القرآن منهج هداية

رصيد التجربة

رصيد التجربة

بيَّن القرآن تجربة المسلمين مع رسول الله (ص)، وعَرَضَها كما هي، مُبرزاً إيجابياتها وسلبياتها، وعندما نقارن بين التوجيهات الإسلامية للناس وعظمة هذا الدين من ناحية، وسلوك بعض المسلمين ومن تواجد بينهم من المنافقين من ناحية أخرى، فسنجد مفارقة شاسعة بين النظرية والتطبيق، على الرغم من وجود رسول الله (ص) بينهم، في المقابل نجد الثُّلَّة المميَّزة من المؤمنين الرساليين، الذين قدَّموا نموذجاً تطبيقياً للتعاليم الإسلامية ، وأثبتوا أهليتَهم وقابلية الإسلام للتطبيق في الحياة.
ورُبَّ متسائل: لماذا عرض لنا القرآن هذه التفاصيل المؤلمة من حياة وتاريخ المسلمين؟ يتبيَّن الجواب بدقة من طيَّات الأحداث، فالله تعالى لا يريد أن يعرض علينا الجانب المشرق النموذجي والمثالي من حياة المسلمين، إنما يريد أن يضعنا أمام الأمر الواقع بحُلْوه ومُرِّه، إنَّه يعرض علينا الطبيعة البشرية ومستويات الناس في التفاعل مع هذا الدين، إذ أنَّه في كل المنهجية القرآنية سواء بالنسبة لما جرى مع المسلمين أو مع الأمم السابقة أو في التعاليم التي أمرنا بها، يبيِّن لنا حقائق الأمور مهما كانت صعبة وشاقة لنكون على بيِّنةٍ من أمرنا، ولتتضح معالم الطريق من أوَّلها إلى آخرها، ولنعيش تطبيق الإسلام بواقعية لا تصدِمنا، ولنُخرجَ الصورة المثالية من أذهاننا، فلا نصطدم بالوقائع والعقبات في أي مرحلة من المراحل.
إنَّ عرض التجربة بكل أبعادها ينبِّهنا إلى ما يمكن أن يصيب المجتمع الإسلامي والفرد المسلم، وفي أحسن الظروف مع وجود رسول الله (ص)، فكيف بغيابه؟ إنَّها تضعنا أمام خياراتٍ قد نتعرَّضُ لها لننتبه إلى عدم كفاية الانتماء إلى الإسلام في الحصول على البراءة التي تجعلنا في عداد المقبولين، ولتُظهر لنا صعوبات التجربة في بدايتها، مع تحدياتها الكبرى في مكة المكرمة، وكيف مُحِّصَ المسلمون، وصبروا على الأذى، وهاجروا ولم يحملوا السلاح دفاعاً عن أنفسهم، وبعد ذلك في المدينة، وكيف واجهوا المشركين والأحزاب مع وجود التقلبات في واقع المسلمين، وما انتهت إليه الأمور من دخول الناس في دين الله أفواجاً بعد فتح مكة، وما يعنيه هذا الأمر من وجودِ عددٍ كبير ممن انتسبوا إلى الإسلام ولم يعيشوه في حياتهم، وإنما تأثروا بالأجواء العامَّة التي لم تتجذَّر في نفوسهم.
هذه التجربة الغنية تعلِّمُنا وتنبهنا وتجعلنا واقعيين في التعاطي مع مجتمع المسلمين، فها نحن أمام تجربتين من القتال مع الأعداء، تجربة بدر حيث الإيمان في أرقى مستوياته مع بروز التماسك بين المسلمين والحماسة في مواجهة الكافرين، والشجاعة في سبيل الله تعالى، والاطمئنان إلى وعد الله تعالى بالنصر، والانضباط مع القائد الرسول(ص)، ليتحقق النصر للضعف على القوة: "وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ"(19)، هذا النصر لم يكن معزولاً عن الدعم والتسديد الإلهي، "فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاَءً حَسَناً إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ"(20).
ثم اختلف حالُ المؤمنين في أُحُد عن بدر, ففيما تميَّزوا بإيمانهم في معركة بدر, فكان الواحد منهم بعشرة من المشركين في القوة والشجاعة: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ"(21), أصبح الواحد منهم بإثنين في معركة أُحُد, بسبب ما دخل في نفوسهم من حب الدنيا, ورغبتهم في تحصيل الغنائم, والتراجع في مستوى إيمانهم واندفاعهم نحو التضحية: "الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ"(21ب).
ويعرض لنا القرآن تجربة أخرى في غزوة تبوك ، هذه الغزوة الصعبة والحساسة ، حيث قسَّم المسلمين إلى أربعة أقسام:
1- من تخلَّف عن الغزوة لعدم قدرته على ذلك، وهم المرضى والأطفال والنساء، إذ ليس عليهم تكليف بالقتال، وهؤلاء معذورون، إضافة إلى الذين لا يملكون قدرة التجهيز للمعركة، ومن الطبيعي أن يكونوا موجودين في مجتمع المسلمين، "لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا للهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَ يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ"(22).
2- من تخلَّف عن الغزوة وهو وقادرٌ على المشاركة فيها مالياً وجسدياً، لكنَّه متعلقٌ بالحياة الدنيا، ويتهرَّب من القيام بتكليفه الشرعي، هؤلاء مأثومون لأنهم منافقون انكشفوا في لحظة الشدة، "إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ"(23).
3- من تخلَّف عن الغزوة وهو وقادرٌ على المشاركة فيها مالياً وجسدياً، ولكنَّه استسلم للحظةِ ضعفٍ ثم استدرك بعد ذلك بالتوبة إلى الله تعالى، والاستغفار على ما فرَّط في القيام بالمسؤولية، وهو صادق اللهجة في توبته، "وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ"(24).
4- الفئةُ المؤمنةُ المجاهدة المضحِّية، التي لا تتوانى عن القيام بواجبها، بل تندفعُ لتعطي كل ما عندها من النفس والمال، غير آبهةٍ بحطام الدنيا، إنَّها الفئةُ التي انتصرت بإيمانها وحقَّقت المجدَ للمسلمين: "لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ"(25).
هذه الحالات الأربعة قابلةٌ للتكرار، وهذه النماذج موجودةٌ في المجتمع الإسلامي في كل حين، وبحسب قوة وكثرة أي فئة من الفئات تكون النتيجة، فإذا سيطرت فئةُ المؤمنين وكانت تمثل الأغلبية المؤثرة نجح المسلمون، وإذا سيطرت فئة المتخلفين والمنافقين أُصيبَ المسلمون بانتكاسةٍ حقيقية على مستوى طرح المشروع الإسلامي وتطبيقه، ليس في المعركة فحسب، بل في تقديم نموذج التجربة في الحكم، وفي العلاقات الاجتماعية، وفي حياة الأفراد. إنَّها تجربةٌ للاستفادة والاعتبار والواقعية في النظرة إلى الأمور.