(...)، قبل نجاحات المقاومة لبنان كان مسرحاً لإحتلالات إسرائيلية متنقلة ولاعتداءات منظّمة لا تتوقف، سواء كان ذلك من خلال الأمن الإسرائيلي أو الطيران الإسرائيلي أو الاجتياحات المتكررة، قبل نجاح المقاومة لم يكن للبنان قيمة في العالم، وكنا نعاني من مرارات كثيرة ونستجدي أن يُنفَّذ قرار دولي من هنا أو من هناك وأكبر نموذج هو القرار الدولي 425، لكن بعد نجاح المقاومة في التحرير عام 2000 وفي الانتصار على العدوان الإسرائيلي عام 2006، أصبح للبنان كرامة ومعنويات عالية، وأصبحت الدول عندما تأتي إلى لبنان تأتي إلى دولة محترمة ذات سيادة ، لا يستطيع الآخرون أن يتعاملوا معها كمزحة، ولا يستطيعون التعامل مع هذه الدولة كشيء عابر، بل في هذه الدولة أبطال شجعان وقفوا وقاتلوا وواجهوا وحققوا الاستقلال رغماً عن كل التواطئ الدولي الذي كان إلى جانب إسرائيل، ولم يكن إلى جانب المقاومين في الجنوب إلا العُزَّل من الشعب الطيب الذي حمى المقاومة فانتصر لبنان بمقاومته وجيشه وشعبه من دون أن يكون هناك منّة لدول العالم ولا لمجلس الأمن، لبنان حصل على إنجازه العظيم بأيدي وسواعد هؤلاء المقاومين المجاهدين.
هذا الإنجاز إنجازٌ كبير، ومن حقنا أن نقول أنه انتصار إلهي استراتيجي، لأننا نؤمن بأن الله داعم لنا، والدعم المعنوي الذي يعيشه المجاهد في علاقته مع الله أهم بكثير من كل الأسلحة المادية لأنه يتحول هو بنفسه إلى قوة كبيرة لا تقهرها إسرائيل ولا الذي أكبر من إسرائيل وهذا ما أثبتته المعركة في جنوب لبنان.
هذا الانتصار الذي حصل لم تظهر تداعياته على الكيان الإسرائيلي إلاَّ بلجنة بسيطة، ولم تبرز آثاره العظيمة على الأحرار والمقاومين وما رأيناه هو جزء من الآثار الإلهية، سيقرأ الناس في المستقبل معنى هذا الانتصار، أذكر مثلاً واحد في هذا المقام: لأول مرة منذ سنة 1948 تهتزّ قدرة الردع الإسرائيلية ويبدأ النقاش بجدوى استخدام القوة المفرطة في صد سيطرة الكيان وتبدأ الهجرة المعاكسة من الكيان إلى خارجه فتزداد على الهجرة من خارج الكيان إليه، وهذا يعني إعادة النظر بجدوى وجود الكيان الإسرائيلي في منطقتنا بعد هذا التاريخ، وهذا أمر كبير جداً، نحن نسمع بعض النتائج والحديث عن قدرة الردع المنهارة وعن الإقالات العسكرية والسياسية، ونسمع عن رفض الشعب لقياداته وأدائه، لكن هناك شيء نفسي على مستوى كل الجمهور الإسرائيلي، وهذا لا يمكن يمكن انتزاعه بسهولة ، ربّوهم لأكثر من خمسين سنة لأجل أن يكون هذا الكيان مصدر قوة وحضور، الآن ربّتهم المقاومة أن هذا الكيان سيكون مصدر إزعاج وقلق لهم ولحياتهم وهذه نقطة جوهرية ستؤثر على طريقة التفكير.
هذا الإنجاز بطبيعة الحال سيترك آثاره لكن هل يظن أحد أن ما أنجزته المقاومة سنة 2006 كان نهاية المطاف؟ كما أن الخسارة تحمل تداعياتها ولا تكون نهاية المطاف، كذلك الانتصار يحمل آثاره ولا يكون نهاية المطاف. ونحن اليوم كمقاومة أهم وأقدر وأقوى مما كنا عليه وبالتالي يوجد إقبال شعبي وشباب أكثر مما كنا عليه، ومعنوياتنا هي أهم بكثير مما كنا عليه، وقيسوا على ذلك ما تشاؤون ، وبالتالي من كان يفكر بأن المقاومة ارتبكت أو جرحت أو تراجعت، أقول له : المقاومة صَلُب عودها أكثر وأصبحت أكثر زهواً من ذي قبل في معركة الحق ضد الباطل وهي صامدة وعصية على المستكبرين والمحتلين سواءً قرّروا أن يخوضوا تجربتهم في أي وقت أم لم يقرروا ذلك، لأن من نَصرَه الله تعالى في هذه الموقعة العظيمة لا يوجد من يتراجع بعد اليوم إلى الوراء بحمد الله تعالى.
واليوم سنحافظ على هذه المقاومة ولن نخجل بها، ولن ندافع عن ضرورة وجودها، هي وُجدت في غياب الآخرين، هي وجدت لتحمي لبنان الذي كاد أن ينسحق تحت إطار الاحتلال الإسرائيلي، هي وُجدت في وقتٍ كان الأمريكي يتطلع ليجعل لبنان بوابة للشرق الأوسط الجديد، وبالتالي هذه المقاومة هي خيار في مقابل الاحتلال والوصاية، وستبقى قوية عزيزة ، لم تكن يوماً للاستقواء على أحد، وإنما كانت دوماً تمثل أطياف الشعب كافة، وكانت دائماً تقف بالمرصاد من أجل العناوين الشريفة وأبرزها عنوان التحرير للأرض، من أراد أن ينافس المقاومة في عنوانها فليكشف جردة حسابه، أين حرَّر لبنان وكيف وبأي طريقة وكم هو عدد الشهداء في هذا المسار في مواجهة الكيان الإسرائيلي المعتدي على لبنان.
نحن اليوم نعتبر أن أمريكا هي المصيبة الكبرى الموجودة في منطقتنا، أمريكا تريد أداءً سياسياً يجعل بلدان المنطقة تحت إدارتها وقيادتها، وهي رأس المصائب فإذا فتشتم عن مصيبة في العالم العربي أو الإسلامي تجدون وراءها أمريكا. إلى درجة أن كراهية أمريكا عند الشعوب العربية والإسلامية أصبحت في أعلى منسوب ومستوى لها في كل تاريخ أمريكا حتى الآن، ألا يدل هذا على مستوى منحط ومنحدر في إدارة أمريكا لشؤونها.
واليوم أمريكا تريد إنجازاً لبنانياً ، لأنها عجزت عن الإنجاز في العراق وعجزت في فلسطين وعجزت في مواجهة إيران وعجزت في مواجهة سوريا، وعجزت من خلال إسرائيل في لبنان، فهي تريد أن تدخل مباشرة عبر وصاية تفرضها لتحقيق إنجاز في لبنان، لتقول أنجزت في مكان من العالم، لكن لبنان ليس مكاناً لإنجازات أمريكا، وستكتشف أمريكا أن لبنان هو وبالٌ عليها عندما تريد أن تعمل لمصالحها على حساب مصلحته، لن نقبل أن يكون لبنان إنجاز أمريكي ، لبنان إنجاز اللبنانيين وإنجاز المقاومين وسيبقى كذلك.
وهنا استغرب كيف أننا لا نسمع انتقادات للسفير الأمريكي وحركته الذي يتدخل كل يوم في الانتخابات اللبنانية، والذي يعرض الشروط التي يريدها، وبمجرد أن نطق بضرورة أن يعمل الرئيس على ضرورة تطبيق القرار 1559 رأينا تكرار هذه الدعوة عند بعض القيادات اللبنانية الذين لم يتبلغوا سراً هذا التوجيه أو أن السفير الأمريكي استعجل فتكلم، فأحرج من سمع فرددوا وراءه كالببغوات، وهو لا يخجل أن يكون مديراً لحركتهم السياسية ، وهم أيضاً يتحملون مسؤولية لأنهم يتبعون إدارة فاشلة ضد مصلحة لبنان، وهنا لا نسمع إنتقاداتهم بل بالعكس يتحدثون عن أن أمريكا هي تعمل لمصلحة لبنان وأنهم حلفاء لها، ونسمع انتقادات عن دول لا تتكلم شيئاً عن لبنان، عجيب هذا الامر فالذي يتدخل لا يتكلمون عنه والذي لا يتكلم ويقول أريد الوفاق اللبناني يتّهمونه، هذا تزوير للحقيقة وهو تزوير مكشوف أمام الجميع.
أما بالنسبة لموضوع الانتخاب الرئاسي فإني لن أتحدث لا بلغة التفاؤل ولا التشاؤم، فقد أدلى كل فريق بدلوه، وأصبحت المواقف معروفة، وإلى الآن نسمع تصريحات وننتظر ما هي الإجراءات العملية كترجمة للتصريحات الإيجابية، لكن ليس هناك جواباً واضحاً حتى الآن، نحن نعتبر أن الطريق الوحيد لمنع الفراغ الرئاسي هو التوافق، الذي ينسجم مع الدستور اللبناني وفق قاعدة نصاب الثلثين، وقد تصرفنا إلى الآن كمعارضة بحكمة بالغة لمصلحة البلد، وصبرنا على كل التجاوزات وإنما كان صبرنا لأننا نعتبر أن هذه التجاوزات لا تؤثر في البنيان العام ولا تغيِّر في الواقع لأن لبنان لا زال سيد نفسه والوصاية عاجزة عن أن تأخذه إليها، وبالتالي كل محاولات فريق السلطة كانت محاولات فارغة ليس لها التأثير الكافي من أجل أن تأخذ لبنان باتجاه الوصاية.
وهنا نقول لكل المسؤولين: البلد لا يتحمل المزيد من التجاوزات ، خاصة في انتخاب رأس السلطة، وتتحمل جماعة 14 شباط كامل المسؤولية إذا أجرت انتخابات رئاسية مخالفة للدستور بإطار النصف زائد واحد أو بمن حضر، لأن هناك عنوانين متلازمين لا بدَّ أن يتواجدا معاً: الأول المهلة الدستورية التي يجب احترامها، والثاني هو نصاب الثلثين. لا يحق التمسك بالمهلة الدستورية بمعزل عن الثلثين، وإلاَّ كان الاختيار بعيداً عن الدستور ولن نكون أمام رئيس للجمهورية، سنكون أمام رئيس لجماعة اختاروه لهم ، وبالتالي هم أحرار في رئيسهم أن يسكنوه حيث يريدون وأن يستمعوا لأوامره، ولكن هو ليس رئيساً للدولة اللبنانية، الرئيس هو الذي يُنتخب بشكل توافقي، وعلى كل حال إذا استطاعوا أن يكون لهم نصاب الثلثين حتى ولو لم يتوافقوا مع أحد فليأخذوا رئيس الجمهورية، نحن لا نريد التوافق لأننا نريد أن نحشر أنفسنا في إطار أي اختيار، إنما نريد حماية الدستور، فإذا كنتم تستطيعون ذلك بالثلثين اختاروا من تشاؤون بنصاب الثلثين حتى ولو لم نكن بينكم.
أكرّر أننا سنتعامل بإيجابية كاملة مع مسعى التوافق، الذي لا يمكن إيجاده إلاَّ إذا صفَّقت اليدان معاً ، وكانت الجهة المقابلة تملك الاستعداد والعمل لاتخاذ القرار الذي يساعد على الحل، ونحن منتظرون، انتبهوا فأمريكا ستستغل أي شيء من أجل مشروعها، وستحاول أن تستغل موضوع الرئاسة من أجل مشروعها، علينا أن نتماسك لمنع أمريكا وإلاَّ كانت الخيارات صعبة ومعقدة ويتحمل مسؤوليتها من أعطى أمريكا ولم يعطِ لبنان.