سبيلك إلى مكارم الأخلاق

طريقة احتساب الحسنات والسيئات

طريقة احتساب الحسنات والسيئات

اللهم إلى مغفرتك عن ذنوبي أتيت كي تغفرها لي، فأنا أحملها معي كمعاصٍ لا يُسقط حسابها إلاَّ غفرانك. وإلى عفوك عما ترتَّب من حقوق لك عليَّ توجهت، فأنت الذي تعفو وتصفح، وأنا بحاجة إلى هذا العفو. وإلى تجاوزك وعدم توقفك عند أعمالي السيئة مشتاقٌ ومتعطش لرأفتك بي، فقد وقعت الأعمال السيئة مني، ولم يعد بإمكاني التخلص من تبعاتها، إلاَّ بتجاوزك إياها، وأنا ملهوف لذلك، دفعاً لنتائجها وعواقبها عليّ. وقد وضعت ثقتي بفضلك، لتعطيني ما لا أستحق، وتكافئني بما لم أعمل، وتزيد في حسناتي بما يرجح مقبوليتي في الناجين.

فالطلبات أربعة: المغفرة والعفو والتجاوز والفضل، أمَّا الثلاثة الأولى منها فتستهدف إلغاء مفاعيل وآثار المعاصي والذنوب من سجل الحساب النهائي، كي لا تطغى أعمال العبد السيئة فيخسر في النتيجة، وأمَّا الرابع وهو الفضل فيستهدف الإحسان والزيادة بعد استيفاء الأجر، ومن دون مقابل، بما يؤدي إلى النجاة، التي تنتج عن العطاءات الإلهية الإضافية للمؤمنين، حيث تعسر النجاة من دون فضل الله تعالى.

والتبرير واضح في الدعاء، فليس عندي ما يوجب مغفرتك لي كحقٍ مكتسب، ولا في عملي ما أستحق به عفوك فلا استحقاق للذنب إلاَّ العقوبة، فإذا جمعت ذنوبي مع أعمالي الصالحة، لا تنتج رجحان كفة النجاة إلاَّ بدعم استثنائي خاص منك يا رب. فقد أصبح واضحاً لدي بأن حكمي على نفسي هو العقوبة والعذاب، ولا إنقاذ لي مما أنا فيه إلاَّ فضلك بما فيه من المن والإحسان والعطاء والزيادة، وأملي بك، بتذللي ورجائي وحاجتي ودعائي لك، فأنت القائل:" وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ"(284)، وها أنا أدعوك راجياً متأملاً، مؤمناً بك ومستجيباً لك بكل ما قدرت عليه في مواجهة هواي ووساوس الأنس والجن، فخلصني بفضلك، بحق محمد وآل محمد(ص)، وما لهم من مكانة لديك، فإني موالٍ لهم، فتفضل عليّ يا أرحم الراحمين.

يعيش المؤمن حالة الاستسلام الكامل لله تعالى من خلال هذا الدعاء، ويبني آماله كلها على مستقبل العطاء الإلهي له، فما الرصيد الذي يعتمد عليه في ذلك؟ ولماذا لا يعتمد على أعماله بالدرجة الأولى؟ وهل يمكن أن يكون الفضل والرحمة الإلهية بالعبد المؤمن بلا حدود؟ أسئلة تستدعي منا مواكبة أجوبتها عبر التسلسل التالي:

1- العمل أساس: الدنيا مسرح عملٍ ودار ابتلاء واختبار،" لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ"(285)، ولا تكون ترجمة الابتلاء باتجاه الفوز أو الخسران إلاَّ بالعمل، فهو محور الرصيد الدنيوي والأخروي. قال تعالى" وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ"(286). ولا يكفي العمل المجرد عن الإيمان، فالعمل الصالح مطلوبٌ متلازماً مع الإيمان، قال تعالى:" وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ"(287).

بالإيمان يتحدد الاتجاه والرؤية، ويتضح المنهج الذي سيسلكه الإنسان، ثم يُترجمه في الالتزام بالشريعة المقدسة، فينتج العمل الصالح، الذي يشكل رصيداً يكبر أو يصغر بحسب فترة الالتزام التي تفصله عن الموت، ومستوى التزامه ودرجته، فلا يمكن حساب الرصيد بعدد السنوات أو كمية الأعمال، لأنها تتفاوت بين إنسان وآخر. لكن على العموم يُعتبر العمل الصالح أساساً ومعبراً نحو الثواب، فعلى المؤمن أن يبذل أقصى جهده، وأن يعمل الصالحات، ويتجنب المعاصي، ويستغفر الله ويتوب إليه بعدم العودة إلى ما عصى، وذلك في كل مرة يخطئ فيها، من ضمن مسؤوليته في السعي لتغليب الحسنات على السيئات.

2- التحفيز بطريقة الاحتساب: قال تعالى:" مَنْ جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ"(288). فلو كانت وحدة القياس للعمل واحدة، بحيث تساوي الحسنة عند الفعل السيئة عند الترك، لكانت السيئة بواحدة من الناحية السلبية، والحسنة بعشرة من الناحية الإيجابية، أي تنقص علامة واحدة بسبب السيئة، وتزيد عشر علامات بالحسنة التي تقابلها، ما يعني بأن الرصيد بالمقارنة قد تفوق تسعة أضعاف، وهذا ما يعطي قوة دفع إلى الأمام، بسبب تجاوز الحسنات للسيئات لو كان الأمر مرتبطاً بالطريقة الحسابية البسيطة.

لكننا لا نستطيع حساب كل عمل حسنة أو سيئة بوحدة القياس نفسها، فالذنوب صغائر وكبائر ولكل عقابه ودرجته. النظرة المحرَّمة تختلف عن الزنى، وأذية الإنسان تختلف عن الاعتداء بالجرح والكسر، والكلمة البذيئة تختلف عن الغيبة...مع أن كل واحد من هذه الأعمال سيئة بذاتها، إلاَّ أنها بوحدات قياس حسابية مختلفة، فقد تساوي سيئة واحدة ما مجموعه مائة سيئة من ذنب صغير.

وكذلك تختلف الحسنات بدرجاتها، لكل حسنة عشر أمثالها أي بحسبها وبقيمتها، فإزاحة الحجر عن طريق المارة حسنة تختلف عن إنقاذ الغريق، وإصلاح ذات البين بين متخاصمين حسنة تختلف عن الجهاد والذود عن بلاد المسلمين، والصدقة التي تُطعم جائعاً تختلف عن الموعظة التي تهدي إنساناً إلى الإيمان، مع أن كل عمل من هذه الأعمال حسنة، إلاَّ أن قيمتها متفاوتة، فرب حسنة عادلت مائة حسنة صغيرة من نموذج معين، لكن هي بعشر أضعاف من مثلها وليس من مثل غيرها، حيث قد تكون بألف ضعف أو غير ذلك.

من منَّا يستطيع القيام بمثل هذا الإحصاء الدقيق؟ وهل نعرف بدقة قيمة كل حسنة وكل سيئة لنجمع رصيدنا العام من الحسنات والسيئات؟ بل من طلب منّا أن نُشغل أنفسنا بمثل هذا الحساب الشاق والمضني؟! وحتى لو علمنا من خلال الآيات والروايات بعض الفروقات التي تسلط الأضواء على تفاوت الأهمية بين الأعمال ، بين الأفضل والأقل فضلاً، بين الواجب والمستحب، وكذلك بين الصغائر والكبائر، وبين الذنب والطغيان... فلعلَّ الإجمال في الآية الكريمة يغنينا عن كل هذا:الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها بما علمُه عند الله تعالى.

تعطي القاعدة العامة في الاحتساب"للحسنة بعشر أمثالها وللسيئة بمثلها" حافزاً مهماً ليبقى الأمل بالفوز قائماً مهما كانت السيئات، وإمكانية التكفير عن الذنوب السابقة محتملة مهما تراكمت هذه الذنوب. فبهذا الأمل يندفع الإنسان نحو الصلاح، ويعالج أخطاءه، ويتجنب المعاصي، ويُقبل على العبادة والطاعة، فطريقة الاحتساب هذه طاردة لليأس من المعالجة، ومعطية لفرص إضافية ليعيد الإنسان حساباته باستمرار.

وقد أضاف الله تعالى إليها قاعدة ثانية يستفيد منها من سلك طريق الهدى، وهي قاعدة"الجزاء بأحسن الأعمال. قال تعالى:" رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ"(289).

بحيث تُجمع الأعمال الحسنة من كل صنف، ثم يُكافأ المؤمن عليها بأحسنها. فعدد الصلوات التي أديتها تُحتسب بأفضل صلاة فيها، وعدد أيام الصوم تُحتسب بأفضل يوم فيها، ما يراكم كماً كبيراً وعظيماً من الحسنات المضروبة بعشرة أضعاف أمثالها، وهذا حافز إضافي، لتحسين الأداء، والقيام بأفضل مراتب الأعمال، والثقة بالفرصة الكبيرة التي تسنح للثواب العظيم بطريقة الاحتساب هذه.