"وبلِّغ بإيماني أكمل الإيمان". الطلب الأول في الدعاء كمال الإيمان، والإيمان مفتاح كل شيء، فهو الذي يحدد خيار الإنسان في هذه الحياة. عليك قبل التلهي بالتفاصيل، وقبل الحكم على الأعمال والتصرفات، وقبل حسم موقفك من أي قضية تواجهك في المسائل الشخصية والعامة، أن تحدِّد منطلقك ورؤيتك ومنهجك الذي يرشدك إلى الطريق والموقف.
مع الإيمان بالله تعالى، يكون اختيارك لدين الله،" إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلاَمُ "(19)، لكن لا يكفيك الانتساب إليه بسبب ولادتك من أبوين مسلمين، ولا إعلان الإسلام بالنطق بالشهادتين، بل عليك سلوك خطوات الالتزام بما أمر الله تعالى، لتدخل في عالم الإيمان بالتصديق والعمل، " قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ "(20). وقال رسول الله(ص):"ليس الإيمان بالتخلي ولا بالتحلي، ولكن ما وقر في القلب وصدَّقه العمل"(21).
يجب أن يكون الطلب للأفضل، فيا رب امنحني إيماناً أبلغ به أكمل الإيمان، لأرتقي في درجات الطاعة، فارتفع معها في درجات الأخلاق، وأسمو بها إلى درجات القبول عندك في يوم القيامة. يا رب ساعدني لأحصل من كل شيء على أفضله وأحسنه وأكمله، فلا أكتفي بأكمل الإيمان بل بالأكمل في كل شيء، وهل يمكن أن أبلغ الإيمان من دون التناغم مع الأكمل في كل المطالب الأخرى؟! هكذا نجد دعاء مكارم الأخلاق ينساب إلى أكمل الصفات والأعمال، وهي حالة ممكنة لو شددنا العزم، وثبتنا في مواجهة حجب الضلالة،" مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ* مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ "(22).
إنَّ لكل شيء درجات ومراتب، " فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً "(23)،
وقال تعالى:" إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ "(24)،
وقال:" يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ"(25)، و" وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ"(26).
لا تستعجل بلوغ الدرجة الأعلى، بل ضعها نصب عينيك، وارقَ درجة بعد أخرى، محاولاً القيام بمستلزمات كل درجة، وهي ليست معقَّدة، بل تتداخل فيما بينها، بحيث يكون تصميمك باتجاه الإيمان الحقيقي والصادق دافعاً لتمتين الصلة مع الله تعالى، من خلال الالتزام بالعبادات، وتطبيق أوامره ونواهيه في المعاملات مع الناس، وتهذيب النفس بطرد الأفكار الخبيثة ووساوس الشيطان، ثم تتراكم آثار هذا الجهد، فتشعر بتحسُّن في علاقتك مع الله تعالى ونظرتك إلى الأمور، فإذا تابعت متحدِّياً مغريات وملذات الانحراف والضلالة، تجدَّد انتصارك في كل حادثة، ليتحوَّل إلى معنويات مضيئة ومشرقة، ترقى بك في سلم الإيمان إلى أكمله.
قال الإمام الصادق(ع) لأحد أصحابه:"يا عبد العزيز، إن الإيمان عشر درجات، بمنزلة السلّم، يصعد منه مرقاة بعد مرقاة، فلا يقولن صاحب الاثنين لصاحب الواحد لست على شيء حتى ينتهي إلى العاشر، فلا تُسقط من هو دونك، فيسقطك من هو فوقك، وإذا رأيت من هو أسفل منك بدرجة، فارفعه إليك برفق، ولا تحملنَّ عليه ما لا يطيق فتكسره، فإن من كسر مؤمناً فعليه جبره"(27).
أيها العزيز، لا تصنِّف نفسك في الدرجة الثانية في الموقع الأعلى ممن هو في الدرجة الأولى، كي لا ترضى نفسُك بما وصلتَ إليه، وكي لا ترى نفسك أعلى من غيرك فتستأنس بذلك ويصيبك العُجب، واعمل على أن تأخذ بيد من دونك لترفعه إليك، فبذلك ترتفع أنت أيضاً، واعلم أنك قادرٌ على الارتقاء إلى الدرجة العاشرة.
ما الذي يعيق سمو إيمانك؟ حجب الدنيا وآثامها!
ابدأ بها واحداً تلو الآخر، بعد أن تحددها وتعرف مشكلتك بسببها. ابدأ بحجاب الشهوة، حاربها، وعاكس إغراءها، فلا تفعل ما ترغبه منها، عندها ستعاني للحظات، ثم تفوز. كرر ذلك معها، وكذا مع الحجب الأخرى، محتسباً أجرك على الله تعالى، راغباً بأن يقبلك في عداد المؤمنين، إذ لولا الإيمان بالله تعالى لما جاهدت نفسك هذه المجاهدة، ولولا رغبتك بالرقي إلى أكمل الدرجات لما تحمَّلت عناء التخلي عن مغريات الدنيا..لكن انظر إلى السعادة القلبية التي تعيشها مع الإيمان، فهي لا توصف، ولا يعرف طعمها إلاَّ من ذاق حلاوة الإيمان، فهنيئاً لك أيها الذوَّاقة وأنت تعيش سمو الإيمان في الرقي إلى الملكوت الأعلى، فلا محلَّ في قلبك لغير الإيمان بالله تعالى، ومع استيعاب القلب له، فإنَّ الحجب تتكسَّر واحداً بعد آخر، لينتشر النور الذي يبدد الظلام والضلالة والهوى، ومعه لا وجود في كيانك إلاَّ لله الواحد الأحد الذي لا شريك له.