قال أمير المؤمنين علي(ع): "رأسُ الدِّين مخالفةُ الهوى"(4). الهوى هو الرغبات الموجودة عند الإنسان، منها ما هو محرَّم, ومنها ما هو محلَّل، فالإنسان يأكل ويشرب، وهي رغبة فطرية مرتبطة بحاجته اليهما، لكن الإشكال عندما يرغب طعاماً حراماً وشراباً حراماَ. أوامر الإسلام ونواهيه أنْ إمتنِع عن الطعام الحرام وكُلْ الطعام الحلال، إمتنِع عن الشراب الحرام واشرب الشراب الحلال، إمتنِع عن النظرة المحرمة والزنا فغُضَّ بصرك واختَر الزواج كما أمر الله تعالى، إمتنِع عن الكلام الفاحش الذي يؤدي إلى الإساءة وقُلْ الكلام الحسن الذي يؤلِّف القلوب. فالنهيُ عن الهوى هو النهيُ عن الرغبات المحرمة التي تخالف الدين، وهذا ما عبَّر عنه أمير المؤمنين علي(ع): "رأس الدين مخالفة الهوى".
من الواضح أنَّ الحرام جذَّاب، فهو زينةٌ ورغبات، قال تعالى: "زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ"(5), والزينة تُرغِّب وتجذُب، ولا يمكن مواجهة هذه الإغراءات إلاَّ بجهاد النفس، قال علي(ع): "بالمجاهدة صلاح النفس"(6).
عليك أن تجاهد نفسك، أي أن تبذل جهدك, فالجهاد من الجهد، وهو دفع العدو ومنعه. وعليك أن تواجه الشيطان الذي يوسوس لك: بأنَّ هذه النظرة المحرَّمة بسيطة! وأن الله غفور رحيم! وهكذا في معظم الأمور المحرمة, حيث يستسهل بعض الناس تناول الطعام الحرام، والذبح غير الشرعي، والوقوع في الرغبة المحرَّمة، فيقعون في المحذور، والحل بالمجاهدة ففيها صلاح النفس .
ويقول أمير المؤمنين(ع): "سبب صلاح النفس العزوف عن الدنيا"(7)، أي ترك الدنيا المحرمة، وقد سهَّلت شريعتنا المقدسة الأمر علينا، فحدَّدت المحرمات، وتركت المجال للحلال الواسع، فإذا امتنعنا عن الحرام، يعني أننا امتنعنا عن الدنيا المحرمة. الالتزام الديني سهل، شرط أن يضع الإنسان قدمه على أول الطريق ويبدأ. جاء رجل إلى الإمام الباقر(ع) فقال له: "إنِّي ضَعِيفُ الْعَمَلِ, قَلِيلُ الصِّيَامِ, ولَكِنِّي أَرْجُو أَنْ لا آكُلَ إِلا حَلَالاً. فَقَالَ(ع): أَيُّ الاجْتِهَادِ أَفْضَلُ مِنْ عِفَّةِ بَطْنٍ وفَرْجٍ"(8)، فليس المطلوب أن تبقى قائماً ليلك وصائماً نهارك، ولا أن تمتنع عن ملذات الدنيا المحللة، "قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ"(9)، بل المطلوب أن تمتنع عن الحرام.
دعانا الله تعالى إلى الإيمان والالتزام فقال: "فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ"(10)، أي لا تتبع المنحرفين الذين يرشدونك إلى المعاصي، وأحسِن اختيار الجماعة التي تسير معها: "وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً"(11). أحسِن اختيار القرين والزميل والصاحب، واختيار البيئة والأجواء التي تعيش فيها ومعها. فلا يمكن أن تكون قوياً في طاعة الله تعالى، وأنت تزجُّ نفسَك في أجواء الفساد. يجلس بعضهم ثلاث ساعات في مجلسٍ كلُّه فساد بفساد، ويدَّعي قدرته في المحافظة على استقامته، فعندما يقولون كلاماً فاحشاً يسد أذنيه! وعندما يرتكبون المحرمات يبتعد قليلاً عن مجلسهم! وعندما يرى المظاهر غير الشرعية يصرف وجهه! أليس من الأفضل أن يترك هذا المجلس الموبوء!؟ فمن حامَ حول الحمى أوشَكَ أن يقعَ فيه.
تتأثر النفسُ الإنسانية بما يحيط بها، بشكل مباشر وغير مباشر، كما يحصل مع من يمرُّ في شارع مليء بالنفايات تفوحُ منها رائحةٌ نتنة وكريهة، ما يؤدي إلى أن تفوح الرائحة النتنة من ثيابه. أو إذا مرَّ بالقرب من حديقةٍ فيها رياحين وورود، فتفوح من ثيابه رائحة عطرة وطيبة.
يتراكم النزر اليسير من السيئات يوماً بعد يوم، ليصبح كما قال تعالى: "كَلاَ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ"(12)، فالصدأ يتراكم على مراحل، وانسداد الشرايين لا يحصل فجأة، فكل شيء يبدأ قليلاً ومحدوداً, ثم يزداد, ثم يصبح سداً صلبا. الصلاة وحدها لا تكفي, فاذا كانت محاطةً بالفساد تفقد فعاليتها، والصوم المحاط بالمنكرات يعيق قوة الإرادة والصمود، فعلينا أن نوفِّر الأرضية الصالحة - ما أمكن- لتحقيق الأهداف, بالطاعة والابتعاد عن المعاصي.