عندما حصل الاجتياح الاسرائيلي في سنة 1982 كان له هدفان: الأول إخراج المقاومة من ساحة جهادها بالكامل بإخراج مقاتلي منظمة التحرير، والهدف الثاني التحكم بلبنان وفق شروط مذلة تجعل لبنان مستعمرة إسرائيلية بالكامل، واستطاع العدو الاسرائيلي بدعم دولي ومحلي أن ينجز الحالة الأولى مؤقتاً، ولكن فوجئ بنمو المقاومة في لبنان، وببداية التحول الحقيقي الذي تمَّ التعبير عنه سياسياً في أول موقف سياسي علني صارخ برفض اتفاق الذل في السابع عشر من شهر أيار من عام 1983. هذا الاتفاق لم يكن اتفاقاً عادياً، وإنما كان اتفاق إنهاء لوجود دولة لبنان، وكان اتفاقاً للذل والخيانة، في هذا الاتفاق يُمنع على الدولة اللبنانية أن تحمل سلاحاً من أنواع معينة في جنوب لبنان بل خارج الجنوب أيضاً، ومن يقرأ تفاصيل الاتفاق يرى إنهاءً للحرب مع لبنان وإدخال لبنان في صفقة سياسية لمصلحة إسرائيل، وإذا قرأنا الشروط من أولها لآخرها لا نرى مادة واحدة تتحدث عما يمكن أن تفعله إسرائيل، بل كل المواد تتحدث عما يجب أن يفعله لبنان، ممنوع على لبنان أن يتجاوز عدداً من الألوية يصل إلى لواءين في الجنوب، وممنوع على عدد الضباط أن يتجاوز أفراداً محددين، حتى أن أنواع السلاح مذكورة بالأعداد، كذلك ممنوع على الطائرات المدنية أن تمر في الجنوب إلا بعد إعلام إسرائيل بكل المسافرين، وأضف إلى ذلك أن السلاح مع الجيش سلاح خفيف، وعلى الجيش والدولة اللبنانية أن تقمع وتسجن وتقتل كل من يقف ويعارض هذا الاتفاق أو يحاول مواجهة إسرائيل، وكذلك بإمكان الدولة اللبنانية والجيش أن يستعينوا بالأنصار وهم يقصدون في وقتها جماعة لحد، وبالتالي كان الاتفاق يمنع اللبنانيين أن يتصرفوا بحرية في أرضهم، وعلى لبنان أن يفتح المجال الاقتصادي مع العدو الاسرائيلي، وأن يمنع الاعلام من انتقاد إسرائيل أو مشروع إسرائيل، أي بمعنى آخر كنا سنصل إلى مستعمرة إسرائيلية اسمها لبنان من بوابة اتفاق السابع عشر من أيار. هنا موقف تجمع العلماء المسلمين من المسجد ومن الإيمان ومن الإخلاص لله تعالى، ومن الحرص على لبنان والمنطقة، كان الموقف الوحيد الذي سطع في أجواء لبنان، وبقيَ نقطة مضيئة تنير طريق المهتدين لمواجهة العدو الاسرائيلي. في هذا المجال لفت نظري الدعوة إلى الاعتراف بدولتين: واحدة يهودية وأخرى فلسطينية، وليس الاعتراف بإنشاء الدولتين مشكلة، هي فكرة من الأفكار، ويمكن معارضتها ويمكن القبول بها بحسب السياسات المعتمدة، لكننا نرفض حلَّ الدولتين بالكامل، لكن هم قالوا بدولة يهودية أما الدولة الفلسطينية فهي دولة قابلة للحياة. في كل العالم إما أن يكون هناك دولة أو لا يكون، أما الحديث عن دولة فلسطينية قابلة للحياة فهي صيغة إستثنائية ليس لها وجود في العالم، وهي مبنية على أن لا يكون للفلسطينيين حدود، وأن لا يكون لهم جيش، وأن لا ينفردوا باقتصادهم، وأن ترتبط المياه والكهرباء بالتوزيع الاسرائيلي، وأن تُعطى الشرطة الأسلحة الكفيلة بالقمع دون القدرة على التحرير، وأن تبقى المنافذ إلى الدولة الفلسطينية منافذ الحد الأدنى الذي يُبقي الناس على قيد الحياة من دون القدرة على التحرك، أي هم يريدون دولة يهودية ومعسكر فلسطيني كبير يكون تحت خدمة المشروع الاسرائيلي. بكل وضوح: الدولة الفلسطينية القابلة للحياة التي يدعون إليها هي أسوأ بمئات المرات من اتفاق السابع عشر من أيار، لأنه في الواقع لم يتركوا شيئاً للفلسطينيين بهذا المشروع الذي يتحدثون عنه، وهنا أصبح واضحاً أننا بين مسارين: مسار الحلول المسمَّاة سياسية ومسار المقاومة لاستعادة الأرض والكرامة، أما مسار الحلول السياسية فقد أدى إلى خسائر متتالية ومتصاعدة منذ إنشاء الكيان بشكل رسمي منذ إنشاء الكيان سنة 1948، لاحظوا أنه منذ إنشاء الكيان كان كياناً لحوالى نصف الأراضي الفلسطينية، ثم في عام 1967 احتلت كل فلسطين، ثم أُخذت أيضاً أجزاء من سوريا ومصر والأردن، ثم في سنة 1978 اجتياح جزئي للبنان، ثم في سنة 1982 الوصول إلى عاصمة لبنان بيروت، وبالتالي كل الخطوات التي رأيناها تحت عنوان التسوية ومدريد وخارطة الطريق، كلها كانت تركز على هضم إسرائيل سياسياً للاحتلالات العسكرية، بتوسُّع موقع عليه بإشراف دولي من الأرض الفلسطينية وعلى حساب الفلسطينيين، بحيث أننا لم نشهد حقبة سياسية واحدة أعطت للفلسطينيين شيئاً على الإطلاق، وما يتحدثون عنه اليوم من مفاوضات مباشرة وغير مباشرة، فلا فائدة للفلسطينيين بها بأي شكل من الأشكال، لأنه لا يوجد أي تفاوض بين جهتين، لأنه ليس هناك جهتين تتفاوضان، بل جهة تملي وجهة توقِّع دون أن يكون لها أي خيار في أن تشترط شرطاً واحداً، فأي مفاوضات وأي تسوية هذه، هذه التسوية التي يتحدثون عنها هي مشروع تشريع الكيان الغاصب بتوقيع فلسطيني وإشراف دولي تحت السلاح، لذلك فإن المسار السياسي أثبت فشله وأنه خطوات سلب فلسطين تدريجياً تمهيداً لسلب المنطقة العربية بأكملها، إذا ظنَّ الحكام العرب أنهم آمنون بالتسوية الفلسطينية فهم مخطئون، لأن فلسطين إذا ذهبت وانتهت لا سمح الله فلن يبقى لهم أي عرش، هذا المسار السياسي هو مسار ضد مصلحة الفلسطينيين بالكامل. أم المسار الآخر فهو مسار المقاومة، وقد جرَّبنا هذا المسار وإذ به يحقق الانجازات الكبيرة، فمن خلال المقاومة تحررت الأرض في لبنان سنة 2000، ومن خلال المقاومة استطعنا في لبنان أن نصدَّ عدواناً إسرائيلياً خطيراً في تموز 2006 ونحقق نصراً إلهياً عظيماً على أيدي المجاهدين، من خلال المقاومة صمدت غزة الفلسطينية الأبية الأصيلة في مواجهة المشروع الإسرائيلي، وبالتالي أثبتت المقاومة أنها قادرة على استعادة الأرض، وارباك العدو، ومنع الخطوات السياسية لمصلحة إسرائيل، والتأسيس لتحرير الأرض والانسان، وإبداء القوة التي تمكننا من استعادة حقوقنا. إذاً أي مسار نختار؟ هل نختار مساراً أذهب فلسطين وأجزاءً من بلدان عربية؟ أم نختار مسار المقاومة الذي أدى إلى طلائع التحرير والصمود والعودة إلى استعادة الأرض والحقوق والمقدسات. نحن اخترنا مسار المقاومة، واليوم المقاومة لم تعد مشروعاً، بل تحولت إلى استراتيجية دفاعية قوية، وحاضرة في الميدان ولها تأثيرها، لقد انتهت المرحلة التي كنا فيها نناقش جدوى المقاومة، لنصل إلى المرحلة التي نعمل فيها لتقوية المقاومة، وبالتالي كل خيار يقف في مواجهة خيار المقاومة لا يمكن أن يكون ناجعاً بعد أن جربنا مسار التسوية ومسار الحلول السياسية التي أودت بكل شيء. هذه المقاومة الشريفة الأبية هي التي استطاعت أن تتجاوز خطوات الامتحان إلى خطوات النصر، ونحن بحاجة إلى هذه الانتصارات العزيزة، وبكل وضوح: لا يفلُّ الحديد إلا الحديد، لن نواجههم بالخطب الرنانة ولا بالاعتصامات والتظاهرات، بل سنواجههم بالحديد والقنبلة والمدفع والرشاش، وبعد ذلك نقول لهم كلمتنا، من أجل أن يعرفوا أن شعبنا لا يمكن أن يستهين بأرض أو بحق، وسيبقى حاضراً في الميدان دون أن يضع لنفسه سقفاً لا في التسلح ولا في العدد ولا في الموقف، لأن من حقنا أن نمتلك أي سلاح يحرر أرضنا ويسترد كرامتنا، وليس من حق أحد أن يضع علينا القيود والضوابط، هذه كرامة وعلينا أن نستعيدها، وهذه أرض ويجب أن تعود إلى آخر شبر منها، دلُّونا على كيفية إعادتها بغير المقاومة، أو أعيدوها إلينا بغير المقاومة لنقول بعد ذلك كلمة أخرى، لكن أصبحنا ندرك تماماً أن الوضع الدولي متآمر علينا، نحن لا نتكلم كلمات اعتدناها من بعض المثقفين وغير المثقفين، ولكننا نتحدث بالوقائع، كل العالم يتكالب من أجل دعم إسرائيل بالمال والسلاح والموقف السياسي، ويبقى الفلسطيني المظلوم لا يقف معه أحد، الطفل الفلسطيني مدان أنه صرخ الله أكبر في مواجهة إسرائيل، بينما عندما تقتل إسرائيل الشعب الفلسطيني المبرر على المستوى الدولي، قاتلهم الله أنَّى يؤفكون. ما هذه المواقف الدولية التي تحرص على العدالة العالمية، هم أبعد ما يكون عن العدالة، أدركنا تماماً أننا لا بدَّ أن نستعيد أرضنا وحقنا بأيدينا وقوتنا، ولذا مقاومتنا مستمرة بكل صلابة إن شاء الله تعالى مهما كانت التحديات، وأقول لكم أكثر من هذا: كلما زاد التحدي قويت المقاومة، لأننا في التحدي نعرف أهمية المقاومة، وقد تعلمنا أن لا نقف أمام الباطل مستسلمين، فالله معنا وهو القوي العزيز، ومن كان مع الله لا يُبالي أوقع على الموت أم وقع الموت عليه، لأنه واثق بخطه ومساره.
كل من يراقب وضعنا يرى أننا في الموقع الدفاعي، كل من يراقب ما يحصل في المنطقة يرى أن إسرائيل عدوانية بكل ما للكلمة من معنى، هل تستطيعون التحدث عن تاريخ اسرائيل بغير دم ومجازر واحتلال وعدوان؟ ها هم اليوم يجرِّبون لغة الحرب كمسرحية من أن التهيئة لعدوان على المنطقة، وها هي إسرائيل تقوم بمناورة تلو الأخرى تحت عنوان الاستعداد للحرب، لماذا هذه الاستعدادات؟ ما العلم أننا لا نهاب استعداداتها وتهديداتها، فلتهدد ما شاءت، فنحن مستعدون أيضاً ولدينا من الجهوزية ما يكفي لأي طارئ بإذن الله تعالى، وأبشركم أننا إذا قارنا وضعنا اليوم على كل المستويات السياسية والاجتماعية والعددية والقدرة، فإننا أفضل بكثير مما كنا عليه في العام 2006، مع معنويات إضافية والتفاف شعبي كبير ووضع سياسي ممتاز إذا ما قيس بالأوضاع السابقة. لاحظوا اليوم مستوى الالتفاف السياسي حول المقاومة فهو أفضل بكثير مما كان عليه وكذلك مستوى الالتفاف الشعبي، وعدد المنضوين تحت لواء المقاومة أكثر مما كنا عليه والمنتظرون صفوف وطوابير ينتظرون دورهم للقيام بواجبهم في الجهاد في سبيل الله تعالى. رصيد المقاومة بكل المعايير رصيد متقدم، وهذا ما يُخيف الأعداء، ويجعلهم يحارون كيف يهجمون علينا بالسياسة، وكيف يُثيرون قضايا عديدة على المستوى الاعلامي من أجل التحريض ومن أجل تطويقنا، إطمئنوا فكل هذا التحريض لا يؤثر علينا، وهذا أقل ما نتوقعه في مواجهة الاستعدادات التي نستعدها، هذا أمر طبيعي، فنحن جماعة سرنا في طريق ذات الشوكة.
لا يمكن أن نخضع للابتزاز المتعدد الأطراف مهما كان اتجاهه ومهما كان واقعه، نحن متمسكون بمقاومتنا، ونحن نعتبر أن التلاحم الموجود بين المقاومة والشعب والجيش في لبنان يشكل رداًَ وردعاً حقيقياً يوفر علينا الكثير من الحروب، لا تظنوا أبداً أن قدرتنا ستكون سبباً لحرب، بل هذه القدرة ستكون سبباً لردع إسرائيل حتى تفكر ألف مرة قبل أن تُقدم على الحرب، فقوتنا قوة ردع تؤجل وتعيق الحرب، بينما لو كنا ضعفاء لخاضت إسرائيل حرباً منذ زمن بعيد وحققت الكثير.
اليوم مع ذكرى السابع عشر من أيار، نقف معتزِّين بكل الذين وقفوا وعبَّروا وأضاؤوا شموع هذه المسيرة الجهادية وإن شاء الله سنستمر بالمقاومة حتى التحرير الكامل من دون قيد أو شرط، فتحرير الأرض لا يحتاج إلى إذن من أحد، ولا يسمى تحريراً إذا كان مشروطاً.