اعتاد الناس على الأعمار العادية للبشر، والتي لا تتجاوز المائة عام ، إلاَّ ما شذَّ وندر، وهذا ما عليه حال الناس في القرون الأخيرة، وإنْ ورد في التاريخ أعمارٌ طويلة في زمن سيدنا آدم(ع) ، وزمن نوح(ع)، وغيرهما ممَّن عمر مئات أو آلاف السنين، كأفراد أو أقوام.
وعندما يجري الحديث عن طول عمر إمامنا المهدي محمد بن الحسن (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، الذي بلغ من العمر في الخامس عشر من شعبان من هذا العام 1172 سنة هجرية (الفرق بين عام 1427هـ الحالي وعام ولادته الشريفة 255هـ)، ينبري البعض لمناقشة هذا الاحتمال من الناحية الجسدية، وما إذا كان الإنسان قادراً على هذه الحياة الطويلة، خلافاً لما جرى عليه الواقع بشكل عام، رغم عوامل الفناء الكثيرة التي تحيط به! لكنَّهم لا يلتفتون إلى أمرين:
الأول: حصول حالات بشرية طويلة العمر، كما هي حالة النبي نوح(ع) التي حدّثنا عنها القرآن الكريم: "وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَ خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ"(1)، وهذه المدة (950 سنة) مختصَّة بفترة دعوته لقومه، وإلاَّ فمجموع عمره يصل إلى حوالي الألف وخمسمائة سنة على بعض الروايات. وحالة أصحاب الكهف الذين مكثوا 309 سنوات في الكهف، عدا عن عمرهم العادي الذي يضاف إلى هذه السنوات، قال تعالى: "وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاَثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً"(2)، وحالة سيدنا الخضر الذي ما زال حياً منذ زمن النبي موسى(ع)، كما ذكرت الروايات...
الثاني: إرادة الله تعالى في أن يفعل ما يشاء، ويخلق كما يشاء، فهو الذي خلق آدم(ع) من تراب، وعيسى(ع) من غير أب، "إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ"(3)، فالنتيجة "إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ"(4)، ولا مانع أبداً في عالم الإمكان، عندما يريد الله تعالى أمراً، أن يقول له كن فيكون، وهكذا كانت إرادته في طول عمر الإمام المهدي(عج) وبقائه حياً إلى آخر الزمان.وقد أكَّدت الروايات الكثيرة المنقولة إلينا بقاءه حياً ، وطول عمره، ومنها عن الإمام زين العابدين(ع): "في القائم منَّا سنن من الأنبياء: سنَّة من نوح(ع)، وسنَّة من إبراهيم(ع)، وسنَّة من موسى(ع)، وسنَّة من عيسى(ع)، وسنَّة من أيوب، وسنَّة من محمد(ص).
فأمَّا نوح(ع) فطول العمر، وأمَّا من إبراهيم(ع) فخفاء الولادة واعتزال النَّاس، وأمَّا من موسى(ع) فالخوف والغيبة، وأمَّا من عيسى(ع) فاختلاف النَّاس فيه، وأمَّا من أيوب(ع) فالفرج بعد البلوى، وأمَّا من محمد(ص) فالخروج بالسيف"(5).
فطول عمر الإمام المهدي(عج) أمرٌ إعجازي أراده الله تعالى لحكمة ارتآها، ولعلَّ بعض ما يمكن أن نتلمَّسه من هذه الحكمة أموراً عدة نذكر منها:
1- إنَّ حضور الإمام الدائم بيننا، في غيبته الكبرى عن أنظارنا، واتصاله المباشر معنا من جهته بالطريقة التي يرتئيها، يجعلنا نعيش حالة الارتباط بإمام حاضر، ويفسح في المجال لصلةٍ حيوية به، فقد يكون حاضراً في مجلسنا، أو معركتنا، أو مواقفنا، أو رعاية شؤوننا، وهذا ما يُكسبنا نوعُ علاقةٍ لا تتوفر في حال انتظار إمامٍ لم يولد بعد، ويضعنا في حالة نفسية ومعنوية مترقبة لتأييده وتسديده، طالما أنَّه حاضر غائب يواكب ما نحن عليه، ويطمئننا إلى إلمامه بشؤون حياتنا، وعيشه ومتابعته لمسائل الأمة، ويجعلنا نستفيد من بركات حضوره وتأثيره، متظللين بفيء القيادة الحاضرة مع رعيتها، آملين أن يكون معنا وبيننا في قضايانا المختلفة.
2- استيعاب الحياة البشرية للوجود الدائم للمعصوم، كي لا تخلو الأرض من حجة، فمن كلام لأمير المؤمنين علي(ع) لكميل ابن زياد(رض) قال: "لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة، إمَّا ظاهراً مشهوراً، أو خائفاً مغموراً، لئلا تبطل حجج الله وبيناته"(6). وهذا ما يغطي وجود القيادة المعصومة على امتداد حياة الناس، لربطهم بها، وانقاذهم من الضياع، وتحميلهم مسؤولية حسم مسارهم وخيارهم، في أن يكونوا مع القيادة الحقَّة التي ترشدهم إلى طريق الهدى.
3- الجهوزية الدائمة لظهور الإمام(عج)، فمع حياته، لا يمنع ظهوره إلاَّ عدم اكتمال الظروف التي تهيئ لهذا الظهور، ومتى علمنا أنَّه موجود ينتظرنا، وينتظر فيما ينتظره أن يُكمل أنصاره وأعوانه العدة المناسبة، فهذا ما يحفِّزنا للعمل الدؤوب، من أجل تهيئة الثلة المؤمنة المجاهدة التي تسير في ركبه وتكون من جنده. ثم عندما يشتدُّ الفساد والطغيان في زمنٍ ما، وتلهج الثلة المؤمنة بظهوره، وتعمل لتكون من أنصاره، يكون احتمال الظهور قائماً، ما يجعل الأمل كبيراً في أن يحصل الأمر في الزمن، وهذا ما يشحذ هممنا، ويزيدنا قوة وعزيمة لعملٍ نتوقع نتائجه في حياتنا.
4- إبطال دعوى المدَّعين للمهدوية بأبسط الأدلة، فالإمام مولود وحاضر، وهو من أولاد الإمام الحسين(ع)، إنه محمد بن الحسن العسكري(عج)، فلا يستطيع المخادعون أو المزوِّرون التدليس على الناس بتهيئة معطياتٍ توهم بكون فلان المولود هو الإمام، فللإمام صفات واضحة ودليله معه، ولا يستقر أي تزوير بسبب سهولة انكشافه.
نحن مسؤولون في الاستفادة من مبايعة صاحب الزمان الحي الحاضر المنتظر، والتهيئة لنكون مستعدين لإمرته وقيادته، وأن نعيش حياته بكل أبعادها، لنفوز بخيرات الارتباط بالإمام الحاضر الغائب (عجل الله فرجه الشريف).