سبيل الله

الإنسانُ والعقل

الإنسانُ والعقل

خلق الله تعالى الكون والحياة والإنسان، وأخضعَ هذا الخلق لنظامٍ دقيق وقوانين ثابتة، يشهدُ على ذلك كلُّ ما يحيط بنا، كدورةِ الأرض حول الشمس، وتعاقب الليل والنهار، ونظامِ الزوجية والتكاثر في كل المخلوقات الحيَّة، ومراحل تكوين الإنسان إلى اكتماله مخلوقاً في أحسن تقويم، ولا نحتاج إلى تحليلاتٍ ودراسات لإثبات خلق الله لمخلوقاته، فهذا واضحٌ بالوجدان، كالشمسِ التي لا تحتاج إلى دليل إضاءتها وهي تشعُّ علينا في كل يوم، ومع ذلك فإنَّ عقلنا يدلنا على الخالق جلَّ وعلا بقانون العلَّة والمعلول، أو السبب والمسبِّب، فالمخلوقات لها خالق، يدلُّ على ذلك المثال البسيط والعميق الذي أثبت من خلاله الاعرابي وجود الخالق من خلال مخلوقاته بقوله: "البعرة تدلُّ على البعير، وأثرُ الأقدام يدل على المسير، أفسماءٌ ذاتُ أبراج، وأرضٌ ذاتُ فجاج، لا تدلاَّن على اللطيف الخبير"(1).
يختلفُ الإنسان عن باقي المخلوقات بالعقل والاختيار، فالحيواناتُ غير عاقلة، وإنَّما تهتدي إلى تصرفاتها فطرياً بغرائزها، فلا إبداع عندها، ولا تبني حضارة أو مدنية، وإنما تكرِّر سلوك من سبقها منذ آلاف السنين من دون أي تعديل، فخلية النحل تتقن مملكتها وتنتج عسلها بطريقة منظمة ودقيقة، كما فطرها الله تعالى على ذلك من دون تعديل أو تطوير أو تجاوز للنمطية في أدائها، والعصافير تبني أعشاشها بهدي غرائزها التي أودعها الله تعالى فيها، فهي تتصرف بطريقة غريزية لا عقلية. أمَّا الإنسان فهو عاقلٌ، يفكِّرُ ويُبدع، ويُنشئ الحضارة والمدنية، ويطوِّر حياته، ويكتشف أسرارها ومفاتيح الضعف والقوة فيها، فهو يتصرَّف بما يمليه عليه عقلُه، أي بطريقة عقلية لا غريزية.
الطريقة الغريزية تُحاصِرُ الحيوانات في تلبيتها لحاجاتها العضوية المادية كالطعام والشراب، ومتطلبات غرائزها في إطار حب البقاء، ما يجعل اختيارها لمتطلبات هذه الحاجات والغرائز بأنماط متشابهة لكل جنس من أجناسها، بحيث تكون تصرفاتها آلية وروتينية محدَّدة.
أما الطريقة العقلية عند الإنسان، فهي تطبع حياته بدائرة واسعة من الخيارات، فيتحكَّم بكيفية تلبية حاجاته العضوية، بحيث يختار كمية ونوعية الطعام الذي يريده، ويتناوله بأساليب مختلفة، ويتحكَّم باندفاعه نحو غرائزه فيضع ضوابطها أو يطلق لها العنان، فهو مختارٌ فيما يفعل، ولا يتصرف آلياً أو روتينياً، وبهذا نلمس أثر الطريقة العقلية في التحكُّم بالاختيار.
ولا صحة لنظرية داروين عن أصل الأنواع في أنها مترابطة ومتسلسلة من بعضها، وأنَّها قد تطورت عبر الزمن إلى القرد ثم إلى الإنسان، فهو لم يثبت نظريته علمياً، وإنما رَسَمَ صوراً لمجموعة من الحيوانات ورتَّبها بتقارب أشكالها وصفاتها، ليستنتج بأن كل شكلٍ قد تطوَّر من الشكل الذي قبله، من دون أي دليل علمي يقيني على وجود هذا الترابط، لذا لم تتحوَّل هذه النظرية إلى حقيقة علمية أبداً، بل تُثبتُ الحقيقة العلمية وجود خصائص لكل مخلوق بشكل مستقل، كما كانت منذ بدء الخليقة، ولم يتطور إلى مخلوق آخر، فالدودة دودة، والعصفور عصفور، والقرد قرد، والإنسان إنسان. وقد أثبت العلم الحديث وجود الجينات الوراثية الثابتة والمستقرة، التي تحدِّد جنس المخلوق وتُميِّزه عن المخلوقات الأخرى، وكل الأبحاث الحديثة قائمة على رفض نظرية داروين، وأصالة واستقلالية وجود كل مخلوق بذاته.
خلق الله تعالى الإنسان على فطرة العقل والاختيار، "فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ"(2)، وأودع فيه قابلية توجيه حاجاته العضوية وغرائزه نحو الصلاح والسعادة الحقيقية، أو توجيهها نحو الفساد والشقاء، ولم يوجهه بطريقة آلية إلزامية في اختيار سلوكه في الحياة، فله خيارات الشكر والإيمان أو الكفران والشرك، قال تعالى: "إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً"(3).
لم يترك الله تعالى مخلوقه الإنساني للضياع، بل أرسل له الأنبياء والرسل ليبيِّنوا له الفروقات بين الصلاح والفساد، كي يتعرَّف الإنسان على الحقيقة المطلقة من خالقه الأعلم بما خلق، ثم يختار ويتحمَّل مسؤولية خياراته. هكذا أراد الله تعالى الحياة في هذا الكون، "هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ"(4)، فأوجد مخلوقات حيوانية تسيِّرها غرائزها، وأوجد مخلوقاً إنسانياً يختار بعقله ويتحمل مسؤوليته.
الإيمان بالله تعالى ، كخالق للحياة، وصاحب السلطة الوحيدة المطلقة على الكون والكائنات، قاسمٌ مشتركٌ في دعوة الأنبياء والرسل، وقد تنوَّعت وتعدَّدت رسالات الأنبياء بحسب حاجات البشر الذين أُرسلوا إليهم، وطرحت السبيل الأصلح لبناء العلاقات الثلاثة للإنسان: مع ربه ونفسه ومجتمعه، وكلمَّا ازداد النسلُ البشري وتقدَّم العقلُ الإنساني توسَّعت دائرة التشريع لتلبِّي متطلبات الإنسان في شؤونه المختلفة. وبما أنَّ الله الخالقَ واحدٌ أحد، "قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ "(5)، فالدِّينُ واحد، وسبيلُ الله تعالى واحد، وما رسالات الرسل والأنبياء إلاَّ خطواتٌ لهذا الدِّين، قال تعالى: "شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ"(6).
ختم الله الدينَ في مرحلته الأخيرة التي شملت الرسالات السماوية السابقة على يد محمد(ص)، فضمَّ منها ما أراد استمراره، وعدَّل ما أرد تغييره، وأتمَّه بما أوصله إلى كماله، قال تعالى:"الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً"(7).
أعلمنا الله تعالى في كل الرسالات السماوية بوجود الحياة الآخرة بعد الموت، حيث يجتمع كل البشر في يوم القيامة، ليحاسبهم على ما عملوه في الدنيا، فالله تعالى لم يخلق الحياة عبثاً، قال تعالى: "وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ"(8)، وهو العادل الذي يكافئ المحسن ويعاقب المسيء، قال تعالى:"قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُكْراً * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً"(9)، وهذا ما ينسجم مع الاختيار البشري، الذي يتطلب حوافزَ تشجيعٍ للصلاح وتحذيرٍ من الفساد، بتبيان ما يؤدي إليه كل منهما، فثواب الجنة للصالحين، وعقاب جهنم للفاسدين.
الإنسان مخيَّرٌ ومسؤول، وعليه أن يحسب نتائج أعماله وخياراته في الدنيا والآخرة، وبما أنَّ البداية ترتبط بالسبيل الذي يختاره، عليه أن يحسم خياره بين سبيل الله والسُبُل الأخرى، وأن يفهم أهدافها ونتائجها، فقد أعطاه الله تعالى العقل ليختار، فلا عُذر له إذا ما قلَّد آباءه وأجداده تقليداً أعمى، كما كان يحتج الضالون،"بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ"(10)، وعليه أن لا يتعصب بما يقف حاجزاً أمام فطرته التي تفتح أمامه الآفاق للاختيار، فالطريقان أمامه،"وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ"(11)، وباستطاعته أن يختار الطريق السليم، وأن لا ينساق مع أهوائه وغرائزه ولذَّاته التي تُسقطه في الهاوية، "وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً"(12).
على الإنسان أن يتأمل ويفكر، ماذا يريد؟
بالتأكيد ، يريد سعادة الدنيا وسعادة الآخرة، لكن كيف يحصل عليهما؟
هل يختار ما وصل إليه العقل البشري الناقص من مشروعٍ للحياة، أم ما أوحاه الله تعالى عبر أنبيائه
ورسله؟
هل يكون خياره إلهياً أو بشرياً؟
نحن لا نريد تبسيط طريق الحياة، لكنَّ الإجابة عن هذه الأسئلة تحسم البداية، ثم تأتي التفاصيل التي تحدِّد معالم الطريق.
الخيار الإلهي يعني اختيار سبيل الله، والخيارات الأخرى البشرية تعني سبيل غير الله. قد يعترض البعض على هذه الحدَّية في التصنيف، لكنَّ الواقع يؤكد بأنَّ البداية هي التي تحدِّد المسار والنهاية، فلنتفق على الخطوة الأولى، خطوة الاختيار الكبرى، خطوة الاعتقاد والمنطلق، هل نريد سبيل الله أم سبيل غير الله؟ فلنتابع معاً ما يوصلنا إليه كلُّ سبيل، ويتوضَّح لنا من خلال التفاصيل معنى هذا التقسيم بين السبيلين.
الهوامش:
1- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج66، ص: 134.
2- سورة الروم، الآية: 30.
3- سورة الإنسان، الآية: 3.
4- سورة غافر، الآية: 68.
5- سورة الإخلاص، الآية 1.
6- سورة الشورى، الآية: 13.
7- سورة المائدة، من الآية: 3.
8- سورة الدخان، الآية: 38.
9- سورة الكهف، الآيتان: 87 و 88.
10- سورة الزخرف، الآية: 22.
11- سورة البلد، الآية:10.
12- سورة الكهف، الآية: 28.