الكلمة التي ألقاها نائب الأمين العام لحزب الله سماحة الشيخ نعيم قاسم في المجلس العاشورائي المركزي في الليلة الثانية في مجمع سيد الشهداء في بيروت 8-7-2024م، ومما جاء فيها:
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الخلق مولانا وحبيبنا وقائدنا أبي القاسم محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين، السلام على الحسين وعلى علي ابن الحسين وعلى أبناء الحسين وعلى أصحاب الحسين وعلى الشهداء في كربلاء وعلى شهداء الأمة الإسلامية منذ آدم إلى قيام يوم الدين. السلام عليكم أيها الزينبيون والزينبيات، أيها السادة العلماء ويا عوائل الشهداء ورحمة الله وبركاته.
عاشوراء تعطينا ولا تنضب، عاشوراء تعلمنا حياتنا ومستقبلنا، عاشوراء تضيء لنا درب السعادة في الدنيا والثواب في الآخرة. خلق الله تعالى الإنسان وأراد له أن يكون خليفة له على الأرض "إني جاعل في الأرض خليفة"، وترك الخيار لهذا الإنسان أن يختار أن يكون خليفة الله تعالى أو أن يرفض هذه المهمة ويفشل فيها، ولكن الله تعالى لم يترك الإنسان من دون توجيهات وتعاليم ليعرف كيف يتقن حياته على هذه الأرض، كيف يكون خليفة لله تعالى على هذه الأرض، وكيف يعيش حياته بأفضل ما يكون على هذه الأرض، فأرسل الأنبياء والرسل والأئمة والقادة الذين عملوا في هذا الاتجاه، وكانت التضحيات الكبرى عبر التاريخ لإحياء تعاليم الدين من أجل هدف مركزي أساسي "من أجل إقامة العدل". نحن اليوم أمام مهمة كبرى كما كان من عاش قبلنا وكما سيكون من سيأتي بعدنا. إذا أردنا أن نكون في المنظومة الإلهية في منظومة الخلافة لله تعالى علينا أن نعمل من أجل إقامة العدل، الإمام الحسين سلام الله تعالى عليه جسَّد هذه المهمة بأعلى وأعظم تضحية بالشهادة مع الأهل والأصحاب في عطاء لم يكن له مثيل في التاريخ ولن يكون له مثيل في المستقبل.
اخترت موقفين للإمام الحسين سلام الله تعالى عليه لتأكيد هذا المعنى والعمل من أجل إقامة العدل، الموقف الأول عندما كان في طريقه إلى كربلاء وفي منطقة إسمها البيضاء حيث بدأ اجتماع الحر مع جماعته والإمام الحسين سلام الله تعالى عليه مع جماعته، فوقف الإمام الحسين خطيباً ومما قاله: "ألا إنَّ هؤلاء (يقصد يزيد ومن معه) قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد وعطلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلوا حرام الله وحرموا حلاله وأنا أحق من غيَّر". إذاً الهدف المركزي كان مواجهة الظلم، وعندما نتكلم عن الظلم نتكلم عن الانحراف ونتكلم عن الضلال وعن الأخطاء، نتكلم عن السيئات ونتكلم عن الحرام، كل هذه العناوين مصاحبة للظلم، في المقابل عندما نتحدث عن العدل نتكلم عن الحق، عن الإنسانية، عن الإيمان، الاستقامة، الأخلاق، الإنصاف، إعطاء الحقوق، كل هذه العناوين الإيجابية منسجمة مع العدل. فالإمام سلام الله تعالى عليه يريد أن يواجه هذه الطغمة الظالمة المنحرفة الضالة من أجل إقامة العدل "وأنا أحق من غيَّر". الموقف الثاني عندما خرج من المدينة المنورة إلى مكة المكرمة وكتب وصية إلى أخيه محمد بن الحنفية جاء فيها "إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي رسول الله صلى الله عليه وآله أريد أن أمر بالمعروف وأنهى عن المنكر"، أي أن الوظيفة التي يريد أن يقوم بها هي إقامة العدل وإحقاق الحق، الإصلاح من أجل العدل، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتصويب المسار نحو الاستقامة من أجل إقامة العدل. إذا أراد الإنسان أن يحيا حياة فيها الطمأنينة والشرف والكرامة والإنسانية والأخلاق يجب أن يكون عادلاً، وأن يعلم أنَّ وظيفته الأساسية على هذه الأرض أن يقيم العدل. عندما نأتي إلى اللغة العربية، ورد في لسان العرب: العدل ما قام في النفوس أنه مستقيم، أي الذي يقوم بنفس الإنسان أنه مستقيم وهو ضد الجور، أي العدل ضد الظلم، وعندما نقول العدل يعني الحكم بالحق، ويقال يقضي بالحق ويعدل فإذن العدل هو المسار المركزي لعيش الحياة الإنسانية الأساسية. إذاً نحن نريد أن نقول هل العدل مقبول إنسانياً؟ إذا سألنا المجتمع البشري عن العدل والظلم، فيقال العدل حسن والظلم قبيح، الحق حسن والضلال قبيح، الاستقامة حسنة والانحراف قبيح. يعني حتى عندما تسأل أنت على المستوى الإنساني بحسب ما أعطى الله تعالى من مقدمات والبديهيات في التفكير الإنساني، الإنسان وحده قبل أن يتعلم، وقبل أن يتعرف على الرسالة الإلهية أو الرسالات السماوية، كل واحد في حياتنا يقول هذا حسن وهذا قبيح. إمامنا الخامنئي دام ظله يقول هناك أشياء لا تتغير، ومنذ بداية التاريخ إلى اليوم حسن العدل والمطالبة بالعدالة لم يتغير وقبح الظلم لم يتبدل، وحسن الاستقلال الوطني والعزة الوطنية لم يتغير، هذه من الثوابت أن يعمل الإنسان من أجل العدل. يسألنا البعض أنتم ما مشروعكم؟ مشروعنا إقامة العدل ونحن لا نريد شيئاً آخر. أذكر أنه في مقابلة مع أحد الصحافيين قال لي: تسرَّب أنكم تريدون مدراء عاميِّن، كم مديراً تريدون؟ قلت له نريد كل المدراء العاميِّن، قلت له أنَّه بحال تم تعيين المدراء العاميِّن وفق الكفاءة والأخلاقيات والنموذج الإنساني والاستقامة فكلُّ واحد منهم هو لنا حتى لو لم نعيِّنه نحن، لأنَّنا نريد العدل سواء أتى على أيدينا أو أتى على أيدي غيرنا. العدل أن تضع الأمور في نصابها، الله عز وجل يأمرنا ويقول "إن الله يأمر بالعدل والإحسان"، الإمام علي سلام الله تعالى عليه يفسر هذه الآية فيقول العدل الإنصاف والإحسان التفضل يعني أن تكون عادلاً أي أن تنصف، الله عز وجل عندما يوجهنا يقول: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا ۚ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ، وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ}، لاحظ الربط بين الأمرين، المطلوب منك يا محمد أن تستقيم أنت ومن تاب معك، ولا تذهبوا إلى الطغيان، الاستقامة هنا العدالة، ولا تسلِّموا ولا تركنوا للذين ظلموا لأن هؤلاء الجماعة إذا استسلمت لهم أو أيَّدتهم او ناصرتهم أو إذا كنت تتلقى منهم المساعدات والأوامر فهذا يعني أنك خرجت عن دائرة العدل. الإمام الخميني (قده) يقول: القرآن دعا إلى المعنويات والمعنويات يعني الأشياء الروحية الإيمانية والارتباط بالله تعالى، إلى ذلك الحد الذي يتمكن فيه الإنسان من الوصول إليه (إلى الله) أي دعا إلى أن تكون الحالة المعنوية عند الإنسان من خلال الصلاة، الصوم، الذكر، قراءة القران، التفاعل مع الله تعالى حتى يرفع وتيرة الارتباط القلبي بالله عز وجل، لأنَّ هذا المدد الإلهي الذي يعيشه الإنسان كلما ارتقى كلما ارتقى الإنسان في عطاءاته، وكلما اقترب الإنسان من الله تعالى أكثر كلما استمع إلى توجيهاته، وتوجيهاته من أجل إقامة العدل والحق على هذه الأرض، وهذه مصلحة إنسانية أكيدة، ثم يقول وأيضاً إقامة العدل، إذاً لدينا أمران المعنويات وإقامة العدل. إن الرسول وجميع الذين تكلموا بلسان الوحي عملوا بهذين الأمرين، عملوا بالتربية المعنوية الروحية والعلاقة مع الله وتعزيز الإيمان، وعملوا أيضا على العدل، لأن العدل هو الترجمة المباشرة لهذا الالتزام وهذا الإيمان. بعد هذه المقدمة التي لها علاقة بالعدل، نأخذ مثالين ونحاول أن نطبق على كل مثل من المثالين رؤيتنا للعدل وطبيعة العدل، أول مثال هو المقاومة، المقاومة بالنسبة إلينا عدل، ومقابل المقاومة الاحتلال والاحتلال ظلم، فعندما ندعو إلى المقاومة نحن لا ندعو إلى تحقيق مكاسب فئوية أو طائفية أو مناطقية أو وطنية أو ما شابه ذلك إنما ندعو لإقامة العدل، وأمَّا الاحتلال فهو ظلم سواء اسمه احتلال إسرائيلي أو احتلال فرنسي أو احتلال أمريكي أو احتلال بريطاني، وكل الاحتلالات التي مرَّت عبر التاريخ، لا يوجد أي احتلال من الاحتلالات يمكن أن نقول عنه بأنه كان عملاً شريفاً أو نبيلاً، بل نقول أنه كان عملاً خسيساً ومنحطاً ومسيئاً للبشرية، ويجب أن ينتهي هذا الاحتلال وانتهى من المعمورة بتحركات المقاومين من أبناء هذه البلدان المختلفة. إذاً المقاومة عدل والاحتلال ظلم، نصرة المقاومة عدل، يعني عندما تكون مع المقاومة فهذا عدل، حتى ولو كنت عاجزاً عن مساندة المقاومة لأسباب صحية أو اجتماعية أو سياسية. يمكنك أن تناصر المقاومة بالكلمة والموقف والمال، إذا نصرت المقاومة فأنت تسير على طريق العدل، لكن في المقابل بما أن الاحتلال ظلم، فدعم الاحتلال ظلم، عندما تعطي أمريكا السلاح لإسرائيل هي ظالمة وتدعم الظلم، عندما تؤيد الدول الكبرى إسرائيل هذا يعني أنَّها تدعم الظلم، لا علاقة لنا بالمبررات التي يتحدثون بها والتي يتحجَّجون بها، يقولون دفاع عن النفس، قل لي يا أخي هو احتلال أم لا؟ حتى الآن في الأمم المتحدة ومجلس الأمن عندما يريدون أن يتكلموا عن اسرائيل منذ خمسة وسبعين سنة إلى الآن يقولون دولة الاحتلال، الاحتلال ظلم وكل من يدعم الاحتلال ظالم سواء دعم بكلمة أو تأييد أو صمت يُفهم منه تأييد لهذا الاحتلال فهو يخالف العدل.
المجاهدون الذين يقاتلون من أجل تحرير الأرض، من أجل نصرة غزة، من أجل نصرة المقاومة، هؤلاء المقاتلون يعملون من أجل العدل، هم خيرة أهل الأرض بلا منازع لأنَّهم يقدِّمون دماءهم لإحقاق العدل في مواجهة الظلم المستشري في العالم والمدعوم من طواغيت الأرض وعلى رأسها أميركا، هذا أمرٌ شريف أن يكون المجاهدون من العاملين من أجل العدل.
ما يحصل في فلسطين من صبر وتضحية ومقاومة قمَّة العمل من أجل الحق والعدل والإنسانية، صحيحٌ أنَّ ما يحصل على الأرض من مجازر وأعمال بشعة وظلم لا يمكن أن يتحمله الإنسان مع هؤلاء الظلمة من الصهاينة ومن معهم، لكن كل شيء سيتغير، هذه مقدمة وطوفان الأقصى مقدمة، الدماء الطاهرة ثمن، التضحيات خطوات الانقلاب الحقيقي من أجل الحق والعدل، إسرائيل الغاصبة لا يمكن أن تبقى على الحياة على هذه الأرض، الظلم سيفنى والحق سيعلو والعدل سينتصر. هناك مفاجآت سياسية وميدانية ستؤثر على المستقبل، على الأقل انتهينا من مرحلة تهيئة الظروف لإقامة دولة إسرائيل وبدأنا بمرحلة تهيئة الظروف لإزالة إسرائيل، 75 سنة يعملون من أجل تثبيت دولة إسرائيل وفجأة اصطدموا بطوفان الأقصى، فهذا الطوفان سيكون سبباً ومقدِّمة لهذا الزوال إن شاء الله تعالى. نحن في مرحلة رسم خطوات تحرير فلسطين واستعادة شعب فلسطين للأرض.
المقاومة في لبنان كانت من خلال مقاومتنا بعد الاجتياح الإسرائيلي سنة 1982 مع كل المقاومين الشرفاء عبارة عن فكرة وعبارة عن حلم وعبارة عن احتمال، لكن بعد أن تحققت إنجازات وانتصارات عديدة صارت المقاومة حقيقة لا يمكن تجاوزها. هذه المقاومة حصلت على شرعيتها من ثلاثية الإنجاز: القوَّة التي تحمي والتحرير للأرض والانتصارات المتتالية، وهذه الثلاثية مبنية على ثلاثية الجيش والشعب والمقاومة، فنحن لدينا ثلاثية إنجاز وثلاثية جيش وشعب ومقاومة، منْ حقَّق هذه الإنجاز أي ثلاثية القوة والتحرير والانتصارات لا يمكن أن يتزحزح ولا يمكن أن ينتصر عليه أحد في هذا العالم المستكبر.
نحن في لبنان كحزب الله نبني ونحمي، لم نضعه شعاراً انتخابياً فقط، نحن نريد بناء الدولة ونريد أن نحمي الدولة ومستقبل أطفالنا وأعمالنا على الرغم من كل المواجهة والصعوبات والتضحيات والعطاءات، وما يجري من مواجهة في الجنوب وعلى الرغم مما حصل سنة 1993 و1996 والانتصار سنة 2000 والعمل الكبير الذي حصل في تموز 2006 وتضحيات 2017 ضد داعش والتكفيريين وكل المواجهات العالمية التي واجهناها كنَّا نواجه وفي آن معاً نبني، نعمل في الدولة ونشتغل من خلال الحكومة، ونمثِّل الشعب من خلال المجلس النيابي، نطرح مواقفنا السياسية من أجل العمل وكل هدفنا هو تحقيق مصالح الناس، وعملنا ونعمل على إبعاد كأس الحرب المرة عن الناس وسعينا ونسعى لإنجاز الاستحقاق الدستوري الأول وهو انتخاب رئيس للجمهورية ونحن صادقون فيما نقول، ولكن قولوا لي منذ سنة ونصف من سعى في ذلك؟ هل مطلوب منَّا نحن أن نتحرك وهم لا يتحركون؟ اقتراحاتهم مجهولة وسرية وأنتم تضمرون بأنكم لن توافقوا على ما نريد، إذاً أنتم المشكلة ولسنا نحن، نحن نقول أمام الناس هذا طرحنا وتعالوا لنتحاور، ولكنهم يرفضون ذلك! نحن نعمل لخير البلد وتحمَّلنا كل من يضع العصي في دواليب المواجهة ضد الكيان الإسرائيلي، ومع ذلك في الوقت الذي نعمل فيه لبناء البلد حضرت المقاومة في الميدان مساندة لفلسطين ورادعة للعدو ومثبِّتة لمعادلة قوة لبنان واستقلاله بخياراته على أن يكون تبعاً لأحد، من دون تأثر بالضغوطات والتهديدات وباستمرار بلورة عناصر قوة المقاومة وعزَّتها بجهوزيتها وحضورها في الميدان. نحن مستمرون في المقاومة إلى أن نغادر هذه الحياة الدنيا ولو بقينا عشرات السنين نقدِّم التضحية تلو الأخرى، وتعطينا التضحيات مزيداً من الاستقطاب والعمل والقوة، ولن نترك مجالاً من المجالات إلَّا وسنحصل على أفضل قوة وأحسن تجهيز وأحسن قدرات عملية وسنبقى نواجه إسرائيل ولو وقفت الدنيا بوجهنا ونحن مقتنعون أنَّنا سننتصر ولو بعد حين وحقق الله لنا انتصارات عديدة، ومن يفكر بتهديدنا من أجل أن نغيِّر رأينا فهو يضيِّع وقته، نحن مستمرون إلى النصر بتوفيق الله تعالى.