ينظر الإنسان في كثير من الأحيان إلى الجانب السلبي من الابتلاءات والامتحان، فيرى الدنيا قاتمة، والابتلاءات خسارة، ذلك لأنه لا ينظر إلى الجوانب الأخرى من حياته، والتي تملؤها النِعَم، إذ كل ما يحيط بالإنسان نعمة إلهية، فخلْقُهُ من نطفةٍ نعمة، وحياتُه الدنيوية نعمة، وبصره نعمة، وعقله نعمة، وماء شربه وخدمته نعمة، وغذاؤه نعمة، وما سُخِّر له من الأرض والسماء نعمة... بحيث لا يمكن إحصاء نِعَمِ الله تعالى، قال تعالى: "وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ "(128). ومن دعاء الإمام زين العابدين(ع) إذا قرأ قوله تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا ، يقول:"سبحان من لم يجعل في أحدٍ من معرفةِ نِعَمِه إلاَّ المعرفة بالتقصير عن معرفتها، كما لم يجعل في أحدٍ من معرفةِ إدراكه أكثر من العلم بأنَّه لا يدركه، فشكَرَ عزَّ وجل معرفة العارفين بالتقصير عن معرفته، وجعَلَ معرفتهم بالتقصير شكراً، كما جعل علم العالمين أنهم لا يدركونه إيماناً، علماً منه أنَّه قدرُ وُسْع العباد، فلا يجاوزون ذلك"(129). فالإنسان يعرف أنَّ نِعَمَ الله كثيرة، لكنَّه لا يعرفها كلها، بل لا يعرف الكثير منها، بل لا يحصي أقل من ذلك، ومن رحمة الله تعالى بالعباد، أنَّه يكتفي منهم بتقصيرهم عن معرفتها، واعترافهم بذلك، فهذا هو الشكر لله تعالى من العبد القاصر، الذي آمن بربٍ لا يراه، لطيفٍ بعباده وخبيرٍ بهم: "لاَ تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ"(130).
من ذا الذي يمكنه إحصاء نِعَم الله تعالى غيره عزَّ وجل؟ من ذا الذي يمكنه التعرُّف على الآيات الدَّالة على الله تعالى غيرُه جلَّ وعلا؟ إنَّ ما نراه من الكون قليلٌ قليل، وما نراه من أنفسنا قليل قليل، وما اكتشفه البشر من الكون والحياة والإنسان قليلٌ قليل، قال تعالى: "سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ"(131). وفي كل يوم يكتشف الإنسان شيئاً جديداً معتقداً أنه وصل إلى أدراك حقيقته، ثم يتبيَّن له أنَّه في بداية الطريق، وما خفي أعظم وأروع. كلما أدرك الإنسان باباً من العلم بأسرار الخلق والحياة فُتحت له أبوابٌ لا حصر لها، في إطار نظامٍ دقيقٍ تحكمه قوانين ثابتة، نتلمَّس من خلالها مسارات واضحة في الحياة، ومن توفَّق ليتَّبع هذه القوانين بما يهديه إلى صلاحه في نتائج أعماله، سلك درب الإيمان متفانياً في سبيل الله تعالى.
تحيط بنا النِعَمُ من كل جانب، وكما نقل كميل بن زياد عن أمير المؤمنين علي(ع): "يا كُميل، إنَّه لا تخلو من نعمة الله عزَّ وجل عندك وعافيته، فلا تَخْلُ من تحميده وتمجيده وتسبيحه وتقديسه وشكرِه وذكرِه على كل حال"(132)، وإذا ما كان يكفي أن تتحقَّق بعض النعم ليكون الإنسان شاكراً على كل حال، فكيف يكون حاله وقد أحاطت به النعم التي يعجز عن إحصائها؟ يألف الكثيرون ما هم عليه من النعم فلا يلتفتون إليها، ولا يتساءلون عن سببها ومسبِّبها! فهم وجدوا أنفسهم يبصرون ويلمسون ويشعرون ويفكرون ويسيرون ويتزوجون من دون تأملٍ وسؤالٍ عن المنعم؟! ووجدوا أنفسهم يتعلمون ويُرزقون ويبنون حضارتهم ويأنسون في حياتهم من دون حوارٍ مع النفس حول المنعم؟!
أعطانا الله تعالى بعض النعم تامة كاملة، وأعظمها وأشملها نعمة الإيمان والولاية، هكذا حدثنا عنها رب العالمين فقال: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً"(133)، وحدثنا عنها رسول الله(ص) فقال: "من أمسى وأصبح وعنده ثلاث فقد تمَّت عليه النعمة في الدنيا: من أصبح وأمسى معافىً في بدنه، آمناً في سربه(طريقه)، عنده قوت يومه. فإن كانت عنده الرابعة، فقد تمَّت عليه النعمة في الدنيا والآخرة، وهو الإيمان"(134). فمن أراد الاعتراف الحقيقي بنِعَمِ الله تعالى، وأراد أن يشكره عليها، فليزيِّنها بنعمة الإيمان، فهي رأس استثمار عطاءات الله تعالى، ومنها يمتدُّ الشكر إلى كل شيء، وتتحقَّق الطاعة والاستقامة في كل شيء، فالإيمان مسارٌ مليء بالخيرات.
في الرواية، أن أحد أنبياء الله تعالى سمع عن إنسانٍ مؤمنٍ صابرٍ شاكرٍ رغم الابتلاءات الكثيرة التي أصابته، فقصد النبي القرية التي يعيش فيها، وسأل عنه فتعرَّف عليه، وإذ به أمام رجلٍ كفيفٍ لا يُبصر، ومُقعدٍ لا يمشي على رجليه، وفي حالة يُرثى لها، ومع ذلك يردِّد على الدوام:"الحمد لله"، "الشكر لله"، "العون من الله"، "العطاء من الله"، ويدل ظاهره على حالةِ شكرٍ دائمة لله تعالى، فسأله النبي إن كان يشعر بالحرج والضيق والمعاناة مما هو فيه، فما كان منه إلاَّ أن أجابَهُ بأنَّه راضٍ بقضاء الله تعالى، وليس له إلاَّ الشكر، فقد أعطاه الله يوماً بصراً رأى فيه الأشياء، فلما وجد أنَّ هذا البصر يوصله إلى الحرام، حرمه من هذه النعمة، وأعطاه قدمين ليسير بهما، فلما وجد مصلحته في حرمانه منهما، سلب منه نعمة السير، وأبدَلَ عن كل ذلك بخيرٍ كثير ونعمةٍ كبرى لم يصل إليها الكثيرون في قريته، وهنا تشوَّق النبي لمعرفة هذه النعمة، فسأله عنها، فأجابه: نعمة الإيمان. هكذا استطاع هذا الرجل من خلال إيمانه وثقته بالله تعالى أن يحوِّل بلاء السوء في عُرف الناس إلى بلاءٍ حسن، وبما أنَّه صَبَر، ورضي، ثم شكر، فقد نجح في الاختبار.