إنَّ مواقف الأنبياء والأئمة(عم) في قيادة الأمة ومواجهة الظالمين، هي الترجمة العملية لاهتمام الدين بالشؤون السياسية، وهذا مخالفٌ تماماً لما روَّج له بعض العلماء، بأنَّ الدين معنيٌ بالعبادات والأخلاق وتمتين العلاقة الإيمانية مع الله تعالى، بعيداً عن السياسة والحكم وإدارة الدولة. ومن يراقب اهتمام الإسلام بالسياسة في صلب أداء العبادات يدرك حقيقة عدم الفصل بين الدين والسياسة، حيث لا يكتمل الدين في حياة الناس من دون سياسة.
قال الإمام الخميني(قده): "الإسلام دين السياسة، وهو الدين الذي تظهر السياسة بوضوح في أحكامه ومواقفه، إذ يجتمع المسلمون في كل يوم في مساجد البلدان الإسلامية والمدن والقرى والأرياف، وتحدث عدة اجتماعات في اليوم الواحد لأجل صلاة الجماعة، لكي يطلع المسلمون في كل بلد ومدينة على أحوالهم، وعلى أحوال المستضعفين. ويقام اجتماع كبير في كل أسبوع، ويشترك الجميع في صلاة الجمعة التي تشتمل على خطبتين، حيث يجب أن يُطرح فيهما أحداث الساعة وحاجات البلاد وحاجات المنطقة، والقضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ليطلع الناس عليها. وفي كل عام يوجد عيدان يجتمع الناس فيهما... ولصلاة العيد خطبتان، ويجب فيهما الحمد والصلاة على النبي الأكرم(ص) والأئمة(عم)، ثم طرح المواضيع السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وحاجات البلاد وحاجات المنطقة، وأن يطلع الخطباء الناس على هذه المسائل. والأهم من كل ذلك يوجد اجتماع الحج السنوي حيث يجتمع فيه _ جميع البلدان الإسلامية_ مَنْ وجب عليه الحج واستطاع، ويجب أن يطلع الناس في تلك المواقف والمشاهد، وفي عرفات خصوصاً منى، وفي مكة نفسها، وحرم الرسول الأكرم(ص)، على أوضاع الممالك وجميع الدول الإسلامية، وفي الحقيقة فإن الحج اجتماع كبير، ومجلس أعلى لدراسة أوضاع جميع البلدان الإسلامية.
إذاً, فالموضوع عبارة عن: حصول اجتماع يومي في الأحياء لدراسة أوضاع الحي والمدينة، وحصول اجتماع كبير أسبوعي في المدن والمناطق التي تتحقق فيها شروط الصلاة لدراسة أوضاع المدينة والبلاد، وحصول اجتماعين كبيرين في كل سنة لدراسة أوضاع البلدان، وحصول تجمع كبير جداً في كل سنة من جميع الممالك الإسلامية لأداء الحج، وتلك المواقف الموجودة فيه، هذا التجمع هو لدراسة أوضاع جميع البلدان الإسلامية، وهذه كلها من الشؤون السياسية والمواضيع التي يجب على المسلمين الاهتمام بها. ومع الأسف، فإنَّهم قد غفلوا عنها، إذ أن الاجتماعات تحدث، ولكن دون نتيجة، فالمسلمون يجتمعون في مكة المكرمة والمواقف الشريفة، ولكن يبدو أنهم غرباء ومنفصلين عن بعضهم البعض، وتتم التجمعات في البلدان كصلاة الجمعة وصلاة العيد، ولكن يبدو أن وحدة الكلمة مفقودة بين الناس، فالإسلام دعا الجماهير إلى هذه الاجتماعات من أجل تحقيق أهداف كبيرة" (35).
يُعطي الإمام الخميني(قده) نموذجاً تطبيقاً عن دور السياسة وأهميتها في البناء الديني والتوعية على أهدافه، بما يجب أن يحصل عند إحياء الشعائر الحسينية، التي تمثل دورة سنوية تثقيفية وتربوية وتعبوية عند إحياء العشرة من محرم، في إطار استعراض كربلاء وما جرى فيها. فيقول(قده): "إنَّ المهم في الأمر هو البعد السياسي لهذه الأدعية وهذه الشعائر، المهم هو ذلك التوجه إلى الله، وتمركز أنظار الناس إلى نقطة واحدة وهدف واحد، وهذا هو الذي يعبئ الشعب باتجاه هدفٍ وغايةٍ إسلامية، فمجلس العزاء لا يهدف للبكاء على سيد الشهداء(ع) والحصول على الأجر-وطبعاً فإن هذا حاصل وموجود- الأهم من ذلك هو البعد السياسي الذي خطَّط له أئمتنا(عم) في صدر الإسلام كي يدوم حتى النهاية، وهو الاجتماع تحت لواءٍ واحد وبهدفٍ واحد، ولا يمكن لأي شيء آخر أن يحقق ذلك بالقدر الذي يفعله عزاء سيد الشهداء(ع)"(36). عاشوراءُ هي مدرسةُ التربية لكل أبعاد الإسلام ففيها: البكاء للربط العاطفي مع الحسين(ع) وآله وأصحابه، وإبراز الأهداف الأصيلة للإصلاح في الأمة لتعرف طريقه، والتثقيف بمفاهيم الإسلام العظيمة لهذا الجمهور الواسع المحيي للذكرى، وتبيان المواقف السياسية من الحكم والحاكم ومسؤولية الرعية ووجوب التحرك لدفع الظلم، والجهاد في سبيل الله تعالى... عاشوراءُ تطبيقٌ لتعاليم الإسلام بكل مفرداته على أرض الواقع بكل متطلباته.
يُصرِّح الإمام الخميني(قده) بـ: التلازم بين القيادة والسياسة، بما لا يترك مجالاً للتأويل أو التملص من مسؤولية هذا التلازم: "إنهم يسعون للفصل بين العلماء والناس، أي الفصل بين الدين والسياسة. إنَّ الإسلام هو الدين الذي تُعتبرُ أحكامه الإلهية سياسية أيضاً، هذه الخطب في الجمعة والعيد، وهذا الاجتماع في مكة ومنى وعرفات، كلها أمور سياسية، الإسلام عبادته سياسة وسياسته عبادة"(37).
ويبيِّن في كلامٍ آخر أنَّ الأحكام السياسية أكثر من الأحكام العبادية: "ويتضمن الإسلام أحكاماً سياسية أكثر من الأحكام العبادية، والكتب التي تبحث في سياسة الإسلام أكثر من الكتب التي تبحث في عبادة الإسلام. فللإسلام حكم إزاء الكفار والمعتدين، فهل يعتبر الإسلام بعيداً عن السياسة مع وجود كل هذه الأحكام، وأحكام القتال والجهاد؟! وهل أنَّ الإسلام عبارة عن التوجه إلى المسجد فقط وقراءة القرآن وأداء الصلاة؟!"(38).
ما الذي أبعدَ المؤمنين عن الاهتمام بالسياسة؟ ومن الذي أعطى هذا الانطباع بأنَّ السياسة والعمل الجماعي المنظَّم حرام؟ ومن الذي روَّج إلى ضرورة الاهتمام بالروحانيات والابتعاد عن مسائل السلطة والتخلي عن الجهاد؟ ومن الذي دعا إلى ترك الفساد ينتشر تمهيداً للظهور بعد أن تمتلئ الأرض ظلماً وجوراً؟ إنَّهم المتظاهرون بالقداسة الذين أساؤوا للإسلام، ووجهوا الناس باتجاه المسار الخاطئ. قال الإمام الخميني(قده): "بالأمس كان المتظاهرون بالقداسة عديمو الشعور يدعون إلى الفصل بين الدين والسياسة, ويعتبرون النضال ضد الشاه حراماً. واليوم يرون بأن مسؤولي النظام الإسلامي اصبحوا ماركسيين!. فحتى الأمس القريب كانوا يعتبرون بيع الخمور ونشر الفساد والفسق والفجور وتسلط الظالمين، مفيداً ونافعاً, من أجل ظهور صاحب (عج), واليوم إذا ما حدث في مكان نائي في هذه البلاد ممارسة منافية للشرع عن غير قصد، يرفعون عقيرتهم و ينادون (وا إسلاماه) .. بالأمس كانت (الحجتية) تحرِّم النضال، وقد بذلت كل مساعيها في افشال الدعوة إلى مقاطعة الاحتفال في النصف من شعبان في ذروة النضال، دعماً للشاه. غير أنَّهم اليوم باتوا ثوريين أكثر من أصحاب الثورة"(39).
إنَّهم المتحجرون الذين أعاقوا مسيرة الإسلام، وصعَّبوا الطريق على القيادة الحكيمة، يقول سماحته(قده): "إنَّ عدة من المتظاهرين بالقداسة والرجعيين كانت تعتبر كل شيء حراماً، ولم يكن يجرؤ أحد على مواجهة أمثال هؤلاء .. إنَّ الآلام التي تجرع مرارتها والدكم العجوز، بسبب هذه الفئة المتحجرة, لم يواجه مثلها مطلقاً من ضغوط ومضايقات الآخرين. وعندما شاع شعار الفصل بين الدين والسياسة, واضحت الفقاهة في منطق غير الواعين الانغماس في الأحكام الفردية والعبادية، وبالضرورة لم يكن يحق للفقيه الخروج من هذا االسياق وهذه الدائرة والخوض في السياسة والحكومة"(40).
لقد أكد سماحته(رضوان الله تعالى عليه) في مقدمة وصيته الخالدة، على أنَّ الحكومة الإسلامية هي المهمة الأولى للإسلام وللرسول(ص)، والدور السياسي أساس للعالم الديني، في مواجهة التحديات الموجودة: "وقد رأينا كيف كان يُعامَل من تَلفَّظَ بشيء عن الحكومة الإسلامية أو تحدث عن السياسة، فكأنَّه ارتكب اكبر المعاصي، مع ان الحكومة والسياسة هي المهمة الأولى للإسلام والرسول الأعظم(ص)، والقران والسنة يفيضان بها . كما رأينا كيف أصبحت كلمة "عالم دين سياسي" مرادفة لكلمة "عالم دين بلا دين"! وما زال الأمر كذلك الآن"(40ب).