استخدمت أمريكا والغرب مصطلح الإرهاب كتهمة ضد كل من خالفهم سياسياً، بصرف النظر عن أحقية هذه القناعات والمنطلقات والأهداف، فساووا بين الجماعات التي تقتل الأبرياء وتفجر المؤسسات المدنية، وبين الذين يقامون الاحتلال في بلدهم بمواجهة الجنود المحتلين، ولم تفلح محاولات الدول العربية والإسلامية في استصدار تعريف دولي للإرهاب عن الأمم المتحدة، بل قدَّم الاتحاد الأوروبي صياغة تحمل في طياتها إضافة كل المعارضين لسياسته من دون تحديد دقيق للتمييز بين المقاومة والإرهاب.
استهدفت أمريكا والغرب المسلمين بمصطلح الإرهاب أكثر من غيرهم، لأنَّ الحراك السياسي في مناطق المسلمين أكثر حيوية، فالمشاكل التي تعصف بهم بسبب الأطماع الاستكبارية في بلدانهم كثيرة ومعقدة، والمحاولات الحثيثة للسيطرة الأجنبية على ثرواتهم وسياساتهم تتصدر اهتمامات الدول الكبرى، وهذا ما أدَّى إلى نمطين من المواجهة: النمط المقاوم المشروع الذي له أهداف تحريرية واستقلالية، والنمط الإرهابي الذي يعمل على نشر القتل والفوضى من دون قيود.
صنَّفت أمريكا والغرب المقاومة الفلسطينية للاحتلال الإسرائيلي إرهاباً، واعتبرت قتل الإسرائيليين للمدنيين الفلسطينيين دفاعاً عن النفس، وصنَّفت المقاومة اللبنانية ضد الاحتلال الإسرائيلي للبنان إرهاباً، وأعطت الحق لإسرائيل أن تقصف المدنيين وتجتاح لبنان بحجة الدفاع المشروع، وصنَّفت أمريكا المقاومة العراقية للاحتلال الأمريكي للعراق إرهاباً، ونظَّرت لاعتداءاتها العسكرية على المدنيين بمتطلبات المصلحة القومية الأمريكية والأمن العالمي. فالمقاومة للمحتل الأمريكي أو الصهيوني إرهابٌ في نظرهم، والاحتلال أمر مشروع بكل مستلزماته ونتائجه وآثاره المدَّمرة، بينما إذا عدنا إلى قواعد الحق ومقياس العدل من دون الخضوع لموازين القوى الدولية التي تفرض منطقها وشعاراتها، فإنَّ المقاومة للاحتلال أمر مشروع وحقٌ أصيل، بل هو واجب على كل من أُحتُلت أرضه، وأنَّ الإرهاب يتمثل بالاحتلال وكل أنواع العدوان والقتل للمدنيين الأبرياء، سواء صدر عن الدول أو عن المجموعات المسلحة، وبصرف النظر عن الخلفية الفكرية أو السياسية التي ينطلق منها هؤلاء.
لا توجد أي علاقة بين الإسلام والإرهاب المزعوم، فالإسلام دين الرحمة، "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ"(59)، ودين الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة،"ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ"(60)، ويتميز بأرقى أخلاقية في التعامل الاجتماعي، "وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ"(61)، وإنما كانت دعوته إلى الجهاد دفاعية، لحماية الفكر الإسلامي ومجتمع المسلمين من اعتداءات الكافرين والظالمين والمحتلين، ومن الذين يريدون فرض قيمهم بالقوة، وسلب خيرات المسلمين وأراضيهم بالسيطرة والاستعمار.
وكي تتضح الصورة، علينا أن لا نقرأ آيات الله تعالى مجزَّأة أو مُجتزأة، بل بتكامل يوضح لنا المعنى المقصود. قال تعالى: "وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَ عَلَى الظَّالِمِينَ"(62). فالتوجيه للمؤمنين بأن يقاتلوا الذين يقاتلونهم، أي أن يدافعوا عن أنفسهم وأعراضهم وأموالهم وأراضيهم ضد المعتدين، مع التأكيد على عدم الاعتداء لأنَّ الله لا يجب المعتدين، وإنما أمر الله بالقتال دفاعاً. وأمَّا قوله تعالى:" وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ " أي حيث وجدتموهم، فلأنَّهم متلبِّسون بالجرم المشهود، فهم معتدون، " وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ " لتستعيدوا حقوقكم، وهذا لن يتحقق إلاَّ بالقتال الشديد، فشدة البأس عند المؤمنين تهزم المعتدين، فإذا تعلَّق الأمر بحرمة القتال عند المسجد الحرام في الأشهر الأربعة الحُرُم، فبإمكانكم أن تتجاوزوا الحرمة إذا ما قاتلوكم، لأنَّ فتنتهم في الاعتداء عليكم أشد من رد فعلكم بالقتال. إنَّ الفصل بين الاعتداء والدفاع لا لُبس فيه، فالاعتداء مذمومٌ ومحرَّم والله لا يحب المعتدين، أما الدفاع فمشروعٌ وواجب وقد أمر الله تعالى المؤمنين به.
وأمَّا الحديث عن الغِلظة والشدة مع المعتدين، فمنسجم مع الأمر بالقتال، وضرورة إرعاب الأعداء ليرتدعوا، قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ"(63)، فالغلظة تُظهر جديَّة المؤمنين وتفانيهم لاسترداد حقوقهم، وتمنع تمادي الأعداء، وتجعلهم يعيدون النظر في عدوانهم أو توسعهم فيه. هذه الشدة لا تعبَّر عن نمطٍ في سلوك المؤمنين، فقد ميَّز الله تعالى بين علاقة المؤمنين مع الكافرين المعتدين، وبين علاقة المؤمنين مع بعضهم، قال تعالى: "مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ"(64)، أَمَرَهم بالشدة على الأعداء للوصول إلى نتيجة، برفع ظلمهم ومنعهم من تحقيق أهدافهم، وأَمَرَهم بالرحمة فيما بينهم، انسجاماً مع دين الرحمة، ووجوب إيجاد الألفة بين المؤمنين، وتعاضدهم في حياةٍ اجتماعية مستقيمة مستقرة.
الشدة في القتال لاسترداد الحقوق والأرض جهادٌ ومقاومة مشروعة وليست إرهاباً، أمَّا احتلال الأرض والاعتداء على الآمنين فهو إرهاب. وقد يكون الإرهاب من دولة أو مجموعة أو فرد، ولا يكون الاحتلال والظلم والعدوان إلاَّ إرهاباً ولو أُعطي غطاءً دولياً من القوى الكبرى أو مجلس الأمن. ومن الصعب التوصل إلى تعريف دولي واحد للإرهاب والمقاومة، ذلك أنَّ الخلافات الفكرية التي توَّلد الخلافات السياسية من ناحية، وخلافات المصالح الاقتصادية ورغبات السيطرة على الموارد البشرية والمواد الخام والأسواق الاستهلاكية من ناحية أخرى، ستؤدي إلى استمرار الاختلاف في التعريف بحسب موقع المعرِّف، فالمستكبرون والمستعمرون والمحتلون يواجهون من يعارض سياساتهم ومصالحهم بأنَّهم إرهابيون، والمستضعفون وأصحاب الأرض يواجهون المحتلين والمعتدين بأنَّهم مقاومون. فالتوصيف بالإرهاب جزء من الحملة الدعائية للمتسلطين في هذا العالم لإضفاء المشروعية على أعمالهم، بمحاصرة المقاومين ضمن توصيف الإرهاب المذموم، ولا خلاف منطقي بين الجميع في رفض الإرهاب المتمثل بالاعتداء على الآمنين، وتفجير الأسواق والحافلات، وقتل النساء والأطفال، ومع ذلك فإنَّ المستكبرين يستثمرون هذه الصورة الإرهابية القاتمة، ليتهموا المقاومة بأنَّها من سنخيتها، مع أنَّها في كثير من الأحيان من صنع أياديهم وأيادي عملائهم، وذلك تبريراً لعدوانهم وفرض مشاريعهم السياسية على العالم المستضعف.