الموقف السياسي

هل افجعكم الخروج من السلطة الى هذه الدرجة؟ / الكلمة التي ألقاها في الذكرى السنوية لرحيل آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله في ثانوية الكوثر في 4/7/2011

هل افجعكم الخروج من السلطة الى هذه الدرجة؟

سنةٌ مرَّت على عروج الروح الشامخة لسيدنا وابينا واستاذنا ومربينا الى الملكوت الاعلى, وما زال يغمر كل ساحاتنا ببسمة الحنان وصوت الحق واشراقة الفكر وجرأة المواجهة وارادة التحدي, ما زال حضوره فينا وبيننا شامخاً شموخ جهاده, راسخاً رسوخ كلماته, ثابتاً ثبات رؤاه ومواقفه.    
سيدي، أنت الأبُ والراعي والمربي والحاضن، أنت الحاملُ لرسالة الإسلام بحركة دؤوبة لا تتوقف، وأنت الداعي إلى الله تعالى بخطاب القلب إلى القلب، وها هم تلامذتك ومريدوك ينتشرون في مواقع الإيمان والعمل والجهاد، فبصمات علمك وجهادك منطبعةٌ في أرجاء الساحة باسم الله وفي سبيل الله تعالى، والحالة الإسلامية في لبنان مدينة للعلامة الكبير آية الله السيد محمد حسين فضل الله بنشأتها وقياداتها وفعاليتها.
ملأ سماحته (رضوان الله تعالى عليه) ميادين الساحة في جوانبها المختلفة، وأجاب عن الأسئلة الحائرة، وأكد المواقف الثابتة، وأوضح أنه يحمل منهج الإسلام على خط أهل البيت (عم) ويعمل له بكل كيانه وإمكاناته فلا وجود لشيء في حياته إلاَّ الإسلام، ولا زمن في حياته إلاَّ الإسلام. قال في كتابه في دروب السبعين:
وأنا ها هنا أعيش الرسالات     كما الضوء في مدى الآفاقِ
أستحثُّ الصراعَ في ملتقى الفجرِ  وأحياهُ جذوةً في احتراقي
وأنا ها هنا ابتهالُ خشوعٍٍ        "ودموعٌ حبيبةٌ في اشتياقي"
كان سماحته (قدس سره) داعماً ومؤيداً وداعياً إلى المقاومة واستمراريتها لتحرير الأرض وإسقاط مشروع الاحتلال الإسرائيلي، وهو القائل: "لن أرتاح حتى تسقط إسرائيل". إسرائيل غدة سرطانية يجب اقتلاعها كما قال الإمام الخميني (قده)، ولا يمكن تبريراعتداءاتِها أو احتلالِها تحت أي حجة أو ذريعة، وقد كان سماحته (رضوان الله تعالى عليه) يؤكد دائماً على أن الحل في مواجهة إسرائيل هو المقاومة، وكان يسأل عن أخبارها ووضع مجاهديها ويقدم الدعم لها ولهم. وقد واكب تفاصيل عدوان إسرائيل على لبنان عام 2006 حيث كان يسأل عن أحوال المجاهدين وتطورات الحرب وإنجازات المقاومة. هذه المقاومة هي الخيار الوحيد في مواجهة إسرائيل، حيث لم يُنتج التحرك السياسي الدولي إلاَّ المزيد من شرعنة الوجود الإسرائيلي على حساب الشعب الفلسطيني، وقد أثبتت التجربة أن قرارات مجلس الأمن ضد إسرائيل لذرِّ الرماد في العيون وإعطاءِ فرصة إضافية للاحتلال ليتمكن ويقوى، وأنَّ المقاومة بانتصاراتها وصمودِها وعطاءاتِ مجاهديها وشهدائها والتفافِ الناس من حولها قد حققت إنجازاتٍ مهمةً ليس أقلُّها خروج إسرائيل ذليلةً من لبنان، ووقوعُ الكيان الصهيوني تحت ضغط الردع المقاوم. لقد أثبتت التجربة أن المقاومة تحمل الأفق الرحب لاستعادة الحقوق والأرض، وأي تفريط بها هو خسارة محضة، وهي الأمل المشرق لتحرير فلسطين والملهم للشعوب العربية الحرة. هكذا كانت المقاومة أملاً في فكر ودعوة سماحة العلامة الكبير.
دعا سماحته إلى الوحدة الإسلامية وأكد عليها، واعتبر أنها فعلُ إيمانٍ والتزام. هذه الوحدة هي التي تفوِّت مؤامرات الأعداء وتُسقط فتنهم المتنقلة، وهي التي تحصننا في مواجهة التحديات، هذه الوحدة هي الترجمة العملية لأمر الله تعالى: "واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا"، وقوله تعالى: "وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون". هل الخلافات المذهبية بين السنة والشيعة هي التي تسبب الانقسام في المواقف؟ ان الخلافات بين أطياف المجتمعات الإسلامية تدور مدار الخلاف السياسي الذي يقسم المجتمعات إلى أحزاب وقوى لا علاقة لها بأي مذهب من المذاهب في مواقفها.
ان الإثارة المذهبية والتحريض المذهبي يخدم أمريكا وإسرائيل، بل تديره أمريكا وإسرائيل. وكان سماحته يشيد بجهود التقريب بين المذاهب، وبالتجمعات واللقاءات التي تجمع بين المسلمين سنة وشيعة، ويدعو إلى احترام الخلاف المذهبي الفقهي الموجود في داخل المذاهب بل وفي داخل المذهب الواحد أيضاً، وأن لا يتمَّ استغلاله كمعبر للعصبية التي لا علاقة لها بالدين.
لم تخلُ خطبة من خطب سماحة العلامة الكبير من انتقاد أمريكا وتسليط الضوء على جرائمها وارتكاباتها. فأمريكا رأس كل المشاكل في منطقتنا، وهي التي تعبث ببلداننا في إطار مشروع الفوضى الخلاَّقة، وتنهب ثرواتنا، وتثبت المستبدين في بعض بلداننا لخدمة مصالحها. أمريكا شرٌ مطلق، فهي منحازة إلى إسرائيل، وترتكب الجرائم لمصلحتها، وتحتل بلداناً في المنطقة بذرائع واهية لتقضي على قدرة البناء والاستقلال والتحرير والقرار الحر. لقد تعرض سماحته لأضخم عملية اغتيال سنة 1985 من المخابرات المركزية الأمريكية بسبب مواقفه الجريئة وتعطيله لبعض خطط أمريكا في غزو بلداننا في الميادين المختلفة.
أكد سماحته على أهمية إيران ودورها وتجربتها الإسلامية الرائدة، فهو معها في كل حالاتها وتحدياتها، فهي إشعاع الأمل في رفع راية الإسلام وخدمة الأمة من منطلق الحق والعدل. ودعا إلى أن يستجيب العرب لليد الإيرانية الممدودة إليهم، فهذا خير للجميع، فقد وقفت إيران إلى جانب المقاومة في لبنان وفلسطين، ودعمت شعوب المنطقة في مواجهة الاستكبار الأمريكي، وهي تحمل القضايا نفسها التي نحملها في منطقتنا، فالوقوف مع ايران وقوف مع قضايانا ضد المشروع التخريبي الخطير لأمريكا وإسرائيل.
كما أكد على أهمية العلاقة والتنسيق مع سوريا، التي دعمت حق لبنان في تحرير أرضه، ووقفت إلى جانب المقاومة، ومن مصلحة لبنان ان يكون مع سوريا وأن تكون معه، ليؤازر كل منهما الآخر، فمعسكر الباطل المقابل يستهدف الجميع ولا يريد خيراً لا للبنان ولا لسوريا ولا لغيرهما في المنطقة، كرمى لعيون إسرائيل ومصالح الاستكبار.
موقفنا من المحكمة الخاصة بلبنان انَّها مسارٌ امريكي اسرائيلي عدواني, وهي مخصصة لطمس الحقيقة واسقاط العدالة, وهي مسيسة باجراءاتها واتهاماتها, وقد استهدفت سوريا والضباط الاربعة ظلماً واضحاً وعدواناً موصوفا, وهي تستهدف الآن المقاومة بعد عجز اسرائيل من القضاء عليها في عدوان عام 2006. لقد انكشفت اهدافها بالكامل مما قدمناه خلال السنتين الماضيتين. وهي جزء من لعبة الاستكبار للوصاية على لبنان, ورسم خارطة الشرق الاوسط, واراحة الكيان الاسرلئيلي. ومن سطَّر التاريخ والحاضر بمقاومته وجهاده وطرده لاسرائيل, لن تعيقه المؤامرة الامريكية الاسرائيلية المسماة محكمة والتي اصبحت وراءنا.
لقد اختار ممثلو الشعب هذه الحكومة برئاسة الرئيس ميقاتي, وهي ستعمل لمصلحة لبنان, ولن ينفع الاتهام الظالم والمشبوه للمقاومين الشرفاء, ولا الصراخ الذي يتغذى منه, في تغيير واقع الالتفاف حول المقاومة وتأييدها من الشرفاء من جهة, وحق الحكومة في خوض تجربتها من جهة اخرى.
راجعوا سياساتكم التي اخرجتكم من السلطة بالارادة الشعبية, ولو دامت لغيركم لما آلت اليكم ثم خسرتموها, وهل افجعكم الخروج من السلطة الى هذه الدرجة؟ وهل تستحق السلطة ان تحرضوا وتوقظوا الفتنة لأجل الامساك بها؟ وهل تعتقدون ان المسار الامريكي الاسرائيلي سينفعكم؟ راجعوا تجاربكم الفاشلة مع هذا المسار. لن يحقق التحريض الداخلي والخارجي الا ضرراً اضافياً على لبنان وعليكم بالخصوص, فاتقوا الله في البلاد والعباد, ونحن لن ننجرَّ الى ما تريدون, سنئدُ الفتنة, ونعمل لخير الناس وبناء الدولة, وستستمر المقاومة شامخة عزيزة, وعلى الله الاتكال.
كل الوفاء للعلامة الكبير، فالخط الجامع لنا واحد، ومسار الطريق نحو الحق والعدل والتحرير والاستقلال واحد، وستبقى تعاليمه ومواقفه ومؤسساته نبراساً للأجيال القادمة، تحمل في داخلها حياة الإسلام.