تحقِّق البشارة بالامام المهدي (عج) منعطفاً هاماً في حياة الفرد والمجتمع, حيث يؤدي انتظار ظهوره في مستقبل البشريّة تأثيراً على مستوى التفكير, والايمان, والذات الانسانية, والسلوك, فظهور المخلِّص يعني التفكير بالموقف منه والعلاقة معه, والايمان به يُنجز التزاماً وتصويباً تجاه خطوة من خطوات المسار والمنهج الإلهي, وتتعبأ الذات الانسانية بحالة روحيّة ومعنوية متفائلة, ويتأثّر السلوك استعداداً للالتحاق بركب الامام (عج).
إنَّ التّأكيد على الايمان بالمهدي (عج)من خلال الآيات والروايات الكثيرة والمتواترة, يدلُّ على الاهمية التي يوليها الاسلام لهذا القائد الرمز, ولدوره وموقعه وأثره في الحياة الانسانية, ولعلَّ البعض ينصرف الى المعلومات التفصيليّة حول توقيت الظهور ومؤشّراته أكثر مما يهتم بأصل الظهور وأثر وجوده, علماً بأنَّ النتائج المتوخاة خلال فترة احتجابه وغيابه عنَّا تتحقَّق بشكلٍ كبيرٍ وفعّال بسبب الايمان به, وهذا ما أشارت إليه الروايات التي حثَّت على انتظار الفرج، فذكرت أنه أفضل العبادة، قال رسول الله(ص):"سلوا الله من فضله، فإنَّ الله عزَّ وجل يحبُّ أن يُسأل، وأفضل العبادة انتظار الفرج"(1).
وعن أمير المؤمنين(ع), عن رسول اللّه (ص): "أفضل العبادة انتظار الفرج"(2).
وهو أفضل الجهاد، في الصبر على غيابه، والتصميم على الاقتداء به دون غيره، قال رسول الله(ص): "أفضل جهاد أمتي انتظار الفرج"(3).
وهو أفضل الأعمال، فعن الإمام العسكري(ع)، عن النبي(ص): "أفضل أعمال أمتي انتظار الفرج من الله عزَّ وجل"(4).
وهو أحبُّ الاعمال إلى الله عزَّ وجل، ففي سؤال لأمير المؤمنين(ع) : "فأي الاعمال احبُّ الى اللّه عزَّ وجل, اجاب:انتظار الفرج "(5).
للايمان بالامام المهدي (عج) انعكاسات على واقع المؤمنين , نذكر منها:
1- الأمل بالخلاص: إنَّ انتظار الامام المهدي (عج) يزرع الأمل في نفس المؤمن, و يطمئنه لحلولٍ قادمة في المستقبل, بحيث يرتبط بوعد اللّه تعالى الذي لا يُخلف وعده, أي بالقوة الفاعلة على الارض, فرصيد المؤمن من الدعم الإلهي يُشعرهُ بالقوّة والقدرة, وهذا ما يولِّد شحنة معنوية تنعكس على إرادته وموقفه, حيث تصبح إرادته وتصميمه وثقته بنفسه أقوى أمام المتحديات, وينطلق موقفه بثبات وصلابة واطمئنان, متمسكاً بالاستقامة والصلاح في مقابل الانحراف والفساد.
قال رسول الله(ص): "الأمل رحمة لأمتي، ولولا الأمل، ما رضَّعت والدة ولدها، ولا غَرَس غارسٌ شجراً"(6). الأمل دافع للإنسان للاهتمام بقضاياه ودنياه وآخرته، إنَّه الرغبة التي تشدّه إلى الحياة وإعمار الدنيا، إنَّه حالة نفسية يعيشها الفرد منّا فتؤثر على مساره وأدائه، وتنعكس على آماله وطموحاته.
لكنَّ الأمل لا يوصل إلى نتيجة واحدة، فله اتجاهان متعاكسان:
الأول: أملٌ نبيلٌ وشريفٌ ومشروعٌ ونافع.
الثاني: أملٌ مخادعٌ وزائف ومنحرف وضار.
الأول يتوجَّه إلى الصلاح، واستثمار الدنيا في طاعة الله تعالى مهما كانت الصعوبات، أملاً بحلاوة الطاعة في الدنيا وحسن الثواب في الآخرة، وتحقيق رضوان الله تعالى. والثاني يغرق في الفساد وزينة الحياة الدنيا، من دون أن يتوقف نَهَمُهُ فيها، املاً بالأكثر من المال والموقع واللذة العابرة، لأنَّه لا يرى غيرها، وقد عمي قلبه، فتلهَّى بالمتاع الزائل عن المتاع الدائم والخالد، قال تعالى: "ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ"(7).
لقد رأينا تجارب الناس في حياتنا، واطَّلعنا على تجارب الأمم السابقة، فوجدنا الخيبة واليأس والنتائج السلبية، في حياة أولئك المتأملين بزينة الحياة الدنيا، وما يحيط بها من أسباب الفساد والظلم والانحراف، في مقابل التاريخ المشرق والمشرِّف للأنبياء والأولياء والشهداء والصالحين، الذين تحملوا المشاق الدنيوية، لكنهم حققوا فوزهم بالنجاة بتكليفهم، فحصدوا أداءً وسمعةً طيبة، ولهم جنة الخلد في الآخرة.
أحد مفردات الأمل الإيجابي: الأمل بالخلاص بقيادة صاحب العصر والزمان القائم المهدي(ع)، "وإنما سُميَّ القائم مهدياً، لأنَّه يهدي إلى أمر قد ضلوا عنه، وسُميَّ بالقائم، لقيامه بالحق"(8). نحن بحاجة إلى الهداية الحقيقية، والقيام بالحق، لسعادتنا في الدنيا والآخرة. إنَّه أملٌ حقيقي غير زائف، يختلف عن الكثير من الآمال المزيفة التي يُفاجأ الإنسان بنتائجها، إنَّه الوعد الإلهي الذي لا يتخلَّف : "وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ "(9). إنَّه طريق الخلاص، فعن رسول الله(ص): "لا تقوم الساعة، حتى يقوم قائم الحق منَّا، وذلك حين يأذن الله عزَّ وجل له، ومن تبعه نجا، ومن تخلَّف عنه هلك.. الله الله عبادَ الله، فأتوه ولو على الثلج، فإنَّه خليفة الله عزَّ وجل وخليفتي"(10).
هذا الأمل يعطي الإنسان قوة دافعة ليتحرك باستمرار، فيسعى من دون كَلَلٍ أو تعب، وهو يأمل بالنتيجة التي سيحصل عليها، بأن يكون من جنود الإمام المهدي(عج)، أي في طريق الخلاص ومع جيش المخلِّص، هذه القوة الدافعة تطرد اليأس الذي لا مكان له عند المتأملين، وتملأ القلب بحالة معنوية مطمئنة وواثقة ما يشكل زخماً وحيوية في حياة المؤمنين، وما دام تقدير الله تعالى قيام دولة العدل على الأرض، فلا قدرة لأحد أن يمنع قيامها لأنها حتمٌ إلهي، "وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ "(11). إنَّها القوة التي تُشعر المؤمن بسعادة الانتظار، واللهفة إلى وقت الظهور، وتفاصيل أحداثه والتمتع بقيادة ووجه صاحب الأمر الإمام المهدي(عج).
2- الاطمئنان إلى النصر: قال تعالى: "وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ "(12)، وذكرت الروايات أنَّ الامام المهدي(عج) سيقيم دولة العدل الإلهية على الارض, فالنصر مؤكد للمؤمنين, والهزيمة حتمية للكافرين, ولا مجال لأي شك بهذه النتيجة, فهي وعد اللّه تعالى, وإرادته في حياة البشريّة, أن يظهر خاتم الائمة المهدي (عج) في آخر الزمان, ويكون النصر الكبير الشامل على يديه. فعندما ينتظر المؤمن النصر القادم, يُدرك بأنَّ خطواته ستتراكم مع خطوات الأمة، وستثمر في يوم من الأيّام, حتّى ولو جهل تاريخ هذا اليوم, فتكليفه أن يكون جزءًا من هذا الخط, وأن يتوكّل على اللّه تعالى فيما يقضي ويقدِّر.
فالنتيجة عند المؤمن بالمهدي(عج)، أن دولة العدل ستتحقق مهما كانت الصعوبات، وهو لا يرى مسار الأحداث بمعادلة مادية بحتة، فمع أن أمريكا دولة كبرى تهيمن على العالم وتحاول السيطرة الآحادية عليه، وتملك من القوة ما يساعدها على أن تتقدَّم باستمرار باتجاه أهدافها، لكنَّه يتوقع أن تسقط هذه القوة بعد حين، وأن تنهار من القمة إلى الهاوية، وأن تعيش ابتلاءات تؤدي إلى تراجعها، وها هي تجربة الاتحاد السوفياتي ماثلة أمام الجميع. ومع أن إسرائيل مدعومة من العالم وتتوسع في احتلالها، وتزيد من تسلحها وقوتها وعدوانها، لكنَّه يتأمل زوالها مع قدوم النصر النهائي. ومع انتشار الظلم والفساد العالمي، فإنَّ الأمور متجهة إلى الانفجار الذي يطيح بهذا الفساد مع الظهور الذي يُحِلُّ الفضيلةَ محلَّه. هذا الاطمئنان يؤثر على العمل الذي ينطلق من الأمل، على الرغم من الضعف والعقبات الكثيرة، فهذه تجربة المقاومة الإسلامية في لبنان، قد تجاوزت كل الحسابات المادية، لتحقق نصراً عظيماً على طريق الخلاص، ولتطرح معادلة مغايرة تماماً لما يسود في أوساط العالم، فكيف إذا اتسعت التجربة وتعمَّمت.
3- أهمية القيادة : إنَّ تباعد الزمان عن التواصل المباشر مع المعصوم ، فتح باب الاجتهاد ، لشرح تعاليم الإسلام وتوضيحها لعامة الناس، وتحديد تكليفهم الشرعي تجاهها، وأوجد ثغرات في التطبيق والمواقف، وتبايناً في الآراء أدَّى إلى نشوء فرقٍ ومذاهب وجماعات...فمن هو صاحب الحق الأكيد؟ ومن يصيب بدقَّةٍ أكثر في آرائه ومواقفه؟ إنَّ انتظار الإمام المهدي(عج) يحسم مسار القيادة المفترضة الطاعة، ويريح المؤمن باتباع من يرشده إليه، ويكون من اتباعه وأنصاره، فيرفع حيرته حول صوابية ما يؤديه من تكليف شرعي.
4- ثبات الموقف: يعيش المؤمن واقعاً مريراً في مواجهة الكفر والانحراف، وكأنَّه يقبض على الجمر، ويعرِّض نفسه للاحتراق، فعن ابن مسعود عن رسول الله(ص): "يا ابن مسعود : يأتي على الناس زمانٌ، الصابر على دينه مثل القابض على الجمرة بكفه"(13)، ويضغط الشيطان وأعوانه على المؤمنين بزينتهم من ناحية ، وظلمهم واستبدادهم من ناحية أخرى، ليحرفوهم عن الطاعة لله تعالى، فإذا اعتقد المؤمن بأنه متروكٌ من دون أفقٍ للحل، وأنَّه وحيدٌ في الصمود والمواجهة، فستضعف قدرته أمام الواقع الضاغط، وقد يسقط في الامتحان، أمَّا مع وجود الأمل بالخلاص ، فإنَّ الصمود يقوى ويشتد، فلا يستسلم مهما كانت الصعوبات والضغوطات، وهذا ما يجعله ثابتاً على الإيمان.
هذا الأمل بالخلاص قوة لموقف المؤمن، فما يتأمله مضمون النتائج، واستشراف النصر حقيقة لا محيص عنها، وما يِعِدُهُ به الآخرون لا استقرار له. ما الذي يدعو بعض الناس إلى التنازل عن المبادئ والحق؟ ما الذي يجعلهم لا يثبتون على رأي أو موقف ويتزلزلون أمام الضغوطات والتحديات؟ ما الذي يجعلهم متواطئين مع الظالمين؟ إنَّه ضعف إيمانهم من جهة، وعدم اطمئنانهم إلى إمكانية التغيير نحو الأفضل أو الوصول إلى نتيجة جيدة في نهاية المطاف من جهة أخرى! لكنَّ المتعلق بالمهدي(عج) يجد نفسه باتجاه طريق الخلاص، وما هي إلاَّ عقبات في الطريق، لا يصل إلى نهايتها إلاَّ إذا تجاوزها بثبات وجرأة وصبر، ولذا نراه لا يتراجع عن طاعة الله تعالى، ولا يسلك درب الانحراف والفساد، وهو يتقبَّل المعاناة بسبب التزامه، وقد لا يحقق إلاَّ نزراً يسيراً من أهدافه، لكنَّه يتأمل بالنتائج النهائية، فيثبت على خط الإسلام باطمئنان وفعالية.
وهل يستطيع أحد في الدنيا أن يهرب من الاختبار الدنيوي، الذي يقع على المؤمن والكافر على حدٍ سواء؟ لكنَّ الفرق بينهما: نجاح المؤمن في الاختبار، وفشل غيره في نتائجه. إنَّ المتأمل بالخلاص يرى مرور الزمن مقرباً له من المهدي(عج)، وكثرة الاختبارات منقِّية له من شوائب الانحراف والفساد، وصموده أمام الباطل خطوة إلى الأمام نحو الإمام.
إنَّ وعد الله تعالى للمؤمنين بالنصر إذا نصروه قائمٌ في كل زمان، " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ "(14)، لكنْ، متى تتحقق شروط نصرة المؤمنين لله تعالى، ومتى يستحقون النصر ؟ تبقى الإجابة مرتبطة بمستوى أداء المؤمنين، فإذا لم يتوفَّر هذا المستوى في زمانٍ ما، لا يتحقق النصر كذلك، ولو بلغ الأمر مساحة الحياة الإنسانية. أمَّا التغيير وخصوصية النصر المرتبطة بظهور الإمام (عج) فهي حتمية، حيث ستتحقق الشروط المطلوبة، وسيظهر الإمام(عج)، ويسود الإيمان والعدل، فهو وعدٌ لزمانٍ قادم لا يمكن تجاوزه، وهذه بشارة عظيمة للمؤمنين.
إنَّ الأمل بالخلاص يعطي زخماً لحركة الإنسان المؤمن، ويغيِّر الكثير من مفاهيمه وحساباته، لمصلحة السعي الواثق بالنصر وتحقيق أهداف الإسلام.