3- الإفضال: أما القاعدة الثالثة في الاحتساب فهي "الإفضال" لقوله تعالى" وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ"، فالفضل من الله إحسان وزيادة من دون أي مقابل أو بدل، وله دائرة واسعة لا حدود لها ولا يعلمها إلاَّ الله ، " وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ".
الإفضال رحمة من الله بعباده، فهو الذي بدأهم بالإحسان والنعم، وعممَّ ذلك على كل البشر من دون مقابل، وهو الذي أراد أن يختم للصالحين بالفضل والزيادة ليعوِّض نقص الاحتساب العادي لهم، فيضمن لهم الفوز بجنته مهما كان حجم أعمالهم، لأنَّ مسارهم الذي أختاروه ينبئ باستحقاقهم لهذه الرحمة الإلهية، يقول الإمام زين العابدين(ع) في دعاء السحر الذي رواه أبو حمزة الثمالي(رض):"يا محسن ، يا مجمل، يا منعم، يا مفضل، لسنا نتكل في النجاة من عقابك على أعمالنا، بل بفضلك علينا، لأنك أهل التقوى وأهل المغفرة، تبتدئ بالإحسان نعما، وتعفو عن الذنب كرما"(290).
الرحمةُ وعد الله للمؤمنين، فقد قرَّرها لهم، وأعلمهم بها في كتابه العزيز:" وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ"(291).
ومتى أعطى الله المؤمنين بأسلوب المبادلة؟! لقد أعطاهم دائماً أكثر مما يستحقون بكثير، وأفاض عليهم من كرمه إلى درجة لا يقدرون معها على شكره، فيحمدونه ويشكرونه سائلين المولى أن يكون ذلك بما هو أهله. عن الإمام الكاظم(ع):"واعلم أنَّ الله لم يرفع المتواضعين بقدر تواضعهم، ولكن رفعهم بقدر عظمته ومجده. ولم يؤمِّن الخائفين بقدر خوفهم، لكن آمنهم بقدر كرمه وجوده. ولم يُفرج عن المحزونين بقدر حزنهم، ولكن بقدر رأفته ورحمته. فما ظنك بالرؤوف الرحيم الذي يتودد إلى من يؤذيه بأوليائه، فكيف بمن يُؤذى فيه؟! وما ظنك بالتواب الرحيم الذي يتوب على من يعاديه، فكيف بمن يترضَّاه ويختار عداوة الخلق فيه؟!" (292).
من حقهم أن يفرحوا بهذا العطاء الإلهي، فهو أفضل من أعمالهم وسعيهم،" يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ"(293).
وهل يمكن أن تكون الأم أرحم بولدها من الله بعباده؟! مرَّ رسول الله(ص) على جماعة من المسلمين بينهم امرأة من السبي فقدت ولدها، فإذا وجدت صبياً من السبي أخذته وألصقته ببطنها وأرضعته، فقال النبي(ص):"أترون هذه طارحةً ولدها في النار؟. قالوا: لا وهي تقدر على أن لا تطرحه. فقال(ص): الله أرحم بعباده من هذه بولدها"(294).
إنَّ توفر هذه القواعد الثلاث دافع قوي للإيمان، فهي لا تقتصر على إيفاء الأجر، بل يزيدهم الله من فضله، وهي توسعة عظيمة، لا تترك عذراً لمعتذر، مهما كثرت ذنوبه وطال انحرافه، طالما أن طريقة الاحتساب توسع دائرة الفرص وتقرِّب إمكانية الفوز، وعندها من لم يستفد من ذلك فعقابه شديد، "فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً"(295).