مع حلول تاريخ 12 تموز 2006 , أسر حزب الله جنديين إسرائيليين على الحدود اللبنانية الفلسطينية لمبادلتهما بالأسرى والمعتقلين اللبنانيين في السجون الإسرائيلية, والذين لم تنفع كل الجهود السياسية لإطلاقهم, فاتَّخذت إسرائيل قرار الحرب على حزب الله بذريعة اطلاق سراح الجنديين, والتي استمرت 33 يوماً, سمَّاها الاسرئيليون "حرب لبنان الثانية", وسمَّاها حزب الله "الوعد الصادق".
لم يكن يتوقع الحزب أن يؤدي الأسر إلى حربٍ شاملة, ومع ذلك كان مستعداً قبل الأسر وبعده لأي احتمالٍ عدوانيٍ إسرائيلي على لبنان, حيث بدأ إستعدادته منذ التحرير في 25 أيار 2000 , لقناعته بأنَّ إسرائيل ستعتدي على لبنان في يوم من الأيام, فهي تريد لبنان مجرداً من أسباب القوة كي لا يكون عائقاً أمام مشروعها التوسعي في المنطقة.
كان قرار الحرب أمريكياً بالتنفيذ الإسرائيلي, واتضح فيما بعد من خلال التقارير الأمريكية والإسرائيلية والمعلومات الصحفية المطَّلعة وتقرير فينوغراد بأنَّ إسرائيل اندفعت إلى الحرب بالضغط الأمريكي, وكانت بحاجة إلى وقت إضافي لا يقل على شهرين أو ثلاثة للمزيد من الاستعداد, (أشارت التقارير حول نيَّة اسرائيل شنَّ حرب ضد حزب الله بين أيلول وتشرين الأول من العام نفسه), فاندفعت إلى الحرب بطريقة متدرِّجة وغير متوازنة بسبب القرار المفاجئ بالحرب، وعدم اكتمال الصورة مسبقاً لما تتطلبه المعركة الحاسمة لتحقيق الأهداف المطروحة.
لماذا أقدمت أمريكا على هذه الخطوة ؟
لأنها فشلت في استخدام القرار 1559 سياسياً لنزع سلاح حزب الله, ولم يؤدِ الخروج السوري من لبنان إلى إضعاف الحزب, وشكَّلت مشاركة الحزب في الحكومة مع بيانها الوزاري الداعم للمقاومة حماية سياسية له, وزاد رصيد الحزب بالالتفاف الشعبي حوله وخاصة بعد التفاهم مع التيار الوطني الحر, وليس بالإمكان توريط الجيش اللبناني في مشكلة مع المقاومة في أجواء عقيدة الجيش المعادية لإسرائيل على ضوء الواقع السياسي الموجود في لبنان, وواقع الجيش وتركيبته في ظل الاصطفاف الطائفي الحاد في لبنان, ولم يتمكن فريق 14 آذار مع كل الضغط الدولي عليه وخاصة الأمريكي من الالتزام بجدول زمني لمعالجة وجود سلاح الحزب, بل انكشف لاحقاً بأن شخصيات أساسية من فريق 14 آذار أخبرت نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني ووزيرة خارجيته رايس وبعض المسؤولين الأمريكيين بعدم قدرتهم على فعل أي شيء, وأنَّ مرور الوقت ليس لمصلحتهم, وأشاروا إليهم بأنَّ الخيار الوحيد المتبقي هو شنُّ حربٍ إسرائيلية على الحزب لضرب قوته ونزع سلاحه.
كان عدوان تموز 2006 حرباً عالميةً باليد الإسرائيلية ضد حزب الله ومؤيديه, حيث احتشدت الدول الكبرى ومجلس الأمن وبعض الدول العربية وفريق 14 آذار في لبنان لتغطية وتبرير العدوان الإسرائيلي وتحميل الحزب مسؤولية الحرب ونتائجها, ومطالبته بإنهاء وجوده المسلح. يعجز القلم عن وصف همجية العدوان الإسرائيلي والمجازر التي ارتكبت بحق الشعب اللبناني, حيث استشهد حوالى الألف شهيد, وجرح ثلاثة آلاف, ودُمرت البيوت والمباني في قرى ومناطق واسعة وخاصة في الجنوب والضاحية الجنوبية لبيروت والبقاع, ورمى الإسرائيليون أكثر من أربع ملايين قنبلة عنقودية(11), لكنَّ مقاومة حزب الله صمدت, ومنعت الإسرائيليين من التقدم براً, وأوقعت بآلياته وجنوده خسائر كبيرة, لعلَّ أبرزها ما اصطلح عليه ب"محرقة الدبابات"(12) في منطقة وادي الحجير الجنوبية في 12/8/2006 , حيث تم تدمير أكثر من 39 دبابة وجرافة, وقتل ما يزيد على عشرين ضابطاً وجندياً إسرائيلياً وجرح أكثر من مئة وعشرة جنود, فانقلب ما أراده الإسرائيلي من تحقيق نصرٍ ما على الأرض قبل توقف "الأعمال العدائية" في 14 /8/2006 الساعة الثامنة صباحاً بناءً للقرار الدولي 1701 , إلى هزيمةٍ نكراء معنوية وميدانية, أضيفت إلى هزيمته في عدم قدرته على اقتحام بعض القرى الأمامية على الحدود مثل: بنت جبيل وعيتا الشعب والخيام وغيرها .
تميزت جبهة لبنان بالتماسك في مواجهة العدوان الإسرائيلي، حيث وقف الجيش اللبناني إلى جانب المقاومة وسقط له شهداء وجرحى، وضحَّى الناس في المناطق المستهدفة فتحملوا التهجير والمعاناة وعبروا عن وقوفهم مع المقاومة في أصعب الظروف، وتفاعل الناس في المناطق الأخرى مع المهجرين, فآووهم ومدوا يد العون إليهم من دون تمييز بين منطقة وأخرى، أو طائفة وأخرى، وعلى الرغم من صدور تصريحات من بعض السياسيين يحملون المقاومة مسؤولية وقوع العدوان، فإنَّها لم تؤثر على الصورة الوطنية العامة المتماسكة ضد العدوان الإسرائيلي.
نجح حزب الله في إفشال أهداف الحرب الإسرائيلية الثانية على لبنان, فلم يتحقق الهدفان الرئيسان اللذان أعلنهما رئيس وزراء الإسرائيلي أولمرت في اليوم السادس للعدوان, أمام الكنيست الإسرائيلي, كشرط لوقف إطلاق النار, وهما: "عودة الجنديين الإسرائيليين, وتنفيذ القرار الدولي 1559 بما في ذلك نزع سلاح حزب الله"(13). ولم يتحقق حلم وزير الدفاع عمير بيرتس الذي "هدَّد باجتياح لبنان"(14), ولا رئيس الأركان دان حالوتس "بتدمير صواريخ الحزب ومنعه من إطلاقها", حيث استمر إطلاقها على وتيرتها وقوتها إلى حين توقف "الأعمال العدائية" عند بدء تنفيذ القرار الدولي 1701. ولم تنجح رايس في اليوم التاسع للعدوان, عندما رفضت الدعوات المطالبة بوقف إطلاق النار, في تبرير بشاعة الاعتداءات على لبنان بأنها "آلام مخاض الشرق الأوسط الجديد في لبنان"(15), حيث لم يولد هذا الشرق الجديد من لبنان. فتحوَّل الحزب بعد هذا النصر الاستراتيجي المميّز الذي لم يحصل في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي, إلى قوة مميّزة وملهمة لشعوب المنطقة.
نجح حزب الله في إفشال أهداف العدوان، وارتدَّت نتائج الهزيمة داخل الكيان الإسرائيلي استقالات كثيرة أبرزها لرئيس الأركان "حالوتس" وعدد من قيادات الجيش، وفشل وزير الدفاع "عمير بيرتس" في تجديد رئاسته لحزب العمل، وأصدرت لجنة "فينوغراد" نتائج تحقيقاتها المليئة بعوامل التقصير والفشل سياسياً وعسكرياً وفي إدارة الجبهة الداخلية أثناء الحرب.
أحدثت إسرائيل أضراراً بالغة في عدوانها لمدة 33 يوماً على لبنان، شملت 120.000 وحدة سكنية مهدمة أو متضررة بينها 16.000 وحدة تهدمت بالكامل، قدَّرت الحكومة اللبنانية(16) مجموع كلفتها ما بين مليار و3 مليار دولار أمريكي، ومؤسسات اقتصادية ومزروعات ومواشي وطيور وآليات قدَّر المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق(17) قيمتها بحوالى 580.000 دولار أمريكي، عدا عن فقدان عدد كبير من العمال لوظائفهم، وقد رفعت الحكومة اللبنانية إلى مؤتمر "باريس3" تقريراً عن خسائر عدوان 2006 قدَّرتها بـ 2.8 مليار دولار، "تشمل تكلفة إعادة الاعمار، وإعادة بناء ترميم البنية التحتية الخاصة والعامة، واستبدال المنشأت المدمرة، والتعويض عن المساكن الخاصة التي تشكل الجزء الأكبر من الخسائر"(18)، وإن كانت إحصاءات حزب الله الخاصة تشير إلى أن التكلفة تبلغ حوالى 2 مليار دولار أمريكي.
سارع حزب الله إلى استيعاب آثار العدوان الاجتماعية، فباشر بتأمين المساعدات المالية لجميع المتضررين لتأمين وتجهيز مساكن مؤقتة بالإيجار بلغت قيمتها 168 مليون دولار، وذلك ريثما يتم ترميم أو بناء ما هدَّمته إسرائيل. كما كلَّف مؤسسة "جهاد البناء" التابعة للحزب بترميم الأقسام المشتركة للبيوت في الضاحية الجنوبية لبيروت، ودَفْع بدل التكلفة لترميم البيوت في البقاع والجنوب والضاحية وباقي المناطق اللبنانية، فبلغت القيمة الإجمالية 188 مليون دولار. وأنشأ شركة معمارية سمَّاها "وعد" لإعادة بناء الضاحية الجنوبية من بيروت, بما يستوعب 274 مبنى يشمل 6000 وحدة سكنية مهدمة كلياً، تمَّ تلزيمها لشركات كبرى متخصصة، وبذلك يكون الحزب قد فوَّت على المراهنين إيجاد أزمة للناس تنعكس على العلاقة بينهم وبين الحزب، وهذا ما فاجأ المراقبين والمراهنين.
لم يسترح حزب الله بعد 14 آب 2006 تاريخ توقف "الأعمال العدائية", بل درس الحرب ونتائجها, واستفاد الدروس والعبر من إيجابياتها وسلبياتها, وبدأ يرمِّم وضعه ويمتِّن قدرته, في ظل تعاطف شعبي واسع, وإقبال شبابي كبير للانضواء تحت لواء الحزب, وفي ظل تعاون واسعٍ مع قوى المعارضة اللبنانية بشكلٍ فعَّال .