28/2/2004
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد الله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الخلق مولانا وحبيبنا وقائدنا أبي القاسم محمد(ص) وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين. السلام على الحسين وعلى علي بن الحسين، وعلى أهل بيت الحسين، وعلى أنصار الحسين، وعلى الشهداء الذين قدموا دماءهم الزكية في كربلاء، وعلى تلك السلسلة الطاهرة التي بدأت بمحمد(ص) وتركزت وتجسدت بعلي وفاطمة(ع)، وامتدت إلى الأئمة الأطهار وصولاً إلى إمامنا المهدي(عج)، والسلام على شهداء الإسلام الذين قدَّموا في سبيل هذه المسيرة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عاشوراء تضخ التربية وتؤثر في حياتنا وفي أنفسنا، عاشوراء تعلِّمنا كيف يكون المسار وكيف نُحسن اختيار الطريق، عاشوراء مدرسة لتحصين الأمة من كل ما يواجهها من أباطيل وزيف، وهي التي ردَّت إلينا معنويات الجهاد، وأصالة الفكر، وعنفوان الموقف، وأدَّت بنا إلى ان نصنع انتصاراتنا ببركة الإمام الحسين(ع)، وهذا هو النهج الأصيل الذي تربينا عليه. مَنْ نظر إلى عاشوراء وجد فيها الكثير الكثير، ونهَلَ منها ما يعجز المرء عن إحصائه، فهي عبر السنين تزداد وتزداد، وهي عبر الأيام تتألق وتزداد تألقاً، إذاً كيف نأخذ من عاشوراء ما يساعدنا على تحصين أمتنا، وما يُمكِّننا من بناء أنفسنا بما نواجه به هجمة استكبارية تتكرر في كل حقبة من الزمن، وقد ازدادت اليوم إلى درجة الخطر الماحق، من خلال محاولات الاستكبار العالمي أن يُسقط مسيرة الحق، وأن يمنع قدرة الإسلام والمسلمين على الثبات والاستمرار والصمود، كيف نُعلِّم؟ كيف نربي؟ كيف نتفاعل مع عاشوراء؟ كيف نفهم الإسلام؟ كيف نسير في هذا الطريق الطويل لنملك القوة التي ملكها محمد وآل محمد(ص)؟ هذه خطوات تحتاج منّا إلى تأمل وتدقيق، وتحتاج منّا إلى رعاية الكثير من التفاصيل، كي لا يضيع علينا السبيل، وكي لا تختلط علينا المناهج، وكي لا نقع أسرى تقليد أعمى للغرب في طريقة توجيهه وتفكيره، وإلاَّ سقطنا في الاختبار وخسرنا التحصين.
أولاً: التحصين يكون بالإيمان، والإيمان نقطة مركزية في بناء الإنسان، والربط بهذا الإيمان يعني أن يصاحبه في كل مراحله وفي كل حياته وفي كل أدائه، ومن الخطأ أن نستبدل هذا الإيمان بمقومات المادة، ومكاسب الحياة الدنيا، كعنوان من عناوين التربية، وإلاَّ وقعنا في مغالطة كبرى. كيف نوفق بين إيمان يتخلى عن المادة ومقوماتها، وارتباط بالمادة يركز على كسبها في الدنيا؟ كيف نوفق بين إيمان يجعلنا نتطلع إلى الآخرة فنسمو في تفكيرنا وعطاءاتنا وتضحياتنا، وبين مكاسب مادية تشدنا إلى الأرض وتبرر لنا أن نتنافس فيها لنغرق في دائرة من الابتعاد عن الإيمان كما أراد الله تعالى؟ حاولت ان أتلمَّس بعض ما قاله الإمام الحسين(ع) في خطواته ومواقفه المختلفة، بدءًا من المدينة المنورة وانتهاءاً بكربلاء، لأتلمس معكم حقيقة التوجيهات والتربية، وطبيعة الخطاب الذي أراد الإمام الحسين(ع) أن يوصله إلى الجماعات التي خاطبها، وأن يُبقيه لنا مدرسة عبر التاريخ، لأهميته وأبعاده، كي نتربى بما قال، وكي نلتزم بما وجَّه.
في كتابه إلى أهل الكوفة الذين أرسلوا له طالبين منه ان يكون قائداً وإماماً لهم، وهم مستعدون لمبايعته، بعد أن اجتمعوا في منزل سليمان ابن الصرد، أجابهم برسالة قال فيها(ع):" فلعمري ما الإمام إلاَّ الحكم بالكتاب، القائم بالقسط، الدائن بدين الحق، الحابس نفسه على ذات الله، والسلام". كلماتٌ تركِّز على المعنى الإسلامي، بالتسليم لدين الله تعالى من دون الخوض في التفاصيل الإجرائية والمكاسب الدنيوية التي يمكن أن يحصلوا عليها،لم يعدهم بالنصر، ولم يذكر أمامهم أنهم سيحكموا الأرض، ولم يقل لهم قولاً فيه نوع من العطاء الدنيوي، أو فيه نوع من التبشير بالمكاسب التي يمكن ان يحصلوا عليها، وهذا الأمر مقصود من الإمام الحسين(ع)، هي مبارَكةٌ لهم لأنهم يدينون بدين الحق ويقومون بالقسط ويحكمون بالكتاب، إذاً هذا هو الهدف، وهذه هي التربية، وهذا هو المسار.
عند استعداده للخروج من مكة المكرمة، أعلن ما يُبيِّن للركب وللجماعة الذين التحقوا به، وبعضهم قال أن كلامه جاء بعد معرفته بمقتل مسلم ابن عقيل(رض)، قال:"خُطَّ الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة"، إلى أن قال:"من كان باذلاً فينا مهجته، وموطناً على لقاء الله نفسه، فليرحل معنا، فإني راحلٌ مصبحاً إن شاء الله تعالى"، وهذا تأكيد من الإمام على دعوتهم للتفكير بالتضحية ، والتفكير بعطاءات الدم، والتفكير بالشهادة، وقبل ذلك افتتح كلامه"خُطَّ الموت على ولد آدم"، ليقول لهم أن الطريق الذي اخترتموه هو طريق الموت وطريق الشهادة وطريق التضحية، فاعلموا أني لا أُمنيكم بشيء في الدنيا، وإنما أعطيكم خطاً يوصلكم إلى الإيمان فتكونون مع الله.
وفي تعبير آخر عن الهدف الذي يمكن أن يصلوا إليه، عندما اجتمع في كربلاء مع جماعة الحر، قال:"أيها الناس، فإنكم إن تتقوا الله وتعرفوا الحق لأهله يكن أرضى لله جلَّ وعلا"، فالاعتبار منصرفٌ إلى رضا الله جلَّ وعلا، والطريق هو التقوى، والهدف الذي يكون مباشراً في الأداء، هو أن تعرفوا أهل الحق وأن تكونوا معهم، وهم الذين جسَّدهم الإمام الحسين(ع) ومعه أهل البيت(ع) والأصحاب(رض).
إذاً من أراد أن يسلك هذا الطريق عليه أن يسلكه بروحية الإيمان لا بروحية المكتسبات المحتملة، ولذا قال لأصحابه في ليلة عاشوراء، وقد روى هذا القول الإمام زين العابدين(ع) بأنه سمعه من أبيه الحسين(ع) قال:"أُثني على الله أحسن الثناء، واحمده على السراء والضراء، اللهم إني أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوة، وعلَّمتنا القرآن، وفقهتنا في الدين"، لم يكن في كلامه أي معنى من المعاني الدنيوية الأرضية، ولم يكن في شكره لله تعالى إلاَّ التركيز على التوفيق بالنبوة والقرآن والفقه في الدين، ما يؤكد على الطريقة التي اعتمدها إمامنا الحسين(ع) في تثبيت الدين في نفوس الناس، لأنه هو الأصل وهو الذين يُحصِّن، وهو الذي يختصر الطريق، وهو الذي يكشف طبيعة أولئك بحسب التزامهم وقناعاتهم.
وقال في خطبته الثانية في كربلاء عندما تحدث عن الموقف الذي اختاره في القتال:"ألا وإنَّ الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين، بين السلَّة والذلَّة، وهيهات منّا الذلة، يأبى الله ذلك لنا ورسوله والمؤمنون"، فنحن لا نرضى في أن نكون أذلة في طاعة الله، وإنما يجب أن نكون مرفوعي الرأس في هذه الطاعة، ولنا المعنويات العالية التي تركز على الثبات في الميدان مهما كان الثمن، وعنوان التضحية بالنفس من أجل رفض كل المغريات والمكتسبات التي يُعبَّر عنها بالدنيا الفانية كعنوان أساس في حركة الإمام الحسين(ع).
من هذه الكلمات التي بلغت خمس كلمات مختارة من الإمام الحسين(ع) في مواقف مختلفة، مع أصحابه، مع أعدائه، في خطابه لربه، وإذ به يركز على هدفية الارتباط بالإسلام وبدين الله تعالى، كإيمان أساسي محرك في الحياة لا يمكن أن يُستبدل بأي عنوان آخر، وإذا راقبنا خطاب الله تعالى لنا في مجالات كثيرة، كقوله تعالى:" قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ"، "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا "، " ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ"، نلاحظ أن الإيمان هو الصفة الأساسية التي أطلقها رب العباد على المؤمنين وركَّز عليها واعتبرها المدخل، ومن يراقب حركة النبي(ص) في مكة المكرمة، يجد أنها حركة إيمان"قولوا لا إله إلاَّ الله تفلحوا"، فقد ركَّز عليهم بأن يلتزموا بطاعة الله تعالى من دون أن يبتغوا المكتسبات الأرضية، كي يكون نظرهم إلى الله، وإلى الطاعة، وإلى تطبيق الشريعة، إلى القيام بالتكليف من دون النظر إلى الآثار الإيجابية التي تترتب على هذا الإيمان في الأرض، وإن كان لهذا الإيمان آثارٌ إيجابية واضحة في حياة الناس، من قدرتهم على تعميم العدل، وتوفيقهم لمكتسبات دنيوية، ونصرهم من قبل الله تعالى، لكن الدعوة الأساس هي دعوة الإيمان وليست دعوة المكتسبات المباشرة للإنسان على الأرض، كي لا يتعلق الإنسان بالمكتسبات، ويبقى تعلقه بالإيمان، فإذا حصلت المكتسبات ببركة الإيمان كانت خيراً إضافياً، وإذا لم تحصل المكتسبات التي يتمناها بسبب هذا الإيمان لم يكن قد خسر شيئاً وكان اختياره في محله، وكان صبره في محله أيضاً، وعليه هذا التركيز الإيماني هو أساسٌ في طريقة الدعوة إلى الله، وفي طريقة العمل في سبيل الله تعالى.
من هنا كان العنوان الذي أعلنه الإمام الحسين(ع) في وصيته لمحمد ابن الحنفية قبل أن يخرج من المدينة المنورة:" وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر"، لم يقل: أردت أن أغير الحكم، ولم يقل أردت أن أستعيد الحق، فالتركيز الأساس على الإصلاح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تطبيقاً للارتباط بالإيمان، وعملاً من أجل تصحيح مسار الأمة، لأن الأمة التي تُفسر دينها خطأً ، وترتبط بأشكال معينة من الانحراف، يمكن أن تنهار وأن تعيش آلاماً ومرارات فترات طويلة من الزمن يصعُب بعد ذلك إصلاحها، من هنا الربط بالإيمان هو أمرٌ أساس في عملية التحصين.
ثانياً: النتائج التي نحصل عليها، بالانتصار أو التوفيق أو كثرة العدد أو أي نتيجة من النتائج الإيجابية، مرتبطة بشكل مباشر بظروف التربية والتعليم التي نعيشها في حياتنا، والتي نتأثر بها، وهذا ما حصل مع رسول الله(ص). جماعة بدر كانوا ثلَّة طاهرة طيبة قوية مؤمنة مجاهدة، فقال تعالى عنها:" كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ" فالأساس هو الإيمان الذي كانت تتميز به، ولكن بعد فتح مكة دخل الناس في دين الله أفواجا" إِذَا جَاء نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ* وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجاً" فضعُفت التربية، وضعف التعليم، وضعف الأداء الإيماني، فنمى النفاق في المدينة المنورة في زمن حياة رسول الله(ص)، ودفعت الأمة ثمناً باهظاً بسبب انتشار هذا النفاق الذي لم يكن بالإمكان منعه وإنهاؤه، إنما كان المطلوب من الأمة أن تلتفت وأن يعرف كلٌ تكليفه الذي يحاسب على أساسه في يوم القيامة. فعلى عهد رسول الله(ص) انتشر النفاق، وكان البعض من المعروفين بذلك، لأن مستوى العيش في الإيمان لم يكن بالمستوى المطلوب، ولأن المفاهيم الإسلامية أصبحت مسطَّحة غير فعَّالة، وغير ناضجة في عقول وقلوب هؤلاء، ولأنهم اهتموا بالدنيا وتعلقوا بها، قال إمامنا الحسين(ع):"الناس عبيد الدنيا، والدين لعق على ألسنتهم، يحوطونه ما درت معايشهم، فإذا محصوا بالبلاء قلَّ الدَّيانون"، هؤلاء ارتبطوا بالدنيا وتعلقوا بها، لذا من الطبيعي أن لا تكون النتائج نتائج مشابهة لما جرى في بدر، وأن لا تكون القدرة للمسلمين قدرة مميزة معنوياً لأنهم خسروا كثيراً من التحصين الإيماني الذي كان يجب أن يتميزوا به وأن يتمتعوا به، من هنا أتى خلفاء فسَّروا الإسلام على مزاجهم، غيَّروا بمعاني التعاليم، استندوا إلى آيات قرآنية وأعطوها أبعاداً مخالفة تماماً للمعنى الحقيقي، فسَّروا مثلاً الآية القرآنية" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ" بأن الطاعة هنا لأولي الأمر، وأولي الأمر هم الحكام سواء أكانوا بررة أو فجرة، لأن الحاكم يجب أن يُطاع كيفما كان طالما أنه يحكم باسم الإسلام، ففساده أو فسقه أو انحرافه على نفسه، أمَّا الأمة فمسؤوليتها ان تطيع حاكمها، هم يركزون على هذا المعنى ويعتبرون أي نقض أو اعتراض أو أي ملاحظة على الحاكم حتى ولو كان فاسداً وواضحاً في فساده هو أمر فيه مشكلة، تفسيراً للآية الكريمة بطريقة خاطئة. إذاً هذا تعليم خاطئ وتربية خاطئة، أدَّت إلى موقف مختلف تماماً عن الموقف الذي أراده الإسلام.
لذا النتائج مرتبطة بشكل مباشر بظروف التعليم التي يخضع لها الناس، وبظروف التربية التي يتعرضون لها، لا تستهينوا بأي أمر يمر على المستوى التوجيهي والتربوي والتعليمي في حياة الإنسان منذ صغره، فكل هذه المراحل تؤثر في إيجاد بنية ثقافية وروحية ومعنوية تنعكس تصرفات مباشرة في الحياة، وتؤدي إمَّا إلى استقامة عظيمة تؤتي ثمارها من خلال حمل لواء الإسلام الحق، وإمَّا من خلال ثمار سيئة جداً حتى ولو كانت باسم الإسلام، لكنها منحرفة عن الخط الصحيح الذي أوجده الله تعالى. هذه النتائج لاحظناها من خلال تجربتنا في لبنان مثلاً، عندما تربى الشباب والشابات، وعندما تربى الناس على الشهادة وعلى حب الإمام الحسين(ع)، على التطلع إلى الإيمان، وعلى عدم الاهتمام بالنتائج التي يمكن أن تحصل، وكان المخالفون دائماً يسألوننا:ماذا ستستفيدون؟ هل يمكن أن تخالفوا القرارات الدولية؟ هل تستطيعون ان تغلبوا تصميماً إسرائيلياً وأمريكياً وأوروبياً ودولياً ضدكم؟ هذا عمل من دون نتيجة؟ كان الجواب دائماً أننا نقوم بتكليفنا الشرعي، بإيماننا بالله تعالى، بتعبيرنا عن رفض الظلم، وسنقاتل ما دام فينا قطرة دم واحدة، من دون أن نفكر باستثمار هذا القتال على مستوى الأرض، إنما نفكر أن نستثمر هذا القتال بتحقيق رضا الله تعالى، والله هو الذي يمنحُ في الأرض أو يمنح في السماء، فهذا أمرٌ يعود إليه. هذا أمر ينعكس بشكل مباشر على كل الأداء والعقلية، وبالتالي نحن بحاجة لإجراء هذه العملية من التحصين.
ثالثاً: يقول البعض بأننا يجب أن نواكب الآخرين، ويجب أن نقلدهم في مناهجهم وأساليبهم وفي طرقهم، وفي كيفية تقديم الإغراءات المادية، وفي رأيي هذا خطأ كبير. مجاراتهم خطأ، أمَّا الاستفادة من اساليبهم مع ما نؤمن به وما يوصلنا إلى أهدافنا فهذا أمرٌ جيد، لكن ان نسير بالتقليد تماماً كما هم، أن نعمل من أجل أن نحقق أبعاداً دنيوية كهدف نضعه أمامه ونقول لمن نربيه: إنَّ الإسلام يحقق لك هذه الأبعاد المادية، وستصل إليها وستحصل عليها، وإن لم تحصل عليها فالمشكلة ليست من الإسلام! قد لا يستوعب هذه الأمور في كثير من الحالات، ويعتبر أنك فشلت في عملية المواجهة، لأنك ركَّزت على بنائه المادي ولم تركز على بنائه المعنوي والروحي بشكل أساس.
نحن بحاجة للاهتمام بمناهج وأساليب تأخذ بعين الاعتبار تقديم الإيمان على كل شيء، ثم بعد ذلك يمكننا الاستفادة من المقومات الأخرى لكن من منطلق الإيمان، لأن الهجمة الاستكبارية القائمة اليوم علينا، هي هجمة تريد أن تغيِّر في عقولنا وطريقة تفكيرنا، وهذا لا يبدأ بأمر عام، إنما يبدأ بتفاصيل صغيرة تجتمع مع بعضها البعض، ثم نُفاجأ بأننا نفكر بطريقة مختلفة تماماً عمَّا نريد. هم لا يدخلون إلينا بعنوان أنهم يريدون التغيير لقناعاتنا ولإيماننا ولأفكارنا، وإن قالوها في بعض الأحيان، لكن يدخلوا إلينا بالأساليب المختلفة: ألا تريدون أن تعيشوا؟ ألا تريدون الإمكانات المادية؟ ألا تريدون الاستفادة من قدرة الغرب؟ ألا تريدون التعليم وفق الأصول الحديثة؟ الخ..عناوين كثيرة ومن كل عنوان يمكن أن يكون هناك مداخل خفية تؤثر على طريقة التعليم والتربية وتنعكس على النتائج في حياتنا، لذا يجب أن ننتبه بأن نعرف ما نختار وما نرفض، أن نعرف ما ننتقي بما ينسجم معنا وأن لا نقبل ما يخالفنا، خاصة أن هذه الهجمة اليوم هي هجمةٌ مركزةٌ مدروسةٌ تريد أن تغير منهج تفكيرنا بكل ما للكلمة من معنى.
في سنة 2001 بعد أحداث 11 أيلول بفترة بسيطة لا تتجاوز الشهرين، ألقى باول(وزير الخارجية الأمريكية)خطاباً قال فيه:"لسنا في الحقيقة ضد الإسلام، لكننا بإزاء مسعىً حثيث لصياغة إسلام معدَّل"، فهو يريد أن يعيد النظر بطريقة الفهم الإسلامي وبالمناهج الإسلامية، وبالمضمون الإسلامي، لأنه وجد أن فكرة رفض الإسلام ستقابل بردة فعل عنيفة، وبعصبية لا يمكن الوقوف بوجهها، فسيتحول المسلمون إلى جماعة متعصبين يدافعون عن الإسلام مهما كان فيه من إشكالات بحسب التصور الأمريكي، لكنْ إذا كان النقاش في التفكير والتعديل والحذف والإلغاء والإضافة بما ينسجم مع تغيير العقلية والتأثير في الذهنية فهذا أمر يُسهِّل الدخول إلى العقول وإلى القلوب. أمَّا بوش فكان أكثر صراحة من باول عندما قال:"نريد تغيير الأيديولوجيات في منطقة الشرق الأوسط"، وتركها عامة.إنَّ تغيير الأيديولوجيات يعني قلب المفاهيم رأساً على عقب، وتغيير طريقة التفكير، وما لفتني ولعلَّكم قرأتم ذلك أن أول خطوة تربوية وثقافية في العراق هي إرسال مجموعات متخصصة من قبل مؤسسة أمريكية معنية بشؤون الديمقراطية لتعليم فنون الديمقراطية للعراقيين، فبذريعة تعليم الديمقراطية يدخلون إلى الفكر والعقل والقلب ليُحدثوا الغزو المطلوب، لأنهم أدركوا أنه ما لم يكن البناء في العقل والروح لا يمكن إحداث التغيير المطلوب.
لقد جرَّب الأمريكيون أن يقولوا بأن أمريكا تحمل فكراً مشرقاً ديمقراطياً حراً، وعرضوا أفكارهم على الناس، وبدأ بعض المثقفين يحملون هذه الأفكار ويدعوننا إليها، لكن تبيَّن أن العالم الإسلامي لم ينسجم معها، وهناك قسم قليل من العالم الإسلامي حمل الأفكار الغربية الأمريكية، لكن القسم الأكبر من الناس والمثقفين والمتعلمين لم يتفاعلوا مع الطروحات الثقافية الأمريكية. ولجأوا إلى جانب ذلك إلى السيطرة على الحكام، على قاعدة أن الإدارة السياسية تُساعد في جدولة وبرمجة خطوات موضوعية لربط الناس بالاستكبار، فوجدوا أيضاً أن هذا الأداء لم يؤتِ ثماره، فضجَّ الأمريكيون، ووجدوا أن القصة طويلة جداً، ويصعب أن ينحاز أو أن ينحرف المسلمون عن إسلامهم، لأن مستوى التأثير والعاطفة والتربية وما فعله نبينا وأئمتنا وعلماؤنا والمجاهدون والشهداء عبر التاريخ ليوصلوا لنا هذا الدين، كان عظيماً وكبيراً وراسخاً ومؤثراً إلى درجة لا يمكن بهذه الأساليب أن يتغير أو أن يتبدل. فقرروا غزو العراق عسكرياً من أجل أن يقلبوا المفاهيم من الداخل، وهم يقولون أنها تجربة للتعميم، وفي رأيي أنها ليست تجربة استعمارية اقتصادية، ولا تجربة استعمارية سياسية، هي تجربة استعمارية ثقافية بأدوات عسكرية من أجل التدخل في المناهج والبرامج وأساليب التعليم، كي يؤثروا في العقلية التي تربى عليها الناس، عندها إذا اخترقوا العقل والقلب أمكنهم أن يمتلكوا الناس، لأنهم يتحولون إلى أنبياء بالنسبة لهم، وسيتحولون إلى موجهين ومربين بالنسبة لهم، وعندما يكون التلامذة مع أستاذهم لا بدَّ أن يسمعوا له ولا بدَّ أن يقتدوا به.
رابعاً: فالخطر كل الخطر من خلال هذه المداخل، لذا نصل إلى النقطة الرابعة والأساسية، اعتبر أن التحصين الأساس إنما يحصل في إدارة الجماعة ولا يحصل في تربية الفرد فقط، وقد يُفاجأ البعض، لأن تربية الفرد عملية مضنية شاقة وطويلة المدى وتعزله عن محيطه، أمَّا تربية الجماعة ليكون الفرد جزءاً منها، حيث يأخذ في الأثناء ويتربى في الأثناء وتتم رعايته في الأثناء، عندها نستطيع أن نربح قدرة تربية الفرد الذي يكون جزءًا من الجماعة، لذا علينا أن نعزز كل ما من شأنه أن يُوجِد المناخات الإيمانية الجماعية، فهذه أقدر على التوجيه والتربية من المناخات الفردية الضيقة، ومنها إحياء عاشوراء، وما تصنعه عاشوراء في أجوائها العامة في الرجال والنساء والأطفال والشيوخ لا يمكن أن تصنعه دورات ثقافية أو دورات إيمانية فردية أو عناية شخص بشخص آخر لفترة مائة سنة، ما يحصل في عاشوراء لمدة عشرة أيام يعادل أحياناً كل هذه الحركة التي يمكن أن نلجأ إليها بشكل فردي. أنا لا أقول ان لا نعمل بطريقة فردية، لكن من الخطأ أن نوجه أنظارنا إلى المسألة الفردية ونركِّز عليها كحل وحيد، فالمسألة الفردية من ضمن الجماعة. مثال آخر، حركة المقاومة في لبنان وما أنتجته من روحية عالية ومن استعداد للشهادة، حتى أننا اليوم نجد الأطفال يتبارون ويتنافسون من أجل ان يصبحوا شباباً بأسرع وقت، وفي أعمار صغيرة كيف يكونون استشهاديين، كتطلع عميق إلى حالة من العزة والمعنوية والارتباط بالله تعالى، لا يمكن أن تتيسر لو أعطيناهم دروساً مركزة لفترة طويلة من الزمن، وكذا ما تثيره الأخوات في كثير من الحالات عند الطلب بأن يكنَّ شهيدات في عطاءات الإمام الحسين(ع) على دربه وخطاه، على الرغم من المألوف والمسموع باهتمام النساء بمظهرهن او بخصوصياتهن، لكنهن تجاوزن هذه المعاني في إطار المناخ التربوي العام الذي أوجدته المقاومة في نفوس الشباب وفي نفوس الشابات.
فالتركز على البناء العام وعلى المناخات المؤثرة" ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ"، وهذا أمر يؤثر بشكل مباشر على الأولاد. فتشوا عن المدرسة التي تهيئ مناخاً عاماً، فتشوا عن شعائر شهر رمضان المبارك، في أجواء المساجد والبيوت وما تحدثه من مناخات تربوية جاذبة إلى الطاعة، فتشوا عن كل عمل جماعي بالاحتفال أو المسابقة او اللقاء أو أي جوٍ من الأجواء التي تساعد في ان تهيئ مناخاً عاماً يجذب هؤلاء الناس إليه، وبالتالي هذا يساعد لإيجاد قدر كبير من التماسك والتحصين في مواجهة الاخطار التربوية والثقافية التي يلجأ لها الاستعمار.
واعلموا أن الأمر يرتبط أيضاً بالمفردات التفصيلية، يجب ان ننتبه إلى كل شيء، ويجب أن نحرص على هذه المعاني وهذه العناوين، فعندما يستخدمون في الكتب مثلاً(كتب الجغرافيا أو غيرها) أوجدت الطبيعة هذا المناخ الرائع، حتى لا يقولوا بأن الله تعالى هو الذي أوجد هذا المناخ الرائع، فيفكر الشخص للوهلة الأولى بأن هذه كلمة أدبية، لا هذه قلة أدب، لا يُذكر الأمر منسوباً إلى الله تعالى حتى يألف الإنسان: أوجدت الطبيعة، خلقت الطبيعة، جمَّلت الطبيعة، وبعد فترة من الزمن ينسى بأن الله تعالى له علاقة بهذا الأمر، والحقيقة خلق الله، أعطى الله، وفَّق الله، لذلك تلاحظون توجيهات الإسلام لنا، كل شيء نربطه بالله تعالى، الحمد لله، الشكر لله، سبحان الله، استغفر الله، في كل حركة وفي كل أمر، لماذا؟ حتى يترسخ هذا المعنى ويصبح جزءًا لا يتجزأ من مسارك الفكري والعاطفي واليومي، وهذا له تأثير على العملية التربية.
لا تقل بأنك قادر وحدك أن تأخذ هذا الولد وتؤدبه وتربيه وتوصله إلى ما تريد، لا أحد يتمكن ذلك، يجب أن تفكر له بأجواء عامة كمثل المدرسة ، عاشوراء ، والنوادي، وفي كل المواقع التي تشكل مناخات مساعدة، ثمَّ يأتي التشذيب والتهذيب والإدارة من قبلك لتتابع النقص أو لتوجه المسيرة بما يرضى عنها الله تعالى.
إذا تحصَّن أولادنا بهذه الكيفية وارتبطوا مع الجماعة، وحملوا الإسلام من موقع الإيمان، ولم يلتفتوا إلى تفاصيل المكتسبات، لا يمكن للاستكبار أن يدخل إلى عقول وقلوب هؤلاء لأنهم يشكلون سداً منيعاً، وإذا لاحظتم أننا بحاجة إلى أن نمنع أولادنا كثيراً، وأن نأمرهم كثيراً، فاعلموا أننا في دائرة الخطر. كلَّما امتنع الولد بسبب الأوامر، وكلَّما أقبل الولد بسبب الأوامر أو النواهي، ولم يكن عنده مبادرة ذاتية، فهذا يعني أنه في الموقع الخطر، كيف نوصله ليبادر ويتصرف ونراقب أن تصرفاته تسير بشكل طبيعي؟ هذا يحتاج إلى مناخات عامة تركز على الإيمان وتؤكد على التربية والتعليم، وننتبِّه إلى النتائج ونقتدي بسيرة محمد وآل محمد(ص). جعلنا الله وإياكم ممن يهيئون أنفسهم تهيئة أكيدة وقوية لنكون من جند الإمام المهدي(عج)، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
*الكلمة التي ألقاها نائب الأمين العام لحزب الله سماحة الشيخ نعيم قاسم في الليلة التاسعة من محرم الحرام لسنة 1425هـ الموافق في 28/2/2004 في ثانوية البتول-قاعة الجنان.