وأمَّا الملتقى الرابع للأفكار الاستراتيجية بموضوعه "الحرِّية"، فهو موضوعٌ إشكالي كبير في عالمنا المعاصر, تُطرحُ عنه أسئلةٌ كثيرة:
هل الحرِّية مُطلقة أو مُقيَّدة؟
فإذا كانت مُقيَّدة, فما هي الضوابط التي تحفظ كرامة الإنسان وتحافظ على حريَّته؟
وهل تتشابه الحرِّية من منطلق الإسلام مع الحرِّية من المنظور الغربي؟
ولماذا نرفض نموذج الحرِّية الغربية، وما هو البديلُ السليم؟
نجدُ الإجابات وفيرةً في الضوابط الإسلامية، التي أعطت للإنسان حرية الاعتقاد, "وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاء فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاء فَلْيَكْفُرْ"(25)، ولكنَّها قيدته في إطار الحلال والحرام بحيث يكون أداؤه منسجمًا مع الحدود الإسلامية، فلا ينساق مع هواه ورغباته التي تحرفه عن إنسانيته واستقامته، "وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى"(26).
ونظرًا لحساسية هذا الموضوع، فقد انعقد الملتقى الرابع حول الحرِّية، لرسم المعالم المناسبة لإدارة البلد والمجتمع, وقد بيَّنَ الإمام الخامنئي(دام ظله) في مقدِّمة حديثه أهداف ملتقيات الأفكار الاستراتيجية فقال: "إنَّ للجمهوريّة الإسلامية عدَّة أهداف أساسيّة من وراء إقامة ملتقيات الأفكار الاستراتيجية، والتي لا ينبغي لنا أن ننساها أو ندعها تغيب عن أعيننا. أحدها أنَّ البلد بحاجةٍ ماسّة في مجال المقولات المتعلّقة بالبُنية التحتيّة إلى الفكر والتفكير. يوجد الكثير من المقولات الأساسيّة، وها نحن نلتقي لبحث المقولة الرابعة "الحرِّية"، ونرى أنَّنا بحاجة للتفكير بشأنها ونُعمل الفكر حولها.
هناك هدفٌ آخر، وهو أهميّة التواصل المباشر مع النُّخب. يمكنني أن آخذ كتابكم وأقرأه، ولكن هذا يختلف عن استماعي لحديثكم منكم مباشرةً، وإن كان بصورةٍ مختصرة.
النقطة الثالثة - وهي في غاية الأهميّة - ترتبطُ بإيجاد الأرضيّة العلميّة لتحصيل الأجوبة عن الأسئلة المهمّة في المقولات البُنيوية والتأسيسيّة. ومثلما أشار بعض أعزّائنا، فإنَّنا نواجه أسئلةً وعلينا أن نجد لها الأجوبة. هذه الأسئلة ليست مُثيرة للشكوك، أو مُبيِّنة للشبهات والعقد الذهنيّة فحسب، وإنّما تطرح قضايا أساسيّة لحياتنا الاجتماعيّة. وبادّعائنا، أنَّنا جمهوريّة إسلاميّة ونظامًا إسلاميًّا، تُعدّ هذه طروحات لقضايا أساسيّة. فيجب أن تُطرح, ويجب أن يُجاب عليها. فهل حُلَّت هذه القضيّة؟ وهل لها جوابٌ واضحٌ أم لا؟ إنَّنا بحاجة في هذا المجال إلى العمل، فهذا من أهداف هذا اللقاء"(27).
ثم تحدَّث سماحته عن الحرِّية, مؤكِّدًا بأنَّ نطاقها وحدودها تعاليم الإسلام في كلّ المجالات الثقافية والأخلاقية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية, وممَّا قاله: "في الآية المعروفة من سورة الأعراف المباركة يقول: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾(28)، إنَّ هذه أوضح آية في القرآن حول الحرِّية، حيث تضع الإصْر. والإصْر هو تلك الحبال التي تُربط بها الخيمة من أجل أن لا تطيح بها الرّياح، وهي التي تُربط بإحكامٍ بالأرض، ولكنَّه أخلَدَ إلى الأرض، هذا هو الإخلاد إلى الأرض. فأواصرنا هي تلك الأمور التي تربطنا بالأرض وتمنعنا من التحليق. والغلُّ هو تلك السلسلة المعدنية التي جاء النبيُّ من أجل رفعها. في هذه الآية، وقبل أن يقول: ﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾، يقول: ﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ﴾, فماذا يعني الحلال والحرام؟ الحلالُ والحرامُ يعني وضع الحدود والمنع، وهما متلازمان مع الممنوعيّة. فمن الأساس، لا ينبغي أن نأبى وجود الحدود والمنع في أذهاننا أثناء البحث حول الحرِّية"(29).
25- سورة الكهف, من الآية: 29.
26- سورة النازعات, الآيتان: 40 و41.
27- خطاب الولي 2012, ص: 573 و 574.
28- سورة الأعراف, من الآية: 157.
29- خطاب الولي 2012, ص: 582 و 583.