في هذه المواضع؟ فما كان في ذلك جوابكم فهو جوابنا في الفرق بين الأئمة(عم) وبين صاحب الزمان عليه السلام في الظهور والغيبة. والوجه عندنا واضح ، وهو التعبد - في كل الأحوال - بما أمرهم الله تعالى، وما قرَّره عليهم من العمل والسيرة، طبقاً للمصالح التي هي لعامة الخلق ، والمعصومون عليهم السلام عباده المكرمون " لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ" (1).
يتحصل لدينا في النتيجة:
1- أنَّ الغيبة إرادة إلهية، وتكليف خاص بالإمام المهدي(عج)، ولكل إمام من الأئمة(عم) تكليفه، فمنهم من كان تكليفه الصبر ثم التصدي للحكم كما حصل مع الإمام علي(ع) الذي أُبعد عن الخلافة خمسة وعشرين سنة ثم تصدى لها في لحظة الانقاذ لمسار الرسالة والدولة، ومنهم من كان تكليفه الصلح كما حصل للإمام الحسن(ع) مع معاوية لحفظ الأمة، ومنهم من كان تكليفه القتال لحماية استقامة الدين والإصلاح في الأمة كما حصل مع الإمام الحسين(ع) في مواجهة يزيد، وهكذا فالغيبة تكليف الإمام المهدي، وإرادة الله تعالى في إطالة عمره لدوره المنتظر في إقامة العدل الإلهي على الأرض.
2- إن ترك الأمور لتأخذ مداها في معاناة الأنبياء(ص) والأئمة(عم)، وعدم التدخل الإلهي إلاَّ في محطات محددة في التاريخ، كالمعجزات التي حصلت مع الأنبياء لإنقاذهم، مثل إبراهيم(ع) مع النمرود، والطوفان مع قوم نوح(ع)، وما حصل ليلة مبيت أمير المؤمنين علي(ع) مكان النبي محمد(ص) ثم ما حصل في غار حراء عند نسج العنكبوت، إنما يدل على القوانين التي رسمها الله تعالى للبشر في أن يترك لهم حرية الاختيار، والاستقامة أو الانحراف، بحسب ما أودع من إمكانات لدى البشر، ليكون التدخل الإلهي جزء من هذه القوانين. لذا فإن مدى الغيبة الطويلة جزء من سريان هذه القوانين الإلهية في حرية اختيار البشر، والتدخل في محطة محددة من تاريخ البشرية.
3- تهيئة أسباب الانتصار بتوفر العدد المهيء على المستوى القيادي وهو ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً بعدد المسلمين في بدر، وكذلك توفير مقومات استخدام العدة الملائمة في زمان الظهور لتحقيق الانتصار، بتوفير القوة لصاحب العصر والزمان(عج) التي يحتاجها لتحقيق هذا الإنجاز التاريخي العظيم على مستوى البشرية جمعاء.
4- علينا أن لا نتعلق بالنصر فيضيق صدرنا عن الانتظار، بل نقوم بتكليفنا في الثبات على الحق والانتظار مهما طال الزمن، بما يشكل الانتظار من التزام بواجبنا في أن نعمل في سبيل الله تعالى، سواء توفقنا بتمتيع أنظارنا برؤية الإمام(عج) في حياتنا أو لم نتوفق بالانقياد تحت لوائه في حياتنا. فمسار الإسلام يشكل جزءً من أجزاء هذه المسيرة الإلهية، حيث لا ترتبط أهميتها بمرحلة دون أخرى بالنسبة لكل فردٍ منّا، بل المهم أن نثبت على الإيمان والولاية.
ففي إجابة السائل: فإن مت قبل أن أدرك القائم(عج)؟ قال الإمام الباقر(ع):" القائل منكم: إن أدركت القائم من آل محمد نصرتُه، كالمقارع معه بسيفه، والشهيد معه له شهادتان"(2).
الهوامش:
1- الشيخ المفيد، رسائل في الغيبة، ج3، ص: 3.
2- البرقي، المحاسن، ج1، ص: 173.