القرآن منهج هداية

الوسطية

الوسطية

الوسطيةُ حالةٌ بين الافراط والتفريط، بين الحرمان والإباحة، بين التقتير والإسراف، هي حالةُ التوازن في السلوك والعمل، بما لا ينحرفُ يميناً او يساراً، وإنَّما يكون على الجادَّة المستقيمة، التي تُعطي لكلِّ شيء حقَّهُ وحاجتَهُ، من دون زيادةٍ أو نقصان. وهي ليست تسويةً بين الحق والباطل، أو بين الخير والشّر، إنما هي التوازن في طريق الحق والخير.
قال تعالى: "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً"(246). فالأمةُ الوسط تشهد على الناس وعلى الأمم يوم القيامة، بأنَّها بلَّغت رسالة الله تعالى وعملت بمضمونها، وبيَّنت الحق وعملت له، وأعطت التجربة النموذجية في طاعة الله تعالى، ومع ذلك أنكرها الكافرون. والرسول(ص) يشهدُ على الأمَّة، بأنَّه بلَّغها الرسالة الكاملة، وقدَّم تجربةً غنيةً في مجالات الحياة المختلفة، الفردية والاجتماعية، وعلى مستوى الذات وإقامة الدولة ... فمن انحرف سيتحمَّل مسؤوليته في عدم اتِّباع الرسول(ص). الأمةُ الوسط هي التي سلكت نهج القرآن فاستقامت، وأطاعت الله تعالى، ولم تتبِّع الهوى الذي يَحرف ويُضل.
الوسطيةُ حالةُ الاستقامة بين حدِّين منحرفين، حيث يمكن ملاحظتها في كل شيء، ومن نماذجها:
أ-الطعام والشراب: "وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ"(247)، فلكل شيءٍ حدود مناسبة، وكذلك الطعام والشراب، فمع زيادتهما بالإسراف، يُصاب الإنسان بالتخمة والكسل والأمراض، ومع الحرمان منهما يُصاب بالوهن والضعف والضرر، أمَّا التوازن فيُعطي الجسد حقه منهما، وهذا ما ينعكس على الصحة والنشاط والعمل والبناء الروحي...
ب- استخدام الإمكانات: ضع كلَّ أمرٍ موضعه، فلا تضيِّق على نفسك، ولا تُطلق لها العنان من غير حساب، وإنَّما تصرَّف بالحدود التي تمكِّنكَ من استخدام قدراتك في محلِّها، لتستثمرها بالشكل الأفضل، "وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً"(248). فإذا كان بيدك المال أو السلطة أو القدرة...فتَوَازَنْ في استخدامها، وإلاَّ أصابتك الحسرة بسوء التصرف. سواءً جعلت يدك مغلولة أو جعلتها مبسوطة، فالأعتدال هو الذي يريحك، ويحقق لك ربح الدنيا والآخرة.
ج- الإنفاق: كيفيةُ إنفاق المال مؤشرٌ على التوازن أو عدمه، وهو جزءٌ من حياة كل إنسان، فالإسراف شططٌ واستهتارٌ وتفريطٌ بنعمة الله تعالى، والتقتير بخلٌ وحرمانٌ ومنعٌ للإستفادة من نعمة الله تعالى، وفي الحالتين يتحمل الإنسان المسؤولية، لأنَّه أمينٌ على المال، وليس حراً في التصرف به كما يشاء من دون حسيبٍ أو رقيب، بل عليه أن يكون معتدلاً في إنفاقه، يتصرف باستقامةٍ في الحد الوسطي بين الإسراف والتقتير، "وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً"(249).
د- دفع الظلم: لا يحق للمظلوم أن يتجاوز حدَّه، وله أن يأخذ حقَّه بحدوده، فلو قُتِلَ أحدهم ظلماً وعدواناً فلوليِّه أن يقتله من دون إسراف، "وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً"(أ)، أي يقتله من دون تمثيلٍ بالجثة، ومن دون تعذيب يسبق القتل، وبحدود الرَّد بالمِثل، ولا يتحمل أي فرد من عائلته مسؤولية ظلمه، وقد أوصى أمير المؤمنين علي(ع) بعد ضربة ابن ملجم له، مخاطباً بني عبد المطلب: "يا بني عبد المطلب، لا ألفينَّكم تخوضونَ دماءَ المسلمين خوضاً، تقولون قُتل أميرالمؤمنين، ألا لا تقتلنَّ بي إلاَّ قاتلي، انظروا إذا أنا متُّ من ضربتي هذه، فاضربوه ضربةً بضربة، ولا يُمَثَّل بالرجل، فإنِّي سمعتُ رسول الله(ص) يقول: "إيَّاكم والمُثلَةَ ولو بالكلب العَقُور"(250).