... المقاومة قدّمت نموذجاً رائعاً مميّزاً ، فسجلّ المقاومة ناصعٌ قاني ، ناصع بالأداء النموذجي وقانٍ بالتضحيات والعطاءات ، لم يستطِع أحد أن يشير إليها بكلمة واحدة ، ولم يستطِع أحد أن يهشِّم من عطاءاتها وامكاناتها ، ولم يستطِع أحد أن ينالها بكلمة تسيء إلى عطاءات رجالها .
نجحت المقاومة في تحشيد الشعب اللبناني حولها ، وانتصرت في أول انتصار من نوعه على اسرائيل منذ أكثر من خمسين عاماً ، وقدّمت نموذجاً في أخلاقية التعاطي لم نرَه في كل مقاومات الأرض ، وصوّبت البندقية في الاتجاه الصحيح إلى العدو الاسرائيلي . وهنا نؤكد أن لا عدوّ بالنسبة إلينا إلا اسرائيل ، وستبقى اسرائيل عدوة ولو سايرها البعض ، ولو أُعجب بها البعض ، ولن تكون في يوم من الأيام في موضع الصديق أو المتعاون مهما كانت الظروف ومهما كانت الأوضاع. في منطقتنا عدوٌّ أساس هو اسرائيل ، والباقي أشقاء نسعى معهم للتعاطي والتعامل والتفاهم لما فيه مصلحة لبنان والجوار .
هنا نُسجّل هذا الواقع الأليم الذي نعيشه ، ففي الوقت الذي وفّرت فيه المقاومة أجواء نهضة وازدهار في لبنان ، نرى اليوم من يحاول أن يُعطِّل مسار لبنان الاقتصادي والاجتماعي والسياسي بمحاولات يائسة لن تنفعَ مهما علا الصراخ ، ومهما ارتفعت النبرات ، فإن الشتائم لم تكن يوماً قادرة على بناء الأوطان ، وإنما تُبنى الاوطان بالتضحيات والدماء والمشاركة والعطاء ، أما إذا أراد البعض أن يضُجَّ الناس من صراخه فيسلِّموا له فهو واهم ، هذا الصراخ ينفع في مكان آخر غير لبنان ، أما في لبنان فهناك قواعد ، وعلى الجميع أن يتَّبعوها .
أكدنا مراراً وتكراراً أن من حق اللبنانيين أن يعبِّروا دائماً عن قناعاتهم ، وأن يتظاهروا وأن ينزلوا إلى الشارع ، وأن يقولوا أراءهم بكل حرية ، لكن لا نقبل أن يتحوّل الشارع إلى قوات مواجهة ، لأنهم بذلك يخسرون ماهيّتهم السلمية ، كما نقول للحريصين على أن يثبِّتوا مواقفهم وأن يحققوا أمانيهم وطموحاتهم ، بإمكانكم أن تلجأوا إلى الدستور اللبناني للقيام بما تشاؤون ، طالما أن عندكم أغلبية نيابية ، لكن عندما تعجز الأغلبية النيابية عن تقصير ولاية رئيس الجمهورية ، وهي عاجزة إذ لا يوجد أيّ مدخل دستوري يساعد ، مهما كانت التفسيرات التي حاولوا من خلالها أن يخترعوا عناوين لألفاظ لا علاقة لها بهذه الألفاظ ، لكن نسوا أن الباقين في وطننا يعرفون اللغة العربية ، ويربطون بين المعاني والألفاظ بما لا يمكِّن من تفسيرات الطموحات أو الأحلام ، بل تفسيرات الوقائع والأرقام . على هذا الأساس جال ببالي أن أقترح عليهم اقتراحاً ربما كان مدخلاً ملائماً لتحقيق ما يرغبون به ، طالما أن الشارع هو الذي يحسم الميدان بسبب الاغلبية الموجودة في الشارع ، وفي قناعتنا أن فريق 14 شباط يملك من الشارع ما بين الثلث و40 بالمئة من الشعب اللبناني ، أما الفريق الآخر فهو يملك ما بين 60 بالمئة إلى ثلثَي الشعب اللبناني ، ومع ذلك إن كنتم مطمئنين إلى الأغلبية الشعبية فاختاروا أيّ قانون انتخابي يعجبكم واقلبوا المعادلة ، وخذوا الأرقام التي ترغبونها في المجلس النيابي ، عندها ربما تحصلون على ما تتوقّعونه من أغلبية الثلثين فتحققون ما تريدونه عبر المجلس النيابي وبالطريقة الدستورية ، لكن أقول أنهم لن يلجأوا إلى هذا الخيار لأنهم يعرفون تماماً أن قانون الانتخابات الذي أنجز هذا العدد ، لن ينجزه مرة ثانية ، حتى ولو كان القانون المتّبع هو قانون الألفين ، لأن التحالفات تغيَّرت والعناوين اختلفت والنتائج ستختلف أيضاً .
على كل حال دعونا لا نلجأ إلى هذه الأساليب التي أتعبت الناس ، لا يحقُّ لحكومة تدير بلداً أن تخرِّبه من موقع الحكومة ، فالحكومة مسؤولة في أن تجتمع وتناقش وتقرِّر ، ولا يمكنها أن لا تجتمع تحت أي عنوان من العناوين فإذا كانت تعاني من خلل داخلي ، أو لا يقتنع بعض أعضائها بالبعض الآخر، فحكومة لا تتمكن من إدارة البلد ، حلُّها الطبيعي أن تنحلَّ ، وأن تأتي لتُقدم للمجلس النيابي استقالتها ، ليبحث عن حكومة جديدة تستطيع أن تقوم بمهامها ، أما أن تقرّر الحكومة في أن تجتمع وتعطِّل ، ثم تجتمع وتُعطِّل ، فهذا يؤثر سلباً على البلد ولا ينسجم مع المسؤولية التي منحها المجلس النيابي لمثل هذه الحكومة ، ثمّ ما هو الدافع لهذه الطريقة في مقاطعة الجلسات ، إذا كان الدافع رئيس الجمهورية وترؤسه للجلسات، فأنتم قد أصبحتم حكومة في لبنان لأنه وقّع على مرسوم أرسله إلى مجلس النواب لانتخابكم ، وبالتالي إذا كنتم غير مقتنعين بهذا التوقيع فعدِّلوا موقعكم ، ولا يجوز أن تبقوا بهذه الطريقة لأن البلد يعيش صعوبات وأخطار ، أعتقد أن الكثيرين لم يلتفتوا جيداً إلى أن تصريحات 14 شباط من بعض الذين رفعوا أسقفهم ، أثَّرت في البلد على المستوى الاقتصادي ، وأضرَّت بالأسهم وخفّضت من قيمتها ، وأخافت المستثمرين وأعاقت بيروت (1) ، وبالتالي فالذين يبحثون عن حلٍّ في لبنان ، عليهم أن يلتفتوا إلى أن اقتصاد لبنان مسؤولية وأمانة ، وإلى أن حياة الناس مسؤولية وأمانة ، وبالتالي إما أن يقوم المعنيون بمسؤولية إدارة الناس ، وإما أن يتنحّوا جانباً من أجل أن ينطلق البلد بشكل جيد .
نحن دعَونا إلى الحوار ، ووافقنا على الحوار ونؤيد دعوة رئيس المجليس النيابي إلى الحوار ، وبالنسبة إلينا ، لا نقبل حواراً مشروطاً ، لا قبل الحوار ولا أثناء الحوار ، كل القضايا مطروحة على الطاولة ، وبالتالي لسنا من الذين نُسأل في الحوار فنُجيب ، بل نُسأل ونَسأل ونُجيب ونطلب الإجابة من الآخرين ، وللحوار قواعد على الجميع أن يلتزموا بها، ولذا كل النقاط مطروحة على طاولة الحوار ، ولا مسلّمات مُسبقة كي نتمكن جميعاً من التعبير عمّا نريد ، وعلى كل حال ، لو كان القوم جادّين في الوصول إلى نتيجة فإن الحوار سينجح بإذن الله تعالى ، لكن إذا لم يكن هناك جدية ، وهو مجرّد ديكور يمرِّر بعض الأفكار وبعض المواقف ، فهذا يعني أنه سيفشل ، وأمامكم تجربة رائدة تمثَّلت بالتفاهم الكبير الذي حصل بين حزب الله والتيار الوطني الحر ، حيث لم يكن يتصوّر الكثيرون من الدوائر السياسية الاستكبارية والغربية والعربية واللبنانية أن يتّفق حزب الله مع التيار الوطني الحر ، ومع ذلك اتفقا وصاغا ورقة تفاهم ، ذلك أن كلاًّ منهما كان جادّاً في الحوار ، ولم يكن متمترساً حول مصالحه الذاتية ، وكان شجاعاً في أن يخرج إلى جماعته ليقول لهم ، نحن اتفقنا على هذه العناوين لمصلحة لبنان ، ولن نفكِّرَ في استثمار كل شيء ، فمن أراد أن يتّفق مع الآخرين عليه أن يأخذ ويُعطي.