كتاب الإمام الخميني(قده) : الأصالة والتجديد

التربية والتزكية

التربية والتزكية

النفس الإنسانية محور العملية التربوية التي ترقى بها إلى سعادتها وكمالها، وعلى الإنسان أن يجاهد نفسه ليزكيِّها ويوصلها إلى الفوز، قال تعالى: "وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا"(1).

اهتمَّ الإمام الخميني(قده) بتسليط الضوء على التربية والتزكية، فهما المحور في تحديد معالم الطريق، وتحقيق الأهداف، وتقويم الانحراف، على أن تكون التربية وفق المنهج الإلهي, الذي يهتم بالمعنويات وتغذية النفس بها، بينما تُغفل المناهج المادية هذا الجانب. ولذا نرى الخلل والانحراف في الاتجاه المادي، وعدم التوازن في بناء الشخصية، أمَّا في الاتجاه الإلهي فالتوازن متحقِّق، والاستقامة تُطمئِن في كل مفاصل الحياة. هذا الاهتمام بالمعنويات هو نقطة الارتكاز والفرق الجوهري بين المنهجين الإلهي والمادي، وهو الدور الأساس لحركة الأنبياء, لتمكين الإنسان من السيطرة على نفسه وغرائزه، وتوجيههما بشكل صحيح. يقول الإمام(قده): "الأساس هو المعنويات، هذا هو الأصل، وليس من تعليم ولا تربية في الدنيا، وما من نظام في العالَم من بين كل أنظمته التي تعهدونها يهتم بمعنوية الإنسان. ويُتوهَّم أنَّ الفرق ما بين النظام الإسلامي الإنساني وسائر الأنظمة: أنَّ في الإسلام عدالة، وهذا صحيح، لكن ليس هو الفرق الوحيد, فهناك فروق منها قضية العدالة الإجتماعية، وما من نظام في هذه الدنيا ما عدا نظام الأنبياء التوحيدي يعبأ بمعنويات الإنسان، فهذه الأنظمة لا ترى المعنويات‏ تترقّى، وكلها دائبة على تنمية الماديات والاستفادة منها لإيجاد نظام مادي محض في هذا العالم. بينما جاء الأنبياء أصلًا لتزكية النفوس الإنسانية, وتعليم البشر الكتاب والحكمة وتربيته عليهما, وتمكينه من السيطرة على غرائزه‏"(2).

لا تكتفي تربية الأنبياء للناس بتوجيههم إلى الاستقامة، بل تعمل على الرقي بهم إلى درجات الكمال، فما يملكه الإنسان من مقومات فطرية يساعده على السمو والارتقاء، ما يجعله في حياة أفضل: "إنَّ مختلف أبعاد الإنسان بحاجة إلى التربية والانماء. فكما أن هناك أساليب وطرق تتناسب مع الطبيعة أو الحياة، فإنَّ هناك أساليب ايضاً تتناسب مع المراتب التي يتصف بها الإنسان، وبإمكان الإنسان أن يُدرك بعضها أو ربما اكثرها، وقد بعث الله تبارك وتعالى الانبياء والرسل لأجل إعداد وتربية البشر, وإيصالهم إلى أعلى مراتب الكمال التي لا يسع أحدٌ الاطِّلاع عليها لولا الانبياء والرسل (عم)"(3).

وإذا ما وجدنا انحرافات فكرية وأخلاقية وسلوكية بين الابناء في هذه المنطقة، فبسبب التربية المنحرفة التي حصلوا عليها من الأجانب، من أفكارهم أو بيئتهم أو مدارسهم أو جامعاتهم أو إعلامهم... وعندما نرى مَيلاً عند هذا الجيل إلى الشرق أو الغرب فبسبب التربية: "كان أبناؤنا ينشأون على نمطٍ من التربية تجعلُهم يميلون الى الغرب أو الشرق حينما يتخرجون من الجامعات, هؤلاء الشباب الذين تلاحظون أنَّهم ينشطون الآن في بلدان شتى، إمَّا لصالح الصين أو السوفييت أو أمريكا، وينشطون الآن في إيران خاصة، هؤلاء معظمهم تخرجوا من هذه الجامعات، أي أنَّهم تخرَّجوا وهم يحملون نمطاً من التربية التي توحي لهم أنَّكم لستم بشي‏ء! عملاؤهم، سواء الذين كانوا كُتَّاباً متغرِّبين، أو المشتغلين بالتربية في مدارسنا، كانوا كلهم متفقين على أنَّنا لا نستطيع فعل شي‏ء! وعلينا أن نتبع الغرب، أو نتبع الشرق‏!"(4).

إنَّ علينا العودة إلى التزكية في ظلال التربية الدينية، قبل التعليم, بل هي أهم من التعليم، فهي التي توجِّهه. ولا قيمة لعلمٍ من دون تزكية، فهو من دونها كالأسفار التي تحملها الدابة، أمَّا مع التزكية, فخيراتُ العلم تتحقَّق بأكملها, وتوجِّه إلى السبيل الحق.

قال الامام الخميني(قده): "ذَكَرَ الله تبارك وتعالى أمر التربية والتعليم في سطرٍ واحد, فلم يذكر الله أنَّه منَّ على الناس في أمرٍ من أمور الدنيا، ولكن قال ذلك في قضية التربية والتعليم: (لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ). فالله تبارك وتعالى يستخدم تعبير المِنَّة على الناس في قضايا التزكية والتعليم, والتربية والتعليم. لقد مَنَّ علينا، وبعثَ الرسول من أجل التربية والتعليم، وذَكَرَ التربية قبل التعليم، (وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ), التزكية مُقدَّمة.

ثم قال: لأنَّ العلم إذا حلَّ في مكانٍ لم يشهد تربيةً ولم يشهد تزكية, أي عندما يحلُّ العلم في مكانٍ خالٍ من التزكية, فإنَّ العالم الذي يحمل هذا العلم ويفتقر للتزكية اللازمة يصبح خطِراً، ولا يوجد فرق بين علماء الدين وعلماء الجامعات وغير ذلك. فاذا افتقرت الحوزات العلمية وكذلك الجامعات للتزكية, فإنَّ العلوم يجري تكديسها هناك, وتصبح بمثابة مخزنٍ وصفها الباري‏ء تعالى في القرآن بـ: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً). فحتى من تلقَّى علم التوحيد وعلم الاديان وعلم الاخلاق, ويحمل كل هذه العلوم, ولكن لا يعمل على تزكية نفسه, فإنَّه يتحول إلى موجودٍ خَطِر على المجتمع‏"(5).

ومهما كانت قيمة العلم وأهميتُه, فقد يصرفُ عن الهدف الأصلي وهو طلب الحق أي الايمان بالله تعالى وحبه, وقد يُصاب الانسان بالاعتداد بالنفس والغرور بما حصَّله من علومٍ وفهم, فلا حلَّ الا بالتزكية وتهذيب النفس, ما ينعكس على الاخلاص والسلوك في كل المجالات. ففي رسالة كتبها الامام الخميني(قده) الى فاطمة زوجة ابنه السيد أحمد, جواباً لطلبها بأن يكتب لها رسالة في العرفان, قال: "بنيَّتي! إنَّ الانشغال بالعلوم وحتى العرفان والتوحيد, إن كان بهدف جمع المصطلحات- وهو كذلك- وبهدف هذه العلوم نفسها, لن توصل السالك إلى هدفه بل تُبعده عن ذلك. العلمُ هو الحجابُ الأكبر. وإذا كان الهدفُ طلب الحق وحبّه وهو نادرٌ جداً، فإنَّه سيكون سراجاً للطريق ونوراً للهداية, (العلم نورٌ يقذفه الله في قلب من يشاء), وإنَّ بلوغ جزء منه يتطلب التهذيب والتطهير والتزكية, تهذيب النفس وتطهير القلب من غيره، فما بالك بالتهذيب من الأخلاق المذمومة التي يتطلب الخلاص منها جهاداً كبيراً, وكذلك تهذيب العمل مما يخالف رضاه(جلَّ وعلا), والمواظبة على الأعمال الصالحة, نظير الواجبات, التي هي في المقدمة, والنوافل قدر المستطاع، حتى لايصاب الانسان بالغرور والتكبر"(6).


اذاً, لا إمكانية للوصول إلى الهدف من دون التزكية أولاً: "إنَّما تُذكر التزكية أوّلًا, ويُذكر التعليم بعدها, لأنَّ النفوس إذا لم تُزَكَّ فإنَّها لن تتمكّن من الوصول"(7).
الفرصة متوفرة لتزكية النفس, وخاصة في مرحلة الشباب, لكنَّ الأمر يحتاج الى التصميم والعزم: "أيها العزيز, إنهض من نومك, وتنبَّه من غفلتك, واشدد حيازيم الهمَّة, واغتنم الفرصة ما دام هناك مجال, وما دام العمر في بقية, وما دامت قواك تحت تصرفك, وشبابك موجوداً, ولم تتغلَّب عليك - بعد- الاخلاق الفاسدة, ولم تتأصَّل فيك الملكات الرذيلة, فابحث عن العلاج, واعثر على الدواء, لإزالة تلك الاخلاق الفاسدة والقبيحة, وتلمَّس سبيلاً لإطفاء نائرة الشهوة"(8).

لقد كتب الإمام الخميني(قده) كتاب "الأربعون حديثاً", وفيه التوجيهات القيمة لتسلكها النفس الإنسانية نحو كمالها، وله كتب عديدة أخرى وتوجيهات قيِّمة في خطبه, يركِّز فيها على أهمية التربية والتزكية، فطريق البداية من هنا، نحو الخير أو الشر, بحسب التربية التي يتلقاها الإنسان.