قال تعالى: "إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ"(32). لا يوجد تعبير أبلغ من كلمة اشترى كتسليمٍ مطلق للمشتري وهو الله تعالى، حيث يشمل هذا التسليم النفسَ والمال، وهو قمة التفاعل مع الله، والتخلي عن الدنيا، والذوبان في الأمر الإلهي، وإزالة جميع الحواجز التي تعيق العطاء والتضحية في سبيل الله تعالى. في المقابل لا يوجد أي وعد دنيوي مباشر بضمان عدم الموت، "فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ" ولا بضمان الانتصار على الأعداء على كل حال، ولكنَّ المؤكد هو الفوز العظيم الحقيقي بأنَّ "لَهُمُ الْجَنَّةَ". وهذه القاعدة تنطلق من تربية الإنسان على حالةٍ من السمو، يستسهلُ معها كل الصعوبات، ويؤدي معها كل الأوامر، وينتهي عن كل المحرمات، وذلك باسترسالٍ طبيعيٍ كخطٍ متأصِّل في هذه الشخصية، التي وصلت إلى مرحلة البيع لله تعالى.
إنَّ الوصول إلى هذا المستوى هدفٌ بحدِّ ذاته، فالكثيرُ من المشاكل تُحلُّ معه، والكثير من المعيقات تسقط معه. ومهما اقتربنا من الرقي النفسي والعملي، فإنَّ الأرقى هو الوصول إلى حالة التفاني في سبيل الله، وهي حالةٌ لا ترتبط بمعركةٍ قائمةٍ فقط ، بل تؤسسُ لتربيةٍ تهيء صاحبها لأي معركةٍ محتملة، أو لروحيةٍ حاضرةٍ لكل أنواع التضحيات، حتى ولو لم يصل الأمر إلى معركةٍ عسكرية مع العدو. إنَّها حالةٌ روحيةٌ قادرةٌ على التعالي، والإستخفاف بملذات الدنيا ومغرياتها، وهي متماهيةٌ مع سعادةٍ يعيشها المؤمن في كل لحظة من لحظات العطاء، ومصاحبةٌ للاطمئنان والارتياح، بحيث لا تجد معها أي مرارةٍ أو إحباطٍ أو يأس.
إنَّ الدعوة إلى الجهاد في سبيل الله هي استنفاذ ما في الوسع بإطلاقٍ لا تَحُدُّهُ الاَّ قدرة الإنسان، فالأمر يعود إلى قراره والتزامه، بحيث تتجاوز مسؤوليتُه حدودَ تكليفه الفردي العملي ليكون شاهداً على الناس، هذه المسؤولية غير محصورة بجانب دون آخر، فجاهدوا أنفسكم، وجاهدوا في معاملاتكم، وجاهدوا أعداء الله، وجاهدوا الظلم والانحراف، وجاهدوا من أجل إعلاءِ كلمة الحق وإعزاز الأمة، وجاهدوا لآخرتكم... "وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ"(46).