مواجهة نماذج وخفايا في الحرب النَّاعمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على اشرف الخلق حبيبنا وقائدنا أبي القاسم محمد(ص), وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين.
السلام عليكم أيها الأخوة والأخوات ورحمة الله وبركاته.
أشكر التعبئة التربوية لإتاحتها فرصة اللقاء مع المدراء والمسؤولين في عدد من المدارس في لبنان، لنتحدَّث عن أمرٍ كبيرٍ وخطير هو "الحرب النَّاعمة"، في محاولةٍ منّا لإيجاد أرضية مشركة للعمل في هذه الساحة, من أجل تربية أجيالنا تربية صالحة مستقيمة، فيها خدمة للوطن وللإنسان.
من المهم أن نتعرَّفَ أولًا على معنى "الحرب النَّاعمة", لأنَّها مصطلحٌ جديد لم يتم تداوله بشكلٍ كافٍ, ولا كانت له التفسيرات المناسبة خلال أعمالنا وأنشطتنا.
أولًا: تعريف "الحرب النَّاعمة". هناك أهداف يسعى الإنسان للوصول إليها، فيتَّبع أساليبًا وطرقًا لتحقيقها، وذلك إمَّا بأن يسلك الطرق المادية المباشرة والواضحة، وهي ما نسميه "القوَّة الصَّلبة"، وإما أن يتَّبع الأساليب الخفية والملتبسة والنَّاعمة التي لا تظهر للآخرين ولكنها تحقِّق الأهداف المرجوة، وهذه الأساليب هي ما نسميه "القوَّة النَّاعمة".
تتضحُ الصورة أكثر من خلال هذا المثال: أراد الاستكبار في مراحل سابقة أن يستثمر العالم الثالث، ماديًا واقتصاديًا وثقافيًا وتنمويًا، عن طريق الإحتلال, ما يتيح له بأن يعمِّم فِكرَه وقناعاته، وأن يستحوذ على ثرواته وخيراته، فاختار الغزو العسكري المباشر، وجاء بجحافله محتلًا لبلداننا ومستعمرًا لها, ثم قسَّمها وجزَّءها ليسهُل عليه السيطرة عليها، هذه الحرب هي حربٌ صلبة, لأنَّه استخدم الآلة العسكرية والقوَّة البشرية والأساليب المباشرة الواضحة للعيان, وأقامَ الاحتلال المشخَّص والموجود على الأرض قرب بيتي وبيتك.
رأى المحتلُّون بأنَّ ممانعة الشعوب بدأت تكبُر، ولم يعودوا قادرين على الاستقرار في بلداننا، ولكنَّهم أرادوا المحافظة على هيمنتهم وسيطرتهم. إذًا لا بدَّ من التفتيش عن أساليب أخرى تُساعدهم على تحقيق أهدافهم, ولا يمكن أن تكون هذه الأساليب صلبةً أو ماديةً مباشِرة، فلجؤوا إلى الأساليب النَّاعمة، وقالوا للنَّاس: نحن لا نريد منكم شيئًا، ولكن انظروا إلى نموذجنا في الثقافة والإقتصاد والتطوُّر ... أليس نموذجًا جميلًا وناجحًا؟ فيه الحريَّة والعلم والتطوُّر والتقدُّم والتقنية! الجواب: نعم، فهذا النموذج جيد, ويصلح بأن يكون قدوة. ولكن لكي تصلوا إلى هذا النموذج, لا بدَّ من نقل الخبرة إليكم, وفتح المعاهد والمراكز للتأهيل والتدريب والتعليم، مراكز تعُلِّم مبادىء الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، وتربِّي على محاورة الآخر والقبول به، وتشرح حقيقة الإنسان الماديَّة ومتطلباته في هذه الحياة, وتُعطيه أسس ومبادىء إدارة وقيادة المجتمعات واقتصاداتها ونهضتها ... كل ذلك وفق المنظومة الغربية.
الأمرُ يبدو سهلًا ويسيرًا ومقبولًا، ولكن من خلال هذا التعليم, نتشرَّب أفكار الغرب وقناعاته, ونتخلَّى تدريجيًا عن قناعاتنا، فنلتزم بما أملاه علينا, ثم ندافع عنه بقوة, فقد أصبحنا نسخةً طبق الأصل عنه في طريقة ومنهجية تفكيرنا!. وعندما يأتي أحدٌ ليقول لنا: ماذا فعلتم؟ أنتم تقلدون، وأنتم أتباع؟! ينبري من يبري ويقول: لا لسنا أتبَاع أحد، هذه قناعاتنا، نروِّج لها ونعلِّمها لأجيالنا!. هذه هي نتيجة استخدام القوَّة النَّاعمة، التي انطلت على بعض مثقفينا, فحقَّقَ للغرب نصرًا في هذه "الحرب النَّاعمة" التي تسرَّبت من خلال "القوَّة النَّاعمة", ووصل إلى أهدافه.
من هنا الفرق بين القوَّة الصَّلبة والقوَّة النَّاعمة: "القوَّة الصَّلبة" هي ماديةٌ واضحةٌ ومشخَّصةٌ يراها الجميع، أمَّا "القوَّة النَّاعمة" فهي مخفية وملتبسة ويختلف عليها الناس، بل في كثير من الأحيان لا يرونها، وهي تنساب إلى العقول والقلوب بشكلٍ هادئ.
لم يكن مصطلحُ الحرب النَّاعمة سائدًا في أدبياتنا، فهو مصطلحٌ جديدٌ في الأدبيات العالمية، وهو مشابه في المضمون لمصطلحات أخرى كانت تستخدم للتعبير عنها بأشكال مختلفة: كحرب المعنويات، وغسل العقول، والغزو الثقافي، والحرب السياسية.... عرَّفها جوزيف ناي(1) بقوله: "القدرة على الحصول على ما تريد عن طريق الجاذبية بدلاً عن الإرغام"(2). فالحرب النَّاعمة هي التي تستخدم "القوَّة النَّاعمة"، وإنَّما انطلقنا من تعريفه لأنَّه أبرز الشخصيات الأمريكية الذين كتبوا عن هذا الموضوع حديثاً، وأصدر كتاباً بعنوان "القوَّة النَّاعمة"، وبالتالي فإنَّ كل ما نراه من تحركات أمريكية في مواجهة شعوب منطقتنا وفي كل لحظة من اللحظات التي تمر، إنما هي جزءٌ من الحرب النَّاعمة التي تستخدم أمريكا فيها القوَّة النَّاعمة. وقال ناي أيضاً: "إنَّ القوَّة النَّاعمة تعني التلاعب وكسب النقاط على حساب جدول أعمال الآخرين، من دون أن تظهر بصمات هذا التلاعب، وفي نفس الوقت منع الآخرين من التعبير عن جدول أعمالهم وتفضيلاتهم وتصوراتهم الخاصة، وهي علاقات جذب وطرد وكراهية وحسد وإعجاب"(3).
ثانيًا: أهدافُ الحرب النَّاعمة. عندما يؤسس "ناي" للقِيَم والأسباب والمواهب التي تستخدم لخدمة القوَّة النَّاعمة في الحرب النَّاعمة، يخلص إلى أنَّ موارد القوَّة النَّاعمة تدور حول محاور ثلاثة:
الأول: "تعزيز القِيَم والمؤسسات الأميركية، وإضعاف موارد منافسيها وأعدائها". (القِيَم الأمريكية هي القِيَم الرأسمالية، يعني قِيَم الإيديولوجية الرأسمالية التي تُبنى على الحريات، والملكية الفردية المطلقة من دون حدود ولا ضوابط، ودور رأس المال في الإقتصاد، وهكذا... والمقصود هو أن تكون الرأسمالية فكرًا بديلًا عن الإسلام، وفكرًا بديلًا عن الشيوعية، وعن أي فكر آخر، أي أن يسود الفكر الرأسمالي بكل أبعاده وقِيَمِه الثقافية والاقتصادية والاجتماعية...).
الثاني: "توسيع مساحة وجاذبية الرموز الثقافية والتجارية والإعلامية والعلمية الأميركية وتقليص نفوذ منافسيها وأعدائها". (بحيث يكون النموذجُ الأمريكي هو الأول والمقياس, فما يشابهه يُعتبر ناجحًا، وما يخالفه يُعتبر فاشلًا، وذلك في كل الأمور: السياسية، والثقافية, والاحتفالات، وطريقة الأداء،... وكل شيء يخطر على بالكم: ثقافيًا واجتماعيًا وسياسيًا واقتصاديًا وتجاريًا، فالقصصي الأمريكي هو الأول في العالم, وأساليبه هي الأولى في العالم، وطريقة حياة الأمريكي هي الأولى، ونمط تربيته هي الأولى... فهو يريد من الناس على امتداد المعمورة أن يتعلقوا بالرموز والقدوة الأمريكية).
الثالث: "بسط وتحسين وتلميع جاذبية أميركا وصورتها وتثبيت شرعية سياساتها الخارجية، وصدقية تعاملاتها وسلوكياتها الدولية، وضرب سياسات أعدائها"(4). (يعني ما تقوله امريكا في السياسة هو الصحيح، وما ترفضه هو الخطأ، تقول أمريكا: إسرائيل لها حقٌ في الوجود، إذًا وجودها شرعي! والمقاومة إرهاب، فهي ممنوعة ومُدانة!. تقول امريكا: يجب تقسيم العالم بالطريقة الفلانية، يعني هذا هو الموقف الصحيح، وأي معارض لهذا الموقف يصبح عدوًا للبشرية! طبعًا هم لا يقولون بأنَّ أمريكا ترفض أو تعترض، بل يستخدمون مصطلحات مفتاحية كجزء من الحرب النَّاعمة, فيقولون: المجتمع الدولي يرفض، والرأي العام لا يوافق، ومجلس الأمن الذي يمثل الدول الكبرى اتَّخذ قرارًا، والسلم العالمي يستلزم مواجهة بعض الجهات وأفكارها...، كما تحرص أمريكا إذا ما أرادت أي عمل أن تمرره عبر مجلس الأمن، أو الاتحاد الأوروبي، أو اجتماعات الدول 5+1، أو 6 + 2، الخ...لتقول بأنَّ العالم لا يرضى, وليست أمريكا فقط, في الوقت الذي يكون التحريك والتحريض أمريكيًا وجزءًا من مشروعهم.
إذًا الأهداف الثلاثة من خلال الحرب النَّاعمة التي يستخدمون فيها القوَّة النَّاعمة هي: سيادة المبدأ الرأسمالي، وأن تكون أعمالهم هي القدوة والنموذج، وأن يلتحق العالم بموقفهم السياسي كأتباع لهم.
عندما نتحدث عن قوة ناعمة تريد أن تقتحم بلداننا وأفرادنا، إنَّما نتحدَّثُ عن مشروعٍ أمريكيٍ معاصر، اختار القوَّة النَّاعمة المقابلة للقوَّة الصلبة (الماديَّة والعسكرية)، لعجزه عن الوصول إلى أهدافه عن طريق القوَّة الصلبة، أو لتخفيف التكلفة الباهظة المترتبة عليها. وقد لجأ إلى القوَّة النَّاعمة ليخرِّب من داخلنا، وليُسقطنا من داخلنا، بأيدينا وأدواتنا، من دون أن نلتفت في كثير من الأحيان إلى ما يحصل، بل نعيش أحياناً حالة الغبطة بما يحصل، يترافق ذلك مع تعديل القِيَم التي يريدون تأسيسنا عليها لتسود قِيَمُهم، ثم نندفعُ بشكلٍ طبيعيٍ وعادي لتصديقها وتنفيذها، فيتعدِّل سلوكنا تبعاً لها، فنتحوَّل أَتْباعاً بدل أن نكون مستقلين وأصحاب قرار.
ومن أجل تحقيق تثبيت هذه القِيَم وتحقيق أهدافها، تستفيد القوَّة النَّاعمة من كل المؤثرات والرموز البصرية والإعلامية والثقافية والأكاديمية والبحثية والتجارية والعلاقات العامة والدبلوماسية، فلا تترك جانباً من جوانب التأثير إلاَّ وتدخل من خلاله، لتحقيق الموارد الثلاثة التي ذكرناها أعلاه، وإخضاع الخصم للمنظومة الغربية، كما تستفيد هذه القوَّة النَّاعمة من منظومة العولمة بأدواتها ووسائلها, التي تتحكم بإدارتها أمريكا كقطب مركزي آحادي في العالم اليوم بعد سقوط الاتحاد السوفياتي.
بعد سقوط الدولة العثمانية, وبروز الإتجاه الأمريكي-الغربي, وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية, كنا نسمع الكثيرين من المثقفين في العالم العربي والإسلامي يدافعون عن الرؤية الرأسمالية، وينظِّرون لها، ويناقشون في مضمونها، ويُنشؤون مراكز ثقافية دفاعًا عنها، ويواجهون التقاليد والأعراف الإسلامية أو المتأثرة بها في منطقتنا، هذا العمل هو جزء من الحرب النَّاعمة التي ما زالت قائمة حتى اليوم, ولكن بأساليب أكثر تطورًا. وقد ضَعُفَ تأثير هذه المراكز, وازدادت الكراهية للنموذج الأمريكي بعد أحداث 11 أيلول 2001, عندما شنَّت الولايات المتحدة الأمريكية حملةً ضد المسلمين بالهوية كأعداء محتملين, وبرزت أخطاء وأخطار هذا النموذج لعامة الناس.
ثالثاً: القوَّة النَّاعمة مع إبليس. هل هذه الحرب النَّاعمة جديدة؟ هذه الحرب النَّاعمة موجودة منذ خلق الله الإنسان، ولكنَّنا أحيانًا لا نلتفت إليها، فإبليس هو رئيس الحرب النَّاعمة ، هو لا يقول لك: لا تصلي؟ لا، ولا يقول لك لا تكن متدينًا؟ لا، إنَّما يقول لك: أنت تصلي الصلاة الواجبة هذا جيد، صلِّ النَّوافل أيضًا، وأتقِن صلاتك، وأتقِن قراءة القرآن..، إذًا من أين يدخل إبليس؟ يقول لك: ساعةٌ لك وساعةٌ لربك! أي يدعوك لإتقان الصلاة في هذه الساعة من أجل أن يؤثر عليك في الساعة الثانية، فماذا فيها لك؟ خذ راحتك بالسهر والمجون والإنحراف... فيحصل التعادل, ثم يتوب الله تعالى عليك!
عرَّفنا الله تعالى على القوَّة النَّاعمة منذ بدء الخليقة مع إبليس، "الْوَسْوَاس الْخَنَّاس", والتي تتركَّز على الوسوسة والإغواء, عندما ذكر الحوار الذي جرى بينه وبين إبليس، الذي رفض السجود لآدم(ع)، فطرده الله تعالى من الجنة، عندها طلب طلباً من رب العالمين، "قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ"(5), فاستجاب الله تعالى له بإبقائه حياً إلى نهاية الحياة الدنيا، "قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ"(6)، ثم أعلن إبليس دوره في الوسوسة والإفساد والإغواء: "قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ"(7)، إنَّها إرادة الله تعالى، أن يكون إبليس رمزاً للفساد والانحراف، من دون أن يملك السيطرة المادية المباشرة على أحد، فهو يعمل بالإغواء والزينة والتدليس والوَّسوسة: "قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ* إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ"(8)، فلا يقوم بعمل عسكري، ولا يقوم بعمل مادي مباشر، فكل أعماله تدور حول التدليس والزينة والوَّسوسة. ويتحمَّل النَّاس مسؤولية الاختيار بأعمالهم، حيث يكون تأثيره على الذين يستجيبون له، أما المؤمنون فلن يستجيبوا له لتمسكهم بطريق الصلاح وإخلاصهم لله تعالى.
كما تتركَّزُ القوة النَّاعمة على قلب الحقائق وتغيير المفاهيم, وقد حذر رسول الله(ص) أصحابه وهم مجتمعون من ذلك, فقال لهم: "كيف بكم إذا فسدت نساؤكم، وفسق شبابكم، ولم تأمروا بالمعروف، ولم تنهوا عن المنكر.
فقيل له: ويكون ذلك يا رسول الله؟
فقال: نعم وشرٌ من ذلك، فكيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف.
فقيل له: ويكون ذلك يا رسول الله ؟
فقال: نعم، وشرٌ من ذلك، فكيف بكم إذا رأيتم المعروف منكراً والمنكر معروفاً"(9)، أي تنقلب الموازين رأساً على عقب، ليصبح الحقُّ باطلاً والباطلُ حقاً، ما يؤدي إلى أن تختلَّ المقاييس، فلا تكون النظرة واحدة عند الناس في السلوك أو المناقشة أو المحاورة، أو في التأسيس للمستقبل، ما يُسبب الخلل والإرباك والضياع في المجتمع.
وقال أمير المؤمنين علي(ع): "ولو أن الحقَّ خلُص من لُبس الباطل لانقطعت عنه أَلسنُ المعاندين, ولكن يؤخذ من هذا ضغثٌ ومن هذا ضغثٌ فيمزجان، فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه, وينجو الذين سبقت لهم من الله الحسنى"(10). فالالتباسات التي تحصل إنما تكون بتشويه الحقائق وتزييفها، وما لفتني تلك الفكرة المركزية التي وجهنا الله تعالى إليها، وهي لب الموقف الرئيس الذي يجب أن نتخذه في مواجهة الحرب النَّاعمة، فقد أمرنا الله تعالى أن نعرف أولاً بأن إبليس عدو، ثم علينا ثانياً أن نتَّخذه عدواً، فالمعرفةُ والموقفُ متلازمان، وكما لا يمكن اتخاذ الموقف مع الجهل بالواقع، لا تكفي المعرفة إن لم يصاحبها موقفٌ وأداء. قال تعالى: "إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ"(11)، فإذا اتخذناه عدواً أعددنا العدة اللازمة في عملية المواجهة، واستطعنا أن ننتصر عليه في مواقع عدة، والتفتنا إلى تقويم أخطائنا أو انحرافاتنا. فالتصويب على العدو أساس المعركة.
رابعًا: تحذير القائد من الحر ب النَّاعمة. حذَّر الإمام الخامنئي (دام حفظه) من الحر ب النَّاعمة وأخطارها في مناسبات عدة في السنوات الأخيرة, وهو أول من كشف عنها بوضوح وتركيز في العالمين العربي والإسلامي, داعيًا المسؤولين وعامَّة النَّاس للإلتفات إلى مخاطرها وضرورة مواجهتها, وممَّا قاله عنها:
1- "الحرب النَّاعمة ترفع شعارات ودعايات محقَّة بالظَّاهر ولكنَّها باطلةٌ في الباطن, وتخلط الحقَّ بالباطل، وللأسف فإنَّ البعض يكرِّر دعايات وشائعات العدو عن قصدٍ أو عن جهل"(12).
2- "الحرب الناعمة حربٌ حقيقيةٌ في عالمنا المعاصر، رغم أن بعض الأشخاص ربما لا يرونها"(13).
3- "إن أحد أهم مخططات الرئيسة للأعداء تقوم على قلب حقائق البلاد"(14).
4- "إنَّ الهدف المركزي للحرب الناعمة هو تحويل نقاط القوة والفرص إلى نقاط ضعف وتهديدات، وقلب حقائق البلاد"(15).
وقال الإمام الخميني(قده): "مراكزُ الفساد الكثيرة التي أوجدوها, لنشر الفساد والدَّعارة ولإفساد الشباب, لم تظهر بلا غاية. لقد قاموا بإعلامٍ مكثَّف لهذا الأمر، فسخَّروا مجلَّاتهم ووسائلهم الإعلامية السمعية منها والبصرية خدمةً لهذا الأمر. الإذاعة والتلفزة، والوسائل السمعية والبصرية, كانت تدأب على جذب الشباب من الأسواق, ومن الصحاري التي يعملون فيها، ومن الدوائر التي يخدمون فيها, إلى مراكز الفساد تلك, لكي يصنعوا من الجامعي إنسانًا فاسدًا، ويجعلوا من الموظف موجودًا فاسدًا"(16). فإذا ما فسَدَ الإنسان من الداخل, عندها لا حاجة لأنْ تقولَ له إذهب ومارس الفساد، لأنَّ كل حركة يتحركها فسادٌ قائم بذاته، فهو موجَّه.
خامسًا: مُنطقان للمواجهة. تتطلَّبُ المواجهةُ في الحرب النَّاعمة أمرين أساسيين:
الأول: أن نُحدِّد هدفنا، فما هو الهدف الذي نريده؟
والثاني: أن نحدِّد عدوَّنا ومواصفاته؟ حتى نعرف من نواجه.
الأمر الأول: تحديد الهدف.
الهدف هو الإسلام, يعني أنَّنا نلتزم فكرَه وأوامرَه ونواهيه، فحلالُه حلال، وحرامُه حرام، أي ان يكون لدينا منهجٌ نستند إليه إذا ما واجهنا قضية من القضايا، أكانت اجتماعية أو تربوية أو سياسية..، يجب أن يكون لدينا مرجعية فكرية نعود إليها لنسلك الطريق الصحيحة ونُحسن الإختيار، فإذا لم تكن لدينا هذه المرجعية فسيكون غيرها, كالرأسمالية أو الشيوعية أو غيرهما، وعنها يقع الإنحراف, إذًا تحديدُ المرجعية يُريحنا ويرشدنا إلى تحديد الصواب من الخطأ.
الأمر الثاني: تحديد العدو.
إبليس هو العدو، ولكن علينا أن نعرف من هو إبليس؟ وما هي تطبيقاته المباشرة؟، فإذا ما عرفنا إبليس, يسهل علينا معرفة أتباعه. فالله تعالى يوجهنا لمواجهة العدو الأصلي، بقوله في الآية الكريمة: "إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِير"(17)، فعليك أن تتَّخذ الشيطان عدوًا, وتبدأ بمحاربته ومواجهته, لأنَّك إذا لم تحدِّد العدو وتقوم بمواجهته بالاستعدادات المناسبة لذلك، وأغفلتَ وجوده, لا تعرف من أين يدخل إليك، وكيف يوسوس لك ويؤثر عليك, أمَّا إذا ما عرفت العدو وتعرَّفتَ على أساليبه، فإنَّك تعرف من أين يدخل ومن أين يخرج وماذا يمكن أن يفعل؟. لاحظ وجهَ الشَّبَه مع الحروب المادية: من أراد مواجهة العدو, عليه أن يجمع المعلومات عنه, ليعرف مقدار القوَّة المتوفرة لديه، وفي أرض المعركة يقوم بعملية الاستطلاع، ليتعرف نقاط قوة وضعف العدو، فإذا ما واجهه تفوَّق عليه.
هذان هما المفتاحان الأساسيان لمواجهة الحرب النَّاعمة، مفتاح المبدأ الذي نحمله: "إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ"(18) وهو مرجعيتنا أيضًا، ومفتاح تحديد العدو في زماننا لنتمكَّنَ من مواجهته.
نرمي في الحج الجمرات الثلاث، التي ترمز إلى الشيطان بمستوياته, الصغير والأوسط والكبير، فلماذا نرجم الحجر؟ يتجسَّدَ الشيطان الحجر أمامنا بمستوياته المختلفة, فنرميه بالحجارة، سبع مرات, وعلى مدى ثلاثة أيام، كتدريب عملي لحركة متواصلة في مواجهة الشيطان، وكذلك يجب أن نواجه الحرب النَّاعمة بحركة متواصلة لا تتوقف.
سادسًا: نماذج من الحرب النَّاعمة. ما الذي يجب أن نفعله لنواجه هذه الحرب النَّاعمة في العملية التربوية؟ وكيف ننتصر فيها؟ وما هي بعض التطبيقات العملية التي تكشف خلفيات هذه الحرب النَّاعمة؟.1- حريَّة الشهوة: أبرز نقطة تواجهنا في المجتمع، الحديث عن أنَّ الإنسان مخلوقٌ حر، ومن حقه أن يتصرَّفَ بحريَّة كاملة من دون أي ضوابط, التي لا تتوقف إلَّا عند حرية الآخرين!. نسأل: هذه الحرية الكاملة التي تتوقف عند حرية الآخرين, هل تعني أن يُطلق الإنسان العنانَ لشهوته وغريزته الجنسية؟ وأن يتصرف بجسده كما يشاء؟ الغرب يقول: نعم، من حقِّه أن يتصرَّف كما يريد فلا محرَّمات أو ممنوعات، طالما أنَّه لا يعتدي على الآخرين! تبدو الفكرة جميلة للوهلة الأولى، فالإنسانُ مخلوقٌ حر ويفعل ما يشاء، ولكنَّ السؤال: هل يحقُّ للإنسان في الحياة أن يستخدم حريته الجسدية بلا قيد أو شرط؟ يقول الإسلام: حريةُ جسدك مُقيَّدةٌ بعدم إتِّباع الهوى، وعدم الإنجرار وراء الرغبة التي تتبع الشهوة المحرَّمة، هذا الإتجاه ممنوع وحرام، لأنَّه يخرِّب النَّفس والمجتمع، ويفتح باب الخيانة, ويوجِّه العلاقة بين الرجال بالنساء بطريقة خاطئة، ويضرب بُنيان الأسرة، ويُحوِّل المرأة إلى سلعة لللَّذة المحرَّمة، ما يعطِّل إنسانية الرجل وإنسانية المرأة في الحياة.
لذا طلب منّا نهيَ النَّفس عن الهوى: "وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى* فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى"(19)، فلا يصح أن تنجرف وراء رغباتك، فللرغبات حدودٌ وضوابط، وضَّحها الإسلام وبيَّنها. أمَّا في الغرب المادي فلا ضوابط أخلاقية. ولا يكفي أن لا يعتدي الإنسان على الآخرين، فهذه فكرة خاطئة وغير صحيحة، لأنَّ حريتك لا تكون محدودة بعدم المسِّ بحريات الآخرين فقط، وإنما بتحمُّل مسؤوليتك بعدم ترك نفسك على هواها، حيث تتضرَّر على المستوى الشخصي, وينعكس سلوكك على الآخرين تربيةً وأداءًا, فالمنهجية تختلف بين الإسلام والغرب، هذا نموذج.
2- الكتب المدرسية: بعضُها أجنبي وبعضها محلي، ترد فيها قصصٌ وصور، بعض القصص تتحدث عن عادات وتقاليد المجتمع الأمريكي أو الغربي، في كيفية تعاطي الشاب مع الفتاة، والرجل مع المرأة، أيْ صورة طبق الأصل عن تركيبة المجتمع الغربي. أما الصُّور، فيكثرون (عن قصد) تلك التي تُبرز المرأة بثياب البحر، أو بشكل سافر، وأخرى تعطيك مشهد السهرات الماجنة وهم مجتمعون باللِّباس الفاضح! تبدأ الحرب النَّاعمة من خلال توجيهات الكتاب وصُوره التي تعتبر الحياة الغربية حياةً نموذجية، وعندما يُقنعك بالقصة، فتستأنس بها, بسيئاتها وسلبياتها واتجاهاتها المنحرفة. بينما علينا أن نلتفت بأن لا تُوجِّهُ كتبُنا أولادَنا بالإتجاه الخاطئ, وأنْ لا تكونَ الرسومُ والصُور الفاضحة تعويدًا على الإنحراف والأُلفة معه.
3- الرسوم المتحركة للأطفال: أَدْخَلُوا فيها ما يُسمِّم أفكار الأطفال ويحرفهم, ومنذ فترة من الزمن أصبحوا يضعون إشارة على بعض الرسوم المتحركة, لتحذير حضورها إلاَّ للكبار, أي أكبر من 15سنة! حتى الرسوم المتحركة لعبوا بها لتكون فاضحة ومؤثرة على الأهواء والمشاعر. ومن جهة ثانية, يروِّجون لبطلٍ فيصبح محبوبًأ للأطفال، مثلاً طرزان، ثم عجيب أمر طرزان هذا, فهو لا يذهب إلى أي مكان إلاَّ وطرزانة معه بلباسها البحري الفاضح! وهي لا لزوم لها ولا لدورها في الفيلم أو المسلسل، ولكن المطلوب حضورها لدورٍ وهدف، هم يريدون القول للبنت الصغيرة: انظري مكانة المرأة التي تلبس هذا اللباس (الفاضح), فهي مع طرزان معزَّزَة ومكرَّمَة الخ.. هذا الشكل يعطيها جمالًا وحضورًا, واحترام طرزان لها، أمَّا طرزان ففخرُهُ بأنْ تكون هذه الجميلة شبه العارية بصحبته, فبدل أن يمتنع عن صحبيتها بهذا الشكل, يُصبح اصطحاب أمثالها هو المقياس الصحيح للأجيال.
4-المسلسل الاجتماعي: يقدِّمونه بحبكةٍ جميلة ومشوِّقة, نشاهد رجلًا سيء الخُلُق والطِّباع إلى درجةٍ لا توصف، يدخل إلى بيته متوترًا, يتحدَّث مع زوجته باستفزاز، ويسألها أسئلة لا معنى لها، ثم يبرحها ضربًا, وهذه ليست المرَّة الأولى، لكنَّها تنفجر في هذه الليلة من كثرة الضرب, فتخرج من المنزل. يتعاطف المشاهدون مع هذه المرأة بشكل كامل, فزوجها قد ظلمها, ومن باب المصادفة, يلاقيها جارها, فيتعاطف معها, ويدعوها إلى منزله لتنام ليلتها ويعالجها من رضوضها, ثم شيئًا فشيئًا تنهار من البكاء على صدره, وتدريجيًا يتبادلان القُبَل, ثم يرتكبان الحرام. ما هو الانطباع عند المشاهد؟ سيقول المشاهد بأنَّ الحقَّ معها في أنْ ترتكب الحرام, فزوجُها ظالمٌ لا يُطاق, وهو الذي أوصلها إلى هذه النتيجة!. هنا بدل أن يكون حرام الزوجة مُنكرًا عند المشاهد, يُصبح مُبرَّرًا بسبب ظلم الزوج, ما يؤدي إلى أُلفة هذا النموذج في المجتمع.
5- الغانية والراقصة: أو ذاك المسلسل حيث لا تجد المرأة الثكلى أو المطلَّقة عملًا لإطعام أولادها, فتصبحُ غانيةً أو راقصةً في الملاهي الليلية, وتُعرَضُ القصة بطريقةٍ يتعاطفُ معها المشاهد, ويتقبَّل ما تقوم به لحاجتها! إذًا يمكن لكل إمرأة تتعرض لمشكلة مشابهة أن ترتكب الحرام, وعلى المجتمع أن يتقبَّلها, بدل أن ينهاها ويساعدها على سلوك طريق الحلال.
6-إحتفالُ نهاية العام الدراسي: أو الإحتفالات الأخرى، تقوم بها المدرسة للترفيه عن الأولاد, ويمكن إجراؤها بصِيَغٍ مختلفة, فما الداعي لتكون حفلة راقصة خليعة؟ أو بوجود المطرب الفلاني أو المطربة الفلانية؟ أو باختيار الطعام المحرَّم والخمر؟ أو التزيُّن باللباس الفاحش والخليع؟ فهذه المظاهر غير مقبولة، وإن كانت مرة واحدة في السنة، فهذا السلوك هو جزءٌ من العملية التربوية التي تبني شخصية الولد، وهذه المظاهر المنحرفة هي من الحرب النَّاعمة.
7- ملكات الجمال: أقلقوا راحتنا بدعايات ملكات جمال العالم، وتبيَّنَ معهم بأنَّ انحصار المباراة بعنوان الجمال يزجُّ عددًا قليلًا من النساء في هذا الفساد, فاخترعوا ملكة جمال اللباس، وملكة جمال الوجه، وملكة جمال القبح، وملكة جمال النصاحة، وملكة جمال البحر..., يريدون إشراك كل نساء العالم بهذه المسابقات، لإخراجهنَّ إلى ساحات الإستعراض الجسدي. هذا أمر غير طبيعي، فهم لا يقيمون مثلًا مسابقات ملكة جمال الأمومة أو الفكر أو التربية أو الأخلاق أو التضحية..., لأنَّها مسابقات تشجِّع على المُثُل والصلاح ومكانة المرأة, وهذا ما لا يريدونه! فيشيعوا مسابقات الجمال الآثمة, لتصبح محلًا للتنافس, وكي نألف هذه البرامج أو العادات ونتمثَّل بها.
8- "ثقافةُ الحياة": شعارٌ أطلقه بعض المعترضين على المقاومة, ردًا على الشهادة, التي نعتوها بـ "ثقافة الموت", فهم يريدون الحياة ولا يريدون الموت!. ما معنى ثقافة الحياة؟ وكيف ستحصلون على الحياة بوجود الإسرائيلي؟ وهل تريدون الحياة المصحوبة بالإستسلام والموقف السياسي المتخاذل الذي يُعطي الأجنبي والمحتل السيطرة على حياتكم؟ أمَّا المقاومة فهي جهادٌ وقتلٌ وقتال, تؤدي إلى النَّصر أو الشهادة، وتُعطي الحريَّة والعزَّة والكرامة والإستقلال, وهي الحياة الحقيقية, وهذه هي ثقافةُ الحياة، ثقافةُ الحياة العزيزة، فمن الذي قال بأنَّنا لا نريد الحياة؟ ولكن كما قال أمير المؤمنين علي(ع): "فَالْمَوْتُ فِي حَيَاتِكُمْ مَقْهُورِينَ, والْحَيَاةُ فِي مَوْتِكُمْ قَاهِرِينَ"(20). فهذا هو المعنى الصحيح للحياة، ولا حياة للمستسلم الذليل. إنَّ طرح ثقافة الحياة للترغيب بها كيفما كانت, جزءٌ من الحرب النَّاعمة, وبديلٌ عن الموقف الشَّريف والعزيز, ما ينسجم مع مطلب إسرائيل والغرب, ليسهُل عليهم إحتلال أرضنا واستثمار خيراتنا.
9- تعليمُ الديمقراطية: تذكرون عند سقوط حسني مبارك, أُنشأت في مصر مئات الجمعيات المموَّلَة أمريكيًا وأوروبيًا لتأهيل المصريين وتدريبهم على معرفة وإحترام حقوق الإنسان، وتعلُّم مبادىء الديمقراطية! ما هي فلسفة هذا التعليم؟ هم يريدون نشر الأفكار الغربية عن الحرية, والحياة الزوجية, والنظرة الماديَّة إلى الحياة, ورفض مبادىء الدين وتشريعاته بحجة المواطنة والمعاصرة, وقبول إحتكار الدول الكبرى للعالم وخيراته!... هؤلاء لا حياء لديهم, يقولون بأنهم يريدون نشر الديمقراطية ومبادئها وأفكارها، ولكنْ كبديلٍ عن أية أفكار؟ وما تعليقكم على ديمقراطية الدول الظالمة التي تدعمونها؟ وما هو موقفكم من الأنظمة الإستبدادية؟ يقولون: لكلِّ بلدٍ ديمقراطيته!. علينا ان ننتبه، فهذه حربٌ ناعمة علينا، وهي محاولةُ تثقيفٍ وتوجيهٍ خطرٍ جدًا، تهدف إلى تغيير منظومتنا الثقافية والفكرية.
10- طريقةُ اللباس والطعام: ومضمونهما, في المنزل أو المدرسة أو الشارع، هي جزءٌ من الحرب النَّاعمة, عندما يوجِّهونها بحسب تقاليدهم وعاداتهم, وقد نجحوا نجاحًا باهرًا بما يسمُّونه الموضة, لنلحق بهم بالشَّكل والمضمون. سألتُ تاجر ألبسة منذ سنوات، ما معنى أنْ تكون هذه السنة سنة اللون الأزرق، والتي تليها سنة اللون الأحمر, والتي قبلها سنة اللون الأصفر ...؟ وكل سنة يأتون بموديل جديد، فما هو المعيار؟ قال: هناك مؤسسات متخصصة في أمريكا والغرب, إذا ما قالت هذا هو المعيار، فيعني أنَّه المعيار! فالأمر كما يقولون، ومن خلالها يجعلون الناس يشترون دائماً، ومن خلالها يعممون ثقافة معينة من اللباس، وهذا هو التوجيه إلى الرموز بطريقة اللباس والتصرف والطعام وغيرهما.
11- الرياضية والاختلاط: يلعب الصبيان مع البنات الألعاب الرياضية, لإسقاط حواجز الإختلاط! ويبدِّلون ملابسهم بعد الرياضة في المكان نفسه! بعضهم يحتاط فتغيِّر البنات ملابسهن في مكان والأولاد في مكان آخر, وعند الاغتسال، يغتسل الصبيان في مكان واحد مليء بمرشات المياه, وكلهم عراة, على قاعدة أن لا مشكلة في ذلك, فهم من جنس واحد! وكذلك البنات مع بعضهنَّ! يريد المشرفون على هذا التعليم ان يكسروا الحياء, فلا ممنوعات ولا محرمات، كي لا يكون الولد معقَّدًا بالضوابط والممنوعات كما يقولون! هذه حربٌ ناعمة لإسقاط الحياء, ومن لم يستحِ يفعل كُلَّ شيء.
لا يجوز ولا يصح أن يكون الشاب مدرِّسَ الرياضة للفتيات المكلَّفات! فإذا ما أصرَّت الفتاة المحجبة على عدم الإشراك في الرياضة معه يقولون عنها بأنَّها معقَّدة، وليس معها حق! هذا جزءٌ من الحرب النَّاعمة. بينما يجب أن نجد الحل لهذه المشكلة، بإحضار مدرِّسة للرياضة بدل المدرس.
علينا أن نلتفت إلى الاختلاط وحدوده وضوابطه، لتحصين الغريزة من الانحراف في الاتجاه الآخر، إنَّهم يهاجمون القيود الأخلاقية لتغيير وتبديل مفاهيمنا, والتأثير على عقولنا وقلوبنا, كي ننشدَّ إلى رغباتنا وأهوائنا. وهذه هي الحرب النَّاعمة علينا، لحرف نظرتنا إلى الخطأ والصواب, وإلى الحلال والحرام.
12- وسائل الإتصال والإنترنت: فيها خدمات جليلة, وفيها من الإباحية والمحرَّمات ما يُفسد أجيالًا بكاملها. نحن معنيون بتوجيه تلامذتنا كي لا يقعوا فريسة هذه الوسائل, بتقنين استخدامها, والإشراف على خدماتها, وعدم الإدمان عليها.
13- طاولة عليها خمر: لماذا يحرِّم الإسلام الجلوس إلى طاولة عليها خمر؟ لأنَّك إذا كنت لا تشرب الخمر, وجلست مع الذين يشربونه، ينكسر حاجز المنكر عندك, وتحصل الألفة بينك وبين معصيتهم, ومع تكرار الجلوس معهم, قد تُغريك قطراتٌ منها, أو تستجيب لإلحاحهم, فتُصبح شاربًا للخمر مثلهم, (وكما يقول المثل: كثرة الدَّق يفكّ اللِّحَام). يمكن أن ينجح شخص فلا يشرب, ولكن كم واحد سينجح في هذا الأمر، فالأفضل أن تتجنب الجلوس مع شاربي الخمر، وهذا جزءٌ من إنكار المنكر. فكما يضع المقاتل أكياس الرمل على المتاريس من أجل تجنب نار الحرب الصَّلبة، عليك أن تضع أكياس الرمل المعنوية من أجل مواجهة الحرب النَّاعمة, وأن تتبع الضوابط التي تمنع نجاحها في تحقيق أهدافها.
14- قبول الآخر: يروِّجون لمقولة "قبول الآخر"، وأنَّهم منفتحون على الغير, ولكن ما الذي يقصدونه من هذا الشعار؟ مقولة "قبول الآخر" كما هو، هي التي أوصلت الغرب للقبول بإنشاء جمعيات للشاذين والشاذات, وإصدار وتشريعات نيابية في هذا الشأن, وتحت عنوان قبول الآخر! هناك فرق بين قبول الآخر وبين الحوار مع الآخر، هناك فرق بين قبول الآخر واحتضان إنحرافه ومساعدته على تطوير أساليبه المحرَّمة وتشجيعه على الباطل, وبين الإعتراف بوجود خلاف وتقبُّل المناقشة والمحاججة وعرض الأدلة من دون تعصب. أين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ كيف نقبل بالشاذين والشاذات يروِّجون لإنحرافهم بين أولادنا؟! وكيف نقبل بوضع تشريعات تحميهم, وتتيح لهم حق التظاهر، وأن يصبح لهم نواب ومؤسسات؟ القبول بالآخر شعارٌ جذَّاب, ولكنَّ مضمونه خطيرٌ على الأجيال, وهو يختلف عن الحوار مع الآخر وقبول الإختلاف السياسي, إنَّهم يحاربوننا بالشعارات الجذَّابة المليئة بالسموم.
15- مؤتمر السَّلام: احتلَّ الصهاينة فلسطين، بمؤازرة دولية إستكبارية, ثم روَّجوا لمؤتمرٍ للحل سمّوه "مؤتمر السلام"! هو ليس مؤتمرًا لتحرير الأرض، ولا مؤتمرًا لإعادة الحقوق الفلسطينية، فكيف يكون للسلام! أصبح السلامُ سلبًا للحقوق لأنَّها إرادة المستكبرين, ولكنَّهم يطرحون شعارًا جذَّابًا ومشوِّقًا ليتبنَّاه الجميع ويدافعوا عنه, فمن لا يريد السلام؟!. ثم بدل أن يعترفوا بحقِّنا في مقاومة الإحتلال يطلقون علينا تسمية الإرهاب! ليُبعدوا النَّاس عنّا، خشية الإتهام بصفة الإرهاب المرذولة. ولكنْ, الحمدُ لله رب العالمين, فقد غطَّت المقاومة على الإرهاب المُدَّعى, وأثبتت نفسها في ساحة جهادها، ودخلت قلوب الناس, وانتصرت في الميدان, فسقط شعار الإستكبار وساد شعار الحق والجهاد. وهذا بحاجة إلى عمل وصبر ومواجهة.
16- المصلحة أو الحق: علينا أن نلتفت دائمًا إلى المقياس، هل هو المصلحة أم الحق؟ المنهجية الغربية تنطلق من المصلحة والرغبة، ولو كانت مصلحتك أن تغش وتحتال، ولو كانت مصلحتك أن تقتل شعبًا آمنًا لتسيطر على مقدّراته، ولو كانت مصلحتك الإقتصادية أن تروِّج لما يُفسدُ الأجيال! ولو كانت مصلحتك أن تستسلم! أما منهجية الإسلام فهي منهجية الحق، ولو كلَّفك ذلك صبرًا وتضحيةً وتخلٍ عن الرغبات بسبب حُرمتها, فلا تمُدَّنَّ يدك إلى المال الحرام, ولا تغش ولو لم يركَ أحد لأنَّه ليس من حقك، ولا تقتل النفس التي حرَّم الله إلَّا بالحق، ولا تقُم بأعمالٍ تؤذي المجتمع, ولا تنحرف, ولا تستسلم للظلم, فالمقياس هو الحق ولو كان محفوفًا بالصعوبات أو لم تُعجبك نتائجه. قال تعالى: "كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ"(21).
17- مفاهيم التربية الحديثة الغربية: التي تؤدي إلى التفكير والحياة المادّيين, في مقابل التربية الإسلامية التي تُوازن في السلوك الإنساني, وهذا لا يعني بأن نرفض كل ما هو حديث, فالكثير من منهجيات البحث والتربية قد استفادوها من الإسلام, ويمكن أن نستفيد من بعض الآليات التطبيقية التي برعوا بها, ولكن علينا أن نتلقَّى بوعي ودراسة واختيار بما ينسجم مع مبادئنا, ولا يوقعنا في حبال الحرب النَّاعمة..
فالحربُ النَّاعمة تستهدفُ استبدالَ قِيَمِنا بقِيَمٍ أخرى، وضربَ استقلالنا الثقافي لنكون أتباع المناهج الأجنبية، وربْطِنا بطريقة الحياة الأمريكية في العادات والتقاليد وطريقة الطعام واللباس، وبمعنى آخر إغراقنا في متعة الجسد من دون قيود أو ضوابط، وإبعادنا عن أي حالة معنوية تربطنا بخالقنا, وتشويش رؤيتنا السياسية للقضايا والأحداث بانسحاق أمام الأجنبي.
18- إدارة المدرسة: أنت مسؤولٌ عن إدارة مدرسة، ومسؤول عن الجهاز التعليمي والتربوي وأدائه, وعليك أن تلتفت إلى الأنشطة والتحركات التي تجري فيها, والمنشورات التي تُوزّع، والمحاضرات التي تُدرّس، والأفكار التي تُقدَّم، والقدوة التي تتصدَّى لتربية الأولاد...، كل هذه الأمور يمكن أن تكون جزءًا من الحرب النَّاعمة. فإذا ما كانت الأفكار منحرفة وخاطئة فأنت في قلب الحرب النَّاعمة، وإذا ما كانت أفكارُهم صحيحة وتربيتُهم سديدة فهم أُسُود مواجهة الحرب النَّاعمة، لأنَّهم يرشدون تلامذتهم إلى الخير والصلاح. فالمسألة تبدأ من المعلم والمعلمة، شخصيته وفكره وقناعاته وطريقة حضوره، فالتلميذ يسمع من معلمته أو معلمه, يحترمهم ويأخذ منهم ويقلِّدهم في السلوك.
لديكم عمل كثير وكبير في الموضوع التربوي، وأجدِّد القول بأنَّ الأساس أمران: المبدأ, وتحديد العدو, وعلى كل واحد أن يشخِّص القضايا والأهداف في مدرسته, ويدرس مكامن الخلل والأخطاء والثغرات.توجد تفاصيل كثيرة في الجانب التربوي، فالأمور بحاجة إلى مقاربة مع الحق والصلاح، ولها علاقة بتقييمنا للأمور والمفاهيم التي نريد نشرها، والأفكار التي نؤمن بالترويج لها, وعلينا أن ندقِّق جيدًا بالأفكار المطروحة, والشعارات, والأنشطة التي نقوم بها.
سابعًا: قواعد لمواجهة الحرب النَّاعمة1) علينا أن نعرف أننا في حالة حرب دائمة معها, ما يتطلب العمل الدؤوب لمواجهتها لحظةً بلحظة، لا أن نتوقَّف في مرحلةٍ ونواجه في مرحلةٍ أخرى.
2) يتركز التأثير في المواجهة على البعد التربوي الثقافي (القِيَم) من ناحية، وعلى التأثير السياسي من ناحية أخرى, وإنما يعوِّل الأجانب على التأثير السياسي للتَّغيير، لأنه يُحدثُ انقلاباتٍ ومتغيرات في الواقع المستهدف، وعلينا أن نهتم في المواجهة بالبعد التربوي الثقافي، والبعد السياسي.
3) الحربُ النَّاعمة تُخاضُ ضدنا في كل المجالات، عبر الإعلام ووسائل الاتصال والتعليم والسياسة ..، وعلينا أن نلتفت إلى الشعارات والأفكار التي يُراد ترويجها، وهنا يأتي دور المعلم كموجِّه ليُبيِّنَ الحقائق لتلامذته، ويكشف المستور خلف الشعارات البرَّاقة، ويعوِّدَ تلامذته على متابعة الدليل نحو الحقائق، لنواجه هذه الحرب بوعيٍ, وإيمانٍ، وثقةٍ, ورجاءٍ، وأملٍ كبير بالانتصار عليها.
4) يجب أن نجمع قوانا في مختلف المجالات ونستفيد من كل الطاقات، إذ لا يمكن أن تكون المواجهة مقتصرة على فريقٍ دون آخر، ولا على جماعة دون أخرى، فكلُّنا بحاجة إلى بعضنا بعضاً في مواجهة الحرب النَّاعمة، وهذا ما يتطلب أن تتكاتف جهودنا، في كل المراحل، وفي مواجهة كل التحديات، وبإتجاه كلِّ الأبعاد.
نحن قادرون على النجاح في مواجهة الحرب النَّاعمة, على الرغم من صعوبتها وخطورتها, ووقوف الكثيرين في العالم ضدنا، وكما انتصرنا بمقاومتنا على قِلَّة العدد والعدة, فإنَّنا قادرون على الإنتصار بأفكارنا ومقاومتنا للحرب النَّاعمة، غير غافلين عن تسديد الله تعالى لنا أولًا وأخيرًا. كما نستطيع ان نفرض احترامنا أمام الآخرين ليتركونا نُمارس قناعاتنا بحرية، ونُهيءُ لمنهجنا وأجوائنا الصالحة, ونعمل على تحصين مجتمعنا, فنحنُ لا نُريدُ إكراهَ أحدٍ في الدين, ولا نقبل أن يُكرهنا أحد, والله وليّ التوفيق.
الهوامش:
1- نائب وزير الدفاع الأمريكي السابق، ومدير مجلس المخابرات الوطني الأمريكي، وعميد كلية الدراسات الحكومية في جامعة هارفرد، وهو من أهم المخططين الاستراتيجيين الأمريكيين في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين.
2- جوزيف ناي، القوة الناعمة، مكتبة العبيكان، ص: 12.
3- المصدر السابق، ص: 34 وص: 70.
4- مركز قيم، كتاب رؤية الإمام الخامنئي في مواجهة الحرب الناعمة، ص: 46.
5- سورة الحجر، الآية: 36.
6- سورة الحجر، الآيتان: 37 و 38.
7- سورة الحجر، الآيتان: 39 و 40.
8- سورة النَّاس.
9- الشيخ الطوسي، تهذيب الأحكام، ج6، ص: 177.
10- نهج البلاغة، من كلام له رقم: 50.
11- سورة فاطر، الآية: 6.
12- مركز قيم، كتاب رؤية الإمام الخامنئي، ص: 58.
13- المصدر نفسه، ص: 88-89.
14- المصدر نفسه، ص: 72-73.
15- المصدر نفسه، ص: 94-95.
16- مؤسسة نشر وتنظيم تراث الإمام الخميني(قده)، صحيفة الإمام، ج11، ص: 339.
17- سورة فاطر، الآية: 6.
18- سورة آل عمران, من الآية: 19.
19- سورة النازعات, الآية: 40.
20- نهج البلاغة، من الخطبة رقم: 51.
21- سورة البقرة, الآية: 216.