مقالات

كيف نتربى بالقرآن الكريم؟/ الجزء الثاني

أساليب التربية في القرآن الكريم:

5- أساليب التربية في القرآن الكريم:‏

تعددت الأساليب التي اعتمدها القرآن الكريم للتربية، وهذا منسجم مع التنوع البشري والقابليات المختلفة، والحالات التي يمر بها الإنسان نفسه حيث يكون مهيأً للتفاعل مع أسلوب في زمان معين وحالة معينة أكثر من أسلوب آخر، وكذا يحصل التكامل بين الأساليب المختلفة التي تؤثر على جوانب مختلفة للشخصية الإنسانية. وسنعرض لأبرز الأساليب المعتمدة التي سنأخذ منها الجانب التربوي من طريقة العرض، وإن كانت الآيات المستفادة لها فعاليات أخرى وأهداف أخرى . هذه الأساليب نحتاجها في حياتنا اليومية.‏

القدوة :‏

إن تقديم النموذج العملي أمام الناس له التأثير الكبير في صقل الشخصية، ولعل القدوة من أهم الأساليب المؤثرة ، فالأم تؤثر بسلوكها ، والمعلم يؤثر بأدائه ، والقائد يؤثر بمواصفات شخصية، والنبي يؤثر بقوله وتقريره وفعله على قاعدة التمثل بما يقوم به وعظمة ما يطرحه والعصمة التي تظلل أداءه.‏

لقد وجهنا القرآن إلى هذه القدوة المحققة لقبول الله تعالى وثوابه:{ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً}(1)، ونظراً لأهمية القدوة أرسل الله الأنبياء بأعداد كبيرة مبشرين ومنذرين ، ليبلغوا رسالة الله تعالى وليقدموا نموذجاً تطبيقياً واقعياً يحول مفردات الخطاب الإلهي إلى أداء عملي. ولو لم تكن القدوة مؤثرة إلى هذا الحد لكفى إرسال الكتاب وتوجيه الناس إليه ليقرأوه ويتدارسوه ويستفيدوا منه، لكن القدوة هي التي تختصر المراحل وتساهم بشكل كبير في العملية التربوية قيادة وتوجيهاً . فالقرآن الكريم هو الكتاب الصامت ، والنبي محمد(ص) هو القرآن الناطق العملي ، وعندما نسمع إحدى زوجات النبي (ص) تصفه بقولها :" كان خلقه القرآن"، فإننا ندرك تماماً أهمية تجسيد تعاليم السماء حركة في حياة قدوة تسهل نقل مضمونها وآثارها إلى الآخرين.‏

إن تاريخ المسلمين مع النبي(ص) يبين مدى التأثر بشخصيته، إلى درجة أصابت الكافرين بالرعب من إقبال المؤمنين على تناول قطرات الماء المتساقطة أثناء وضوء رسول الله للتبرك بها ، والتي تجسد مستوى التعلق الذي صاحبه تضحية وعطاء ونماذج إسلامية رائعة. هذه الشخصية قد أثرت بصفاتها وسلوكها ، ولولا هذه الصفات لما امتلكت قلوب المؤمنين ، يقول تعالى :{فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين}(2).فالتأثير لم يكن لمجرد الموقع والدور، بل للشخصية التي جسدت تعاليم السماء. ومع أنه خاتم الأنبياء فأداؤه في اللين مع أصحابه ودماثة الخلق والعفو عنهم والتشاور معهم وغيرها من الصفات أدت إلى هذا الالتفاف الذي أسس للأمة الإسلامية المترامية الأطراف. وقد أكد رسول الله (ص) على أهمية الترابط بين الكتاب والقدوة بقوله:"إني قد تركت فيكم أمرين لن تضلوا بعدي أبدا ما إن تمسكتم بهما: كتاب الله وعترتي أهل بيتي فإن اللطيف الخبير قد عهد إليَّ أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض"(3).‏

هذه القدوة تبرز في النماذج النبوية الشريفة ، وفي مواقف مختلفة ، فالنبي موسى(ع) وهو من أولي العزم ، يلتزم الأمر الإلهي بالبحث عن العبد الصالح الخضر(ع) ليتعلم منه دون أن يستنكف، ويعرض القرآن لقصته مبرزاً أخلاقيته وتواضعه واستعداده للتحمل من أجل تحقيق الأمر الإلهي:{فوجدا عبداً من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علماً* قال له موسى هل اتبعك على أن تعلمني مما عُلمت رشدا*قال لن تستطيع معي صبرا*وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا *قال ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمراً}(4)، فإذا كان النبي يتصرف بهذه الطريقة ليزداد علماً ، وهو صاحب المكانة العظيمة ، فما الذي يسيغ لنا أن نقصَّر في التعلم لاعتبارات اجتماعية أو اعتداد بالنفس أو رغبة في قطع المراحل بسرعة دون الصبر عليها؟!‏

أما النبي يوسف(ع) فقد وقف موقفاً حرجاً شكل ضغطاً كبيراً عليه، وهو الثابت في علاقته مع الله تعالى، وقد كان ابتلاؤه بجماله وإقبال إمرأة عزيز مصر عليه التي أصرَّت على دفعه باتجاه الحرام وهي في موقع السلطة ، وما أشد الاختبار الجنسي والصمود أمامه، فصمم على الرفض، سائلاً ربه أن يعينه في مواجهة هذا الإبتلاء، راضياً بالسجن كبديل مهما كان شاقاً ومؤلماً ، فهو أحب إليه في طاعة الله تعالى {قال رب السجن أحب إليَّ مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين*فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم}(5). إنها تجربة برسم كل الشباب ، فالمرأة هي التي سعت إلى يوسف(ع)، لكنه تحصن بتقواه ، وعلى الرغم من مرارة السجن فإن حلاوة الطاعة تعوضها، وهذه طبيعة الاختبار الذي يتنوع ويتعدد ليعلم الله الصادقين ويعلم الكاذبين.‏

لقد اختلف ابنا آدم (ع) قابيل وهابيل فيما يقدمانه لله تعالى ، فاختار قابيل فضلات ما عنده، والبقايا التي لا يحتاجها ولا تساوي شيئاً، مقدماً إياها قرباناً إلى الله تعالى فلم يتقبل منه، واختار هابيل أفضل ما عنده وما يحتاجه وله قيمة مقدماً إياه قرباناً إلى الله تعالى فتقبل منه، وبلغ الحسد ذروته عند قابيل بسبب موقعية هابيل المؤمن وقرر قتله . هذان سلوكان مختلفان الأول يحمل الحقد والحسد والشر والحرص على الدنيا، والثاني يحمل الخير والتسامح والصبر والتضحية في سبيل الله تعالى{واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يُتَقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين*لئن بسطت إليَّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط إليك يدي لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين}(6)، انظر إلى مستوى رعاية الأخوة من هابيل، وإلى مستوى الإلتزام بالضابطة الشرعية{إني أخاف الله رب العالمين}.إنه سلوك تطبيقي لتجربة حصلت ونقلها القرآن إلينا للإقتداء ، مقارناً إياها مع ضدها لتكون الصورة واضحة. وهذا التنوع الواسع في إعطاء نماذج متعددة يساعد في رسم الصورة المطلوبة، ويعطينا التطبيقات في مواقع مختلفة، ولشخصيات متفاوتة ، وفي أزمان متعددة، وعلى أساس اختبارات متنوعة، وهي كلها ماثلة أمامنا كتجربة حصلت وسلوك تمت تأديته، ولم يبق في إطار التوجيه العام أو النصيحة.‏

لقد شعرنا بأهمية القدوة من خلال شخصية الإمام الخميني(قده) مجدد النهضة الإسلامية في القرن العشرين الميلادي، فحياته مؤثرة وتاريخه مدرسة حقيقية، وتصديه للظلم والانحراف يبرز الرسالة الإسلامية ، وهجرته في سبيل الله لإعلاء كلمة الإسلام، وقيادته للثورة الإسلامية بتواضع وأخلاقية وروحيه عالية.إن التعلق الشعبي الواسع بهذه القدوة هو النتيجة الأكيدة لما تميزت به شخصيته ورآها الناس تجربة حيه يعاصرونها.‏

الموعظة :‏

الموعظة من وعظ، وهو النصح والتذكير بالعواقب كما ورد في لسان العرب، وهو تذكيرك للإنسان بما يلين قلبه من ثواب وعقاب . ولها أهمية كبرى في حياة الناس ، لأنها الأكثر استعمالاً والأسهل في العمل التوجيهي والإرشادي، وإن كانت أهميتها ترتبط بموجهها قبل مضمونها ، للتلازم الموجود في ذهن المتلقي بين الموعظة والمؤهل لإعطائها. وربما استخف البعض بأهميتها على أساس أنها كلمات قد تتكرر كثيراً في حياة الناس وفي مواقع مختلفة، لكن هذه النظرة خاطئة ، فقد يكون لها بالغ الأثر في بعض الحالات ، وهي ضرورية كجزء لا يتجزأ من التوجيه.‏

وقد أكد القرآن الكريم على أسلوب الموعظة فقال :{ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين}(7)، فلا يصح أن تنتظر آثار الموعظة حتى تقوم بها ، بل عليك أن تطرحها كأسلوب من أساليب الدعوة إلى الله تعالى وهي نافعه ومفيدة، إذ تفتح أبواب هداية المؤمنين{ يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين}(8)، ومهمتها الأساسية هو التذكير بالموقف الشرعي حتى لا يقع الإنسان في لحظة ضغط وضعف، وهي تساهم في إنقاذه متوكلاً على الله تعالى، لأن الغيب المستور قد يحمل النتائج الجيدة وتنفتح السبل المغلقة بعون الله تعالى وتقواه. يقول تعالى في حديثه عن الموقف الحاسم عند انتهاء عدة المطلقة بين الإمساك أو المفارقة{فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ومن يتق الله يجعل له مخرجاً}(9).‏

إن الموعظة تؤثر أثرها في المؤمن بشكل خاص ، لأنه يستحضر الالتزام الشرعي في أموره ، وقد تغيب عنه بعض التفاصيل ، أو يدفعه هواه بالاتجاه الخاطئ، فيكون دورها دور المنبه للضمير المذكر بالمسؤولية الشرعية والرقابة الإلهية .{وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين}(10). وقد لاحظت استنكاراً من البعض لتكرار المواعظ في المساجد في الدروس أو أيام الجمعات، وهذا قد يصح عندما لا يتقن الخطيب مخاطبة جمهور المصلين، أو يكرر بطريقة تدل على ضعف إطلاعه واضطراره للحديث بنفس الموضوعات القليلة التي يعرفها. لكن إذا كان المقصود رفض الموعظة وتكرارها فهذا خطأ فادح، لأنه أسلوب قرآني ناجح، وليس المطلوب أن نسمع دائماً درساً عقائدياً أو فكرياً أو في التكاليف العملية، إنما المطلوب أن نتذكر دائماً وأن نعيش أجواء الوعظ والإرشاد، ورب موعظة أثرت في مؤمن في لحظة حساسة من حياته بسبب ما يعيشه، وهي نفسها لم تكن مؤثرة فيه وقد سمعها مراراً، فتقلبات الإنسان في حياته تساعد على تأثير المواعظ فيها.‏

ولا يقتصر الأمر على المؤمنين ، فرب موعظة أثرت في كافر أو منحرف وجذبته إلى الخط السليم، ورب موعظة ردعت عن عمل ظالم وفاسد لسبب أو لآخر وأنقذت جيلاً أو أبطلت بدعة، ورب موعظة تركت أثراً بسيطاً يتراكم مع غيرها من المواعظ والأساليب الأخرى لتؤثر أثرها وتحدث التغيير المنشود. ما يجب التفكير به هو بث الموعظة{فذكر إنما أنت مذكر * لست عليهم بمسيطر}(11). وعندما يكون تفكيرنا بالتذكير دون توخي النتائج الأكيدة، فإنها تفيد المؤمنين ويخسرها الأشقياء{فذكر إن نفعت الذكرى*سيذكر من يخشى* ويتجنبها الأشقى}(12).‏

علينا أن نعتاد على الوعظ، وأن نذكر الناس بالله والحساب والمسؤولية، فلا نخجل تحت عنوان معرفتنا بعدم إيمان الآخرين، ولا نتحسس خوفاً من السخرية في بعض الحالات، ولا نمتنع بسبب عدم اطمئناننا الكامل للنتيجة. إن التذكير مهم، وهو جزء من عملية التبليغ والدعوة إلى الله تعالى ، وإذا لم نتحدث أمام الكافرين والمنحرفين فضلاً عن المؤمنين ، فهل المطلوب أن نحتفظ بما وفقنا الله تعالى إليه لوحدنا!‏

القصة :‏

القرآن الكريم حافل بقصص الأنبياء وأقوامهم وتجاربهم، وهو يعرض محطات مختلفة ومتنوعة في حياة أفراد وأمم، ولا يهدف إلى سرد القصة التاريخية كحادثة وقعت ، فالأساس هو الاعتبار الذي يكون أبلغ مع تجسيد الحادثة التاريخية التي تنسجم مع العبرة المقصودة، وهذا ما يساهم في اختزان كل التجربة التاريخية بحلوها ومرِّها وعرضها بما يوفر الوقوع في تجارب مماثلة إذا كانت النتائج سلبية ، ويشجع عليها إذا كانت النتائج إيجابية.‏

فالقصة تحمل العبرة المفيدة{وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما تثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين}(13)، وهي تشكل أسلوباً مؤثراً لأنها تستهوي جميع الأذواق وجميع المستويات العمرية، فالقصة محل رغبة عند الأطفال والكبار ، ومن خلال الأحاديث اليومية المتداولة ورغبة الإنسان في التعرف على الحوادث الجارية، والسينما قائمة اليوم على القصة ، وأخبار العالم قصة حديثة تتحكم بها وسائل الإعلام العالمية وتجذب إليها أكثرية البشر. من هنا نفهم كثافة حضور القصة في القرآن الكريم.‏

إن العناوين الثلاثة التي يستهدفها القرآن الكريم هي :‏

1- العبرة والاستفادة من تجارب الأمم والشعوب والشخصيات البارزة في التاريخ.‏

2- تثبيت العديد من الأحداث التاريخية بمحطاتها الهامة والتي لها علاقة بالعبرة السليمة.‏

3- اختيار أحداث ذات نفع في تحقيق الأثر دون الغرق في عرض لا ينفع في تحقيق الأهداف المطلوبة.‏

والملاحظ أن العنوانين الثاني والثالث يصبان في هدف العبرة والاستفادة. وقد أدى ذكر بعض القصص في القرآن الكريم إلى حماية الحقيقة التاريخية وما يتولد عنها من آثار، خاصة بالنسبة للأنبياء والصالحين. فها هو القرآن يؤكد أن قصة أهل الكهف الحقيقية هي المذكورة فيه{نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى}(13)، وهي تبين كيف اختبأ المؤمنون من الظالمين فأماتهم الله تعالى ثلاثمائة وازدادوا تسعاً ، إلى أن أحياهم مجدداً بعدما تبدلت الظروف لتصحيح المسار العقائدي للقوم.‏

لولا ما ذكره القرآن عن قصة داوود النبي وما يتميز به الأنبياء من عصمة تقيهم الخطأ والذلل، لكانت الرواية التوراتية هي الرواية الوحيدة الموجودة والمسيئة إلى النبي داوود، والتي تتعاطى معه كفرد يلحق شهواته ويقتل قائد معسكره بدفعه إلى المعركة وعدم انتظار انتهاء عدة الوفاة للزوجة بل قبل الوفاة يستولي على زوجة قائده-نعوذ بالله من هذا التزوير وإسقاط قداسة الأنبياء-، وليس المقصود أن قصة داوود في القرآن هي مقابل ما ورد في التوراة (فالله أعلم)، لكن نفس الحديث عن داوود ومآثره وعن أنبياء بني إسرائيل، جعلنا أمام حقائق ثابتة ويقينية بيقينية القرآن المنزل ، في مقابل أخبار كتبت ولم تستند إلى نص إلهي، وهي ليست محفوظة كحفظ القرآن، وفي تفاصيلها نقاش كبير. إن القصة القرآنية تعطينا الصورة المنسجمة تماماً مع كل البناء العقائدي والإيماني ، وتبرز متماسكة تماماً بحيث لا يدخل إليها أي إلتباس من الذين يحاولون المناقشة فيها بالمقارنة مع ما ورد في التوراة، بل لا إمكانية للمقارنة بين كتاب محفوظ من إله قدير، وكتابات لم يخطها الأنبياء بأيديهم أو في زمانهم. يقول تعالى مخاطباً محمداً(ص):{ نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين}(14)لأن حقائقها ليست معلومة بدقة وموضوعة من أي مصدر آخر.‏

أما اختيار الأحداث فهي متفاوتة بحسب المطلوب منها، فقد تجد أحياناً ذكراً لنبي دون أية تفاصيل كما هو الحال مع النبيين إدريس وذي الكفل، حيث يقول تعالى:{واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقاً نبياً* ورفعناه مكاناً علياً}(15)،ويقول:{وإسماعيل وإدريس وذي الكفل كلُ من الصابرين}(16).‏

وقد يرد ذكر حادثة مهمة لمرة واحدة دون أن نعرف عن الشخصية التي وردت إلا هذا الموقف، كما حصل في الحديث عن العبد الصالح الخضر(ع) وذلك في سورة الكهف فقط وفي قصته مع موسى(ع) :{فوجدا عبداً من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا، وعلمناه من لدنا علماً }(17) ثم سرد باقي القصة المرتبطة بتعليم الخضر(ع) لموسى(ع).‏

وترد قصة تفصيلية متماسكة في رواية كاملة، أبرز الأحداث التاريخية بطريقة متسلسلة، نظراً لأهميتها وخصوصيتها كما في قصة النبي يوسف(ع) وفي سورة كاملة تقريباً عن يوسف (ع).‏

ويأخذ بعض الأنبياء الحيز الأكبر من القصص القرآني لغنى تجربتهم وسعتها وتنوعها، وللمهام الجسام التي قاموا بها كما مع أولي العزم وخاصة مع النبي موسى(ع).‏

وتبقى القاعدة الأساس في القصص القرآني هي عرض مواقف محددة وأحداث معينة بحسب العبرة المطلوبة منها، فقد تختصر بآية، وقد تتطلب آيات. وقد تذكر الحادثة مرة واحدة وقد تتكرر بأساليب مختلفة أو بحذف أو إضافة جزء من القصة. وهكذا لا يكون عرض القصة كقصة ، وإنما تعرض من زاوية الاعتبار لأجل الفائدة المرجوة. لذا ترى الكثير من التفاصيل قد تم تجاوزها وقطعت مراحل سنوات بسرعة، وتم الاعتماد على الحادثة والموقف والعبرة.‏

إن تكرار القصة ببعض أحداثها وفي مواقع مختلفة من السور القرآنية تخدم هدفاً تربوياً في تسليط الضوء على هذه الأحداث لعبرتها، ولا يكفي فيها أن تذكر مرة واحدة فهذا جزء من الأسلوب القرآني في التكرار لما ينفع تكراره وهو يعتبر جزءاً من التوجيه نحو الهدف.‏

وهنا نستفيد درساً هاماً من القصص القرآني ينفعنا في التأسيس لقاعدة تخلص المزاج الشعبي من الغرق في الجزيئات ، حيث يتم في أغلب الأحيان متابعة الأمور التافهة والبسيطة مما يولد تدخلاً في حياة الآخرين، وإضاعة للأوقات، ويسبب التلهي عن أمور أهم، ويعود على التعلق بأي جزئية طالما أنها جديدة ومحتملة. هذا الدرس القرآني يوجهنا لإغفال كل الجزيئات التي لا فائدة في معرفتها أو سردها ، كما يوجهنا لعدم ملاحقة الأخبار والروايات غير المحققة وفق موازين الروايات المعتمدة، فلا نبني الاستنتاجات على معطيات غير مؤكدة ، ولا نبحث عن تفاصيل تجاوزها القرآن لعدم أهميتها فنجعل منها قضية أساسية، ولا نكثر من التحليل في الموارد غير المفيدة أو المؤثرة في حياتنا اليومية وفي آخرتنا .‏

رصيد التجربة :‏

بيَّن القرآن تجربة المسلمين مع رسول الله (ص) وعرضها كما هي، مبرزاً إيجابياتها وسلبياتها، وعندما نقارن بين التوجيهات الإسلامية للناس وعظمة هذا الدين من ناحية، وسلوك بعض المسلمين ومن تواجد بينهم من المنافقين، فسنجد مفارقة شاسعة على الرغم من وجود رسول الله (ص) بينهم، في المقابل نجد النماذج المميزة من المؤمنين الرساليين الذين قدموا نموذجاً تطبيقياً للتعاليم الإسلامية ، وأثبتوا أهليتهم وقابلية الإسلام للتطبيق في الحياة.‏

ورب متسائل : لماذا عرض لنا القرآن هذه التفاصيل المؤلمة من حياة وتاريخ المسلمين؟ لكنَّ الجواب يتبين بدقة من طيات الأحداث ، فالله تعالى لا يريد أن يعرض علينا الجانب المشرق النموذجي والمثالي، إنما يريد أن يضعنا أمام الأمر الواقع بحلوه ومره، إنه يعرض علينا الطبيعة البشرية ومستويات الناس في التفاعل مع هذا الدين ، إذ أنه في كل المنهجية القرآنية سواء بالنسبة لما جرى مع المسلمين أو مع الأمم السابقة أو في التعاليم التي أمرنا بها، يبين لنا حقائق الأمور مهما كانت صعبة وشاقة لنكون على بينة من أمرنا، ولتتضح معالم الطريق من أولها إلى آخرها، ولنعيش تطبيق الإسلام بواقعية لا تصدمنا، ولنخرج الصورة المثالية من أذهاننا حتى لا نصطدم بعقبات في أي مرحلة من المراحل.‏

إن عرض التجربة بكل أبعادها ينبهنا إلى ما يمكن أن يصيب المجتمع الإسلامي والفرد المسلم في أحسن الظروف مع وجود رسول الله (ص) فكيف بغيابه؟ إنها تضعنا أمام خيارات قد نتعرض لها لننتبه إلى عدم كفاية الانتماء إلى الإسلام في الحصول على البراءة التي تجعلنا في عداد المقبولين ، ولتظهر لنا صعوبات التجربة في بدايتها مع التحديات الكبرى في بدايات الدعوة في مكة المكرمة وكيف مُحِص المسلمون، إضافة إلى صبرهم على الأذى وهجرتهم من غير أن يحملوا السلاح للدفاع عن أنفسهم ، وبعد ذلك في المدينة ومواجهتهم للمشركين والأحزاب مع التقلبات في واقع المسلمين، وما انتهت إليه الأمور من دخول الناس في دين الله أفواجاً بعد فتح مكة وما يعنيه هذا الأمر من وجود عدد كبير ممن انتسبوا إلى الإسلام ولم يعيشوه في حياتهم، وإنما تأثروا بالمسار ولم يتجذر في نفوسهم.‏

هذه التجربة الغنية تعلمنا وتنبهنا وتجعلنا واقعيين في التعاطي مع مجتمع المسلمين ، فها نحن أمام تجربتين من القتال مع الأعداء، تجربة بدر حيث الإيمان في أرقى مستوياته مع بروز التماسك بين المسلمين والحماسة في مواجهة الكافرين، والشجاعة في الله تعالى والاطمئنان إلى وعد الله تعالى بالنصر، والانضباط مع القائد الرسول(ص) ، ليتحقق النصر للضعف على القوة{ ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون}(18) هذا النصر لم يكن معزولاً عن الدعم والتسديد الإلهي {فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ولُيبلي المؤمنين بلاء حسناً إن الله سميع عليم}(19).‏

وعلى الرغم من قرب ما حصل في بدر مع موقعة حنين، لكن المسلمين أصيبوا بالغرور والاعتداد بالقوة وتعلق قسم منهم بالدنيا فأغرته وأوقعته في عدم الالتزام بأوامر القيادة، فغادروا موقعهم حيث يؤمنون الحماية لباقي الجيش من أجل اقتسام الغنائم مما سبب ضربة قاسية للمسلمين كاد أن يقتل فيها رسول الله (ص) {ولقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين* ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنوداً لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين}(20).‏

إلا أن الخلل الموجود بسبب البعض لا يغن عن نصر الله تعالى بسبب الآخرين، لكن مسار المعركة كان شاقاً ومتعباً وكاد يؤدي إلى خسارة قاسية على المسلمين أصحاب الدولة الفتية الناشئة.‏

ويعرض لنا القرآن تجربة أخرى في غزوة تبوك ، هذه الغزوة الصعبة والحساسة ، حيث قسم المسلمين إلى أربعة أقسام:‏

1- من تخلف عن الغزوة لعدم قدرته على ذلك وهم المرضى والأطفال والنساء، إذ ليس عليهم تكليف بالقتال، وهؤلاء معذورون، إضافة إلى الذين لا يملكون قدرة التجهيز للمعركة ومن الطبيعي أن يكونوا موجودين في مجتمع المسلمين{ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم* ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون}(21).‏

2- من تخلف عن الغزوة وهو وقادر على المشاركة فيها مالياً وجسدياً ، لكنه متعلق بالحياة الدنيا ، ويتهرب من القيام بتكليفه الشرعي، هؤلاء مأثومون لأنهم منافقون انكشفوا في لحظة الشدة{إنما السبيل على الذين يستأذنوك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون}(22).‏

3- من تخلف عن الغزوة وهو وقادر على المشاركة فيها مالياً وجسدياً ،ولكنها لحظة ضعف قد استسلم لها ثم استدرك بعد ذلك بالتوبة إلى الله تعالى والاستغفار على ما فرط في القيام بالمسؤولية، وهو صادق اللهجة فيما يقول{ وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم}(23).‏

4- الفئة المؤمنة المجاهدة المضحية، والتي لا تتوانى عن القيام بواجبها، بل تندفع لتعطي كل ما عندها في النفس والمال ، غير آبهة بحطام الدنيا ، إنها الفئة التي انتصرت بإيمانها وحققت المجد للمسلمين{ لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون}(24).‏

هذه الحالات الأربعة قابلة للتكرر، وهذه النماذج موجودة في المجتمع الإسلامي في كل حين، وبحسب قوة وكثرة أي فئة من الفئات تكون النتيجة، فإذا سيطرت فئة المؤمنين وكانت تمثل الأغلبية المؤثرة نجح المسلمون ، وإذا سيطرت فئة المتخلفين والمنافقين أصيب المسلمون بانتكاسة حقيقية على مستوى طرح المشروع الإسلامي وتطبيقه ، ليس في المعركة فحسب بل في تقديم نموذج التجربة في الحكم وفي العلاقات الاجتماعية وفي حياة الأفراد . إنها تجربة للاستفادة والاعتبار والواقعية في النظرة إلى الأمور.‏

دور الجماعة :‏

الجماعة أساس في تشكيل القوة، وتحقيق الأهداف، وحماية الأفراد، وتهيئة المناخات التربوية المساعدة للإيمان والالتزام. ركز القرآن كثيراً على الجماعة والوحدة بين المسلمين ، وأبرز عوامل القوة فيها، ودعانا إليها، وسلط الضوء على دور الجماعة الكافرة وأثرها في المجتمعات والضغط الذي تمارسه لحرف الناس عن الإيمان. فالإنسان لا يمكن أن يكون معزولاً، فهو أما مع جماعة المؤمنين أو مع جماعة الكافرين المنحرفين، ولكل جماعة جاذبيتها وتأثيرها وأساليبها ودورها وخططها.‏

إن السعي إلى تكوين المجتمع الإسلامي واجب، لأن الإسلام لم يكن يوماً تعاليم للحياة الفردية فقط بل هو المنظم لحياة الجماعة أيضاً { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون}(25)، هذه الجماعة تحفظ المسار وتطبق الأحكام وتحقق الأهداف، هذه الجماعة تقدم تجربة داخلية غنية بالاستقامة والعفاف والأخلاق والإيمان، هذه الجماعة تتميز بأدائها الذي يولد مناخات مهمة للتأثير والبناء والاستقطاب والصلاح{محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فصلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه...}(26)، فالتوصيف المعطى لهذه الجماعة هو ما بلَّغت به كل الرسالات السماوية، لأنها تهدف إلى تعزيز الإيمان في حياة المجتمعات مما سيقدم لنا نموذجاً طاهراً ونقياً ومستقيماً.‏

كما توجد الجماعة الكافرة المنحرفة والضالة التي تعمل من أجل الإفساد وسيادة أفكارها وسلوكياتها، وهي لن تكتفي بنفسها بل ستعمل لتعميم تجربتها، وستحشد المؤيدين لها، بل ستقاتل المؤمنين وتعترضهم وترفض منطقهم وإيمانهم. إنها جماعة معتدية ظالمة تعلقت بالحياة الدنيا وآثرتها على الآخرة، إنها تتبع أهواءها ورغباتها. وقد تصل هذه الجماعة إلى حد لا يرجى معه أي خير منها، لأنها تكون قد استنفذت كل وسائل المعصية، وجربت كل الانحرافات، وأصبحت حياتها مليئة بالفساد والفجور، إلى درجة لا يستطيع المؤمن معها أن يفعل شيئاً حتى مع الأطفال الناشئين، لأن المناخ الحاكم والمؤثر قد سيطر على كل شيء فعطل مقومات الفطرة الطيبة قبل أن تلتقط أي خير، وهذا ما حصل مع قوم نوح(ع){وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا * إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفارا}(27).‏

فالحرص على الجماعة والوحدة يهيئ الفرص المناسبة للنمو الإيماني بين الأفراد، ويشكل إحاطة نظيفة طاهرة لبناء الشخصية، هذه الوحدة مبنية على الإيمان فأهميتها في هدف اجتماعها {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا...}(28)، وهي التي تشكل الحصانة والحماية، فما تؤثر فيه الجماعة منذ الصغر يترك بصماته واضحة في الشخصية عند الكبر، وعندما يأمر الله تعالى بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يؤكد على أهمية الجماعة التي تتحرك في هذا الاتجاه:{ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون}(29). نستنج أن الفرد يحتاج إلى احتضان من الجماعة، فهي التي تؤثر بأعرافها وتقاليدها وضوابطها وثقافتها وأخلاقياتها، مما يوفر ظروفاً من التفاعل تتحكم في مساره وقناعاته والتزامه.‏

الخاتمة:‏

إن هذه الأساليب وغيرها كالتكرار لترسيخ الفكرة، والتنوع لمقاربة مختلف الأمزجة بهدف التأثير عليها، والحوار الذي يعرض نقاشات مختلفة ويعود على نمط فتح الآفاق للوصول إلى الحقيقة، فضلاً عما ورد من أهمية قراءة القرآن نفسه والثواب عليه وتأثيره على صفحة النفس.... تعتبر مدرسة في التغيير من داخل النفس الإنسانية، وتربية فعالة باتجاه الارتباط بالله والالتزام بمنهجه.‏

الشيخ نعيم قاسم‏

محاضرة أُلقيت في المعهد الإسلامي للمعارف الحكيمة‏

بتاريخ 13 و 14 رجب 1422ه الموافق 1و2 تشرين الأول 2001م‏

--------------------------------------------------------------------------------‏

الهوامش :‏

(1) الأحزاب 21.‏

(2) آل عمران 159.‏

(3) الكافي -ج2 -ص 415 .‏

(4) الكهف 65-69.‏

(5) يوسف 33-34.‏

(6) المائدة 27-28.‏

(7) النحل 125.‏

(8) يونس 57.‏

(9) الطلاق 2.‏

(10) الذاريات 55.‏

(11) الغاشية21.‏

(12) الأعلى 9-11.‏

(13) الكهف 13.‏

(14) يوسف 3.‏

(15) مريم 56-57.‏

(16) الأنبياء 85.‏

(17) الكهف .‏

(18) آل عمران 123.‏

(19) الأنفال 17.‏

(20) التوبة 25-26.‏

(21) التوبة 91-92.‏

(22) التوبة 93.‏

(23) التوبة 102.‏

(24) التوبة 88.‏

(25) المائدة 45.‏

(26) الفتح 29.‏

(27) نوح 26-27.‏

(28) آل عمران 103.‏

(29) آل عمران 104.‏