القرآن منهج هداية

الفصل الأول: المعجزة الخالدة

الفصل الأول: المعجزة الخالدة

1- الإعجاز والتحدي.
اختار الله تعالى إرسال الأنبياء والرسل(عم) إلى الناس لهدايتهم، وتبليغهم بخطوات طريق الحياة السعيدة على الأرض، وتعريفهم على طبيعة حياتهم الدنيوية المؤقتة، ومآلهم إلى يوم الحساب في الآخرة، ولكن كيف يقتنع الناس بأنَّ هذا الإنسانَ مُرسلٌ من عند الله جلَّ وعلا؟
هنا تأتي المعجزة لإثبات صدق النبوة، فالمعجزة عملٌ خارج عن المألوف والقوانين المتاحة، وتتجاوز طاقة البشر، ما يعطيها صلاحيةَ إقناع الناس بأنَّ ما حصل هو من عند الله تعالى، وأنَّ مُجري المعجزة هو الله تعالى على يد نبيِّه، وهذا ما عبَّر عنه القرآن الكريم: "وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَ بِإِذْنِ اللهِ"(1).
وعن المعجزات التي أتى بها نبيُ الله عيسى(ع) بخلق الطير، وإبراءِ الأَكْمَهِ والأبرص، وإحياءِ الموتى، والإِنباء بالغيب، يُبيِّن لنا القرآن الكريم أنَّها بإذن الله تعالى: "وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ"(2).
وقد تنوعت المعجزاتُ باختلاف الأقوام والأزمان، فكانت لكلِّ نبي معجزة مؤثرة، تنسجم مع اهتمامات الناس في ذاك الزمان، وتتفوَّق على انجازاتهم، وتتجاوز أفضل قدراتهم. فمعجزة النبي موسى(ع) العصا التي ابتلعت ما صنعوه من السحر، "وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى"(3). ومعجزة النبي عيسى(ع) إحياء الموتى وإبراء المرضى بما يتفوق على اشهر أطباء ذلك الزمان. ومعجزة النبي محمد(ص) الرئيسة القرآن الكريمُ, الذي تفوَّق على بلاغة العرب ومعلَّقاتهم الشعرية على الكعبة الشريفة، بما يُبيِّن المصدر غير البشري للقرآن، وأنَّه كتابٌ من عند الله تعالى.
"سأل ابن السكيت الرضا(ع): لماذا بعثَ الله موسى بن عمران(ع) بالعصا, ويدِهِ البيضاء, وآلةِ السحر؟ وبعثَ عيسى(ع) بآلةِ الطب؟ وبعثَ محمداً(ص) بالكلام والخطب؟
فقال أبو الحسن(ع): إنَّ الله لما بعثَ موسى(ع), كان الغالب على أهل عصره السِّحر، فأتاهم مِنْ عند الله بما لم يكن في وسعهم مثله، وما أبطلَ به سحرَهُم، وأثبتَ به الحجةَ عليهم. وإنَّ الله بعثَ عيسى(ع), في وقتٍ قد ظهرت فيه الزمانات*, واحتاج الناسُ إلى الطب، فأتاهم من عند الله بما لم يكن عندهم مثله، وبما أحيا لهمُ الموتى، وأبرأ الأَكْمَهَ والأبرصَ بإذن الله، وأثبتَ به الحجة عليهم. وإنَّ الله بعث محمداً(ص) في وقتٍ كان الغالب على أهل عصره الخطب والكلام - وأظنه قال: الشعر - فأتاهم من عند الله مِنْ مواعِظِهِ وحِكَمِهِ ما أبطَلَ به قولَهُم، وأثبتَ به الحجة عليهم"(4).
من الطبيعي أن يتأثر البعضُ بالمعجزة فيؤمنون بالله الخالق المُرسل للنبي، وأن يعترض البعض الآخر مُتَحَدِّين المعجزة في محاولة منهم لإثبات عجزها وعجز حاملها، لذا لا بدَّ من اكتمال مشهد المعجزة بالتحدي، الذي يكون من سنخية المعجزة، وبما أنَّ القرآن الكريم هو المعجزة الأساس للرسول محمد(ص)، فقد تحدَّاهم بأن يأتوا بمثل القرآن ولو بجمع الأنس والجن، أو حشد طاقاتهم وإمكاناتهم لهذا الغرض، قال تعالى: "قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً"(5)، بل تحدَّاهم بأقل من ذلك بكثير، فليأتوا بسورةٍ من مثل القرآن، قال تعالى: "وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءكُمْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ"(6).
2- معجزة القرآن الكريم.
تتجاوزُ معجزةُ القرآن الكريم اللغة بفصاحتها وبلاغتها، إلى كونه معجزةً بكل ما تضمَّنه، وكما قال العلامة الطباطبائي(قده): "فالقرآنُ آيةٌ للبليغ في بلاغته وفصاحته، وللحكيم في حِكمتِه، وللعالم في عِلمِه, وللاجتماعي في اجتماعه، وللمقنِّنين في تقنينهم, وللسياسيين في سياستهم، وللحكام في حكومتهم، ولجميع العالمين فيما لا ينالونه جميعا, كالغيب والاختلاف في الحكم والعلم والبيان"(7).
ولا حدَّ لإعجاز القرآن الكريم، فهو عابرٌ للزمان والمكان بإعجازه، وممتدٌ إلى جميع الإنس والجن، وهو من كلمات الله تعالى التي لا تنفد، بحيث تفتح آفاق الإنسان على الكثير الكثير إلى ما لا نهاية، "وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ"(8).
وهو المعجزة الخالدة الباقية إلى يوم القيامة بإرادة الله تعالى محفوظة ومصانة، قال تعالى: "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ"(9)، وهو آخر الكتب السماوية على هذه المعمورة، والنبي محمد(ص) خاتم الأنبياء، "مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً"(10)، وحيث أنَّ رسالة الإسلام تامةٌ وكاملة، فبقاءُ المعجزة وخلودها يساعد على تحقيق هدف إلقاء الحجة على جميع الناس وهدايتهم، وتساعد عقولهم على الإيمان، وقد حفظها الله تعالى من التحريف والضياع والتغاير, ليبقى تأثيرها بعد غياب النبي محمد(ص) إلى يوم القيامة. أمَّا معاجزه الأخرى فقد حدثت في وقتها، وشهدها الناس آنذاك.
تتجاوز الرسالة الإسلامية المكان والزمان، فهي ليست مختصة بشبه الجزيرة العربية، وإن انطلقت منها، وليست مختصة بزمان نبوة محمد(ص) بل تمتد عبر الأزمنة إلى يوم القيامة، فالإسلام رحمة للعالمين، وما حمله النبي الأكرم(ص) هو للعالمين، "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ"(13)، وقال تعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ"(14)، فالقرآن الكريم أساس العقيدة والشريعة متجاوزٌ للمكان وممتدٌ عبر الزمان، وفيه كل ما يحتاجه الإنسان في حياته، فلا يحتاج معه إلى كتاب آخر، أو قواعد أخرى، فقد أنزله الله تعالى تبياناً لكل شيء، "وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاَءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ"(15) فلا نقص فيه لما يحتاجه البشر، "مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ"(16).
القرآن الكريم وحيُ الله تعالى لمحمد(ص): "وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلاَ وَحْيٌ يُوحَى"(17).
ليس فيه خللٌ ولا نقص، "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ"(18).
وهو يمثِّل القول الحاسم والموقفَ الحق، "إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ"(19).
ولو كان افتراء على الله تعالى، لكان بإمكان أي شخص أن يأتي بسورة من مثله، "أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ"(20).
ولو كان من عند غير الله تعالى لوجدوا فيه الاختلاف والتفاوت، "أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً"(21).
الهوامش
1- سورة غافر، من الآية: 78.
2- سورة آل عمران، الآية: 49.
3- سورة طه، الآية: 69.
4- الشيخ الكليني, الكافي, ج 1, ص: 24و25./ * الزمانات: الامراض التي يطول زمان استمرارها كالفالج.
5- سورة الإسراء، الآية: 88.
6- سورة البقرة، الآيتان: 23 و 24.
7- السيد الطباطبائي, تفسير الميزان, ج 1, ص: 60.
8- سورة لقمان، الآية: 27.
9- سورة الحجر، الآية: 9.
10- سورة الأحزاب، الآية: 40.
13- سورة الأنبياء، الآية: 107.
14- سورة سبأ، الآية: 28.
15- سورة النحل، الآية: 89.
16- سورة الأنعام، من الآية: 38.
17- سورة النجم، الآيات: 1-4.
18- سورة فصلت، الآيتان: 41 و 42.
19- سورة الطارق، الآيتان: 13 و 14..
20- سورة يونس، الآية: 38.
21- سورة النساء، الآية: 82.

3- الاشارات العلمية في القرآن.
تضمَّنَ القرآن الكريم اشاراتٍ كثيرة عن أسرار الخلق, التي لم تكن مفهومة ببعض تفاصيلها كما هو الحالُ اليوم, وهي دلائلُ اضافية على أن القرآن من عند الله تعالى, الخالق العالم بكل شيء. ومع ذلك فانَّنا نُسمِّيها اشارات علمية لأنَّها لم تكن هدفاً للوحي, فالوحيُ لهداية الانسان, وانما تساعد هذه الاشارات في ابراز عظمة الخالق, وتأكيد الاعجاز والتحدي القرآني.
يكفينا وجود القرآن وما تضمَّنه كدليل قوي على اعجازه, ولكنَّنا نورد بعض الآيات التي فيها اشارات علمية للاطلاع:
1. قال تعالى: "فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ" (الأنعام:125). أثبت العلم الحديث أنَّ الاوكسيجين يقلُّ كلما ارتفع الانسان الى السماء, ما يؤدي الى ضيق التنفس والاختناق, فوصف جلَّ وعلا الضَّال بأنَّه يعيش حالة اختناق بسبب ضلاله, كما يضيق التنفس عند الصعود الى السماء, وهذا ما لم يكن معروفاً في زمن الدعوة إلى الإسلام.
2. وقال تعالى: "هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً" (يونس:5). الشمسُ مصدرُ الضوء, الذي ينتج عن الانفجارات الهائلة التي تحصل فيها, والقمر كالارض, كوكبٌ لا ينبعث من داخله النور, وإنما نرى القمر منيراً بسبب انعكاس ضوء الشمس على صفحة القمر، فمن أين لأحدٍ من الناس أن يعلم هذا السر الكوني في ذلك الزمن الغابر؟.
3. وقال تعالى: "اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ" (الرعد:2). كيف لا تَسقُطُ الكواكب والنجوم على الارض؟ ومن الذي يُمسك السماء وما فيها أن تقع على الارض؟ إنَّه نظامُ الجاذبية الذي يغني عن الاعمدة المادية من الحجارة أو ما شاكلها, ونحن لا نرى هذه القوة الجاذبية التي تربط بين السماء والارض, ولم يكن للقدماء تفسيرٌ لهذا الربط, سوى انَّه خَلْقُ الله جلَّ علا.
4. وقال تعالى: "وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا" (النازعات:30). الارضُ تدور حول نفسها, وتدور حول الشمس, وتسير مسرعة, وهي بيضاوية الشكل, هذا ما اكتشفه العلم الحديث، ومع ذلك نسير عليها وكأنَّها مسطَّحة, وهذا هو دحو الارض وبسطها, بما يحيط بها من جاذبية وغير ذلك, فسبحان من هيأها لنعيش عليها من دون أن نشعر بشكلها أو أن نتأثر بسرعة سيرها.
5. وقال تعالى: "وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ" (النحل:15). ثبتَ أنَّ الجبال موزَّعةٌ بتوازنٍ يساعد على تماسك الارض, وبذلك يتناغم موقعها مع الانهار والبحار وتوزيعها, ومع الجاذبية وانعكاساتها, وهذا ما لم يكن معلوماً لأهل مكة ولا لأي مخلوق في العالم, فلو لم يكن القرآن من عند الله تعالى, لما ذُكِرت هذه الخصوصية للجبال.
القرآن حافلٌ بمثل هذه الاشارات التي اكتشف العلم الحديث بعضها, والذي لم ولن يكتشف الكثير من الاسرار الكونية, سواءً في أصل الخلق, أو بعض القوانين التي أودعها الله تعالى في حركة الكون والانسان والحياة.
4- صُوَرُ الوحي للأنبياء.
الوحي هو الإعلام الخفي السريع الذي مصدره عالم الغيب، ينزله الله تعالى على من يختار من عباده، وهم الأنبياء المعصومون(عم)، الذين يتلقون الوحي من الله تعالى بطرقٍ عدَّة، ويبلِّغون ما تلقّوه للناس، من دون زيادةٍ أو نقصان، أو سهوٍ أو نسيان.
حدَّثنا القرآن الكريم عن اشتراك جميع الأنبياء بالوحي: "إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً * وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيماً"(22).
وقد بيَّنت آية أخرى صور الوحي الثلاثة، قال تعالى: "وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ"(23)، فهي كالتالي:
1- إلقاء المعنى في قلب النبي بصوره يحسُّ معها أنَّه تلقَّاه من الله تعالى، أو النفثُ في روعه كما ورد في الرواية، عن أبي جعفر(ع): "خطبَ رسولُ الله(ص) في حجة الوداع, فقال: يا أيُّها الناس, والله ما من شي يقرِّبُكُم من الجنَّة ويُباعدُكم من النَّار إلاَّ وقد أمرتُكُم به, وما من شي يقرِّبُكُم من النَّار ويُباعدُكم من الجنَّة إلاَّ وقد نهيتُكُم عنه، ألا وإنَّ الروحَ الأمين نَفَثَ في رَوعي, أنَّه لن تموت نفسٌ حتى تستكمل رزقها" (24).
2- تكليم النبي من وراء حجاب، كما حصل مع النبي موسى الكليم(ع)، "وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيماً"(25)، وذلك بمناداته من جهة الشجرة، قال تعالى: "فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ"(26).
3- إرسال رسول من عند الله تعالى فيظهر بصورته الملكوتية أو بصورة أخرى، ويلقي الوحي على النبي. قال تعالى: "وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ"(27).
تلقَّى رسول الله محمد(ص) الوحي مباشرة في بعض الحالات، بما ألقاه الله تعالى في روعِه أو أراه في المنام، وذلك من دون واسطة، كل ذلك من دون أن يرى الله تعالى بعينيه، فلا يمكن لبشرٍ أن يرى الله الخالق المطلق، الذي لا يحدُّهُ شيء. فعن الإمام الرضا(ع)، عن رسول الله(ص): "لما أُسري بي إلى السماء، بلَغَ بي جبريل مكاناً لم يطأه جبريل قط، فكُشِفَ لي، فأراني الله من نور عظمته ما أُحب"(28).
فإذا تلقَّى النبي(ص) الوحي مباشرة، أصابته الغشية من ثقلِ الوحي وشدته، عن زرارة: "قلت لأبي عبد الله(ع): جُعلتُ فداك, الغَشْيةَ التي كانت تُصيبُ رسول الله (ص) إذا أُنزل عليه الوحي؟ فقال(ع): ذاك إذا لم يَكُنْ بينَهُ وبينَ الله أحد، ذاك إذا تجلَّى الله له، ثم قال: تلك النبوة يا زرارة"(31)، وعن هشام بن سالم قال أبو عبد الله(ع): "وكان رسول الله(ص) إذا أتاه الوحيُ من الله, وبينهما جبريل(ع), يقول: هو ذا جبريل، وقال لي جبريل... وإذا أتاه الوحيُ, وليس بينهما جبريل(ع), يُصيبه تلك السَّبتة, ويغشاه منه ما يغشاه, لثِقل الوحي عليه من الله عزَّ وجل َّ"(32).
ويمكن أن يرى في منامه الرؤيا الصادقة التي هي بمثابة الوحي، وهذا ما حدَّثنا عنه القرآن الكريم في وعده لنبيه بعد صُلح الحديبية بفتح مكة، قال تعالى: "لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاء اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً"(33)، وهذا ما حصل في السنة الثامنة للهجرة، حيث دخل الرسول(ص) وأصحابه إلى مكة المكرمة، فاتحين من دون حرب.
هذه الرؤيا الصادقة هي نموذجٌ من الوحي للأنبياء، وهي ما حصل مع النبي إبراهيم(ع)، حيث أمره الله تعالى في المنام أن يذبح ولده إسماعيل(ع)، وعندما استيقظ بدأ بتنفيذ الأمر الإلهي الموحى إليه من السماء، ففداه الله تعالى بكبش ليذبحه بدل ولده اسماعيل(ع)، قال تعالى: "فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاء اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ"(34). وهذا ما لا ينطبق على ما عدا الأنبياء، فالمنام لا يكون تكليفاً شرعياً ولا طريقاً إلى التكليف الشرعي بالنسبة إلى عامة الناس.
أخبرنا القرآن عن نزول الوحي بواسطة جبريل(ع)، قال تعالى: "قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ"(35). وقد وردت أسماء أخرى تشير إلى جبريل(ع) كالروح القدس، قال تعالى: "قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ"(36)، وللروح صفة أخرى هي الأمين، "وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ"(37).
ويُستفاد من سورة النجم أنَّ النبي(ص) شاهد جبريل(ع) مرتين على هيئته الأصلية، وهذا ما ذكره الشيخ الصدوق(قده): "وأمَّا قوله تعالى: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى), يعني محمداً(ص)، كان عند سدرة المنتهى، حيث لا يتجاوزها خلقٌ من خلق الله، وقوله في آخر الآية: (مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى), رأى جبريل(ع) في صورته مرتين، هذه المرة ومرة أخرى"(38). فكان النبي(ص) يراه بصورته الأصلية، وكان يراه أيضاً بهيئة رَجُل، كما في بعض الروايات.
5- معنى الوحي لغير الأنبياء.
وقد وردت آيات أخرى في القرآن الكريم استخدمت لفظة الوحي، إلاَّ أنَّ معناها يختلف عن الوحي للأنبياء بمعناه وصُوَرِهِ، فوحيُ الأنبياء لتبليغ رسالة الله تعالى إلى الناس، وأما وحيُ غيرهم فهو بمعانٍ أخرى منها: الإلهام الفطري، أو الهداية إلى عمل ما، أو التسخير إلى تنفيذ أمر الله تعالى، ... ومن أمثلته:
1- الوحيُ إلى النَّحل بالإلهام الفطري والتكوين الغرائزي لتبني بيوتها في أماكن محدَّدة، وبأشكال محدَّدة، قال تعالى: "وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ"(40).
2- والوحي إلى أم موسى(ع) بهدايتها إلى فكرةِ إلقاء مولودها الرضيع موسى(ع) في الْيَمِّ، وتطمينها بعودته إليها لإرضاعه، ثم يكون له بعد ذلك مقامُ المرسلين، قال تعالى: "وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ"(41).
3- والوحي إلى السماء كما لجميع الكائنات والمخلوقات، هو تسخيرها وفقّ القوانين الإلهية، في نظام حركتها وحدودها وآثارها واستمرارها وفنائها، "وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا"(42).
1- الانزالُ والتنزيل:.
أنزل الله تعالى القرآن الكريم دفعة واحدة إلى السماء الدنيا، وذلك في شهر رمضان المبارك، قال تعالى: "شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ "(43)، وبالتحديد في ليلة القدر، "إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ"(44)، وقال: "إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ"(45).
ثمَّ بدأ جلَّ وعلا تنزيله مفرَّقاً على النبي الأكرم محمد(ص) في السابع والعشرين من شهر رجب، يوم المبعث النبوي الشريف، مفتتحاً إيَّاه بالآيات الأولى من سورة العلق: "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ "(46).
بيَّنَ الله تعالى أنَّه أراد تنزيله منجَّماً أي مفرَّقاً لتثبيت فؤاد النبي(ص)، وفي التفريق فوائد عظيمة، أبرزها: أن يواكب حركة الأمة في أول نشأتها على الإسلام، فيربيها في تفاصيل حياتها اليومية وما يطرأ عليها، لتتعمق به وتحمله متفاعلةً معه في فكرها وسلوكها. ولم يأبَه ربُّ العالمين لطلب الكافرين المعاندين، في أن يكون بين يدي النبي(ص) ومع الناس دفعة واحدة، "وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً"(47)، وقد استمرَّ تنزيلُ القرآن الكريم مفرَّقاً من زمن البعثة عند بلوغ النبي(ص) سن الأربعين، إلى حين وفاته في سن الثالثة والستين، أي مدة ثلاث وعشرين سنة، قال تعالى: "وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً"(48)، وقال: "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً"(49).
إذاً الإنزالُ هو الورد من المحل الأعلى، وهذا ما ينطبق على كامل القرآن الكريم، الذي أنزله الله تعالى إلى السماء الدنيا، وكذلك على قلب النبي(ص). والتنزيلُ هو تبليغه للنبي محمد(ص) بشكل تدريجي ليبلغه للناس. وهذا ما يدل على أنَّ القرآن الكريم بكمالِهِ موجودٌ في علم الله تعالى في اللوح المحفوظ، ولا حاجة لانتظار الأحداث التفصيلية ليُصدر أحكامها، وإنما كان التفريق في نزول الآيات والسور تعليماً وتربية للناس برعاية النبي(ص)، وهذا ما يرسِّخ تعاليم الإسلام في الناس، ويمكِّنهم من تطبيق أحكامه، في إطار عملية تغييرية شاملة للواقع الجاهلي القائم آنذاك.
لكنَّ النبي(ص) كان عالماً بكامل القرآن، وإنما يتلوه بحسب ما يُلقي الله في روعه أو يخبره به جبريل(ع)، وهذا ما تبيَّن من توجيه الله تعالى للنبي(ص) بأن لا يعجِّل بقراءة القرآن قبل أن يأتي الوحي، فصدور الآيات والسور عن النبي(ص) مرتبطة بالتوقيت الذي يختاره الله تعالى للوحي. قال تعالى: "لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ "(50).
إنَّ معنى هذا الخطاب للنبي(ص): "لا تحرِّك بالوحي لسانَكَ لتأخذه عاجلاً, فتسبقنا إلى قراءة ما لم نقرأ بعد, فهو كما مرَّ في معنى قوله: "وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ". وقوله: "إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ", القرآن ههنا مصدر كالفرقان والرجحان، والضميران للوحي، والمعنى لا تعجل به, إذ علينا أن نجمع ما نوحيه إليك, بضمِّ بعض أجزائه إلى بعض, وقراءته عليك, فلا يفوتنا شيء منه حتى يحتاج إلى أن تسبقنا إلى قراءةِ ما لم نُوحِهِ بعد"(51).
2- تسمية القرآن الكريم.
القرآن اسمٌ لكتاب الله تعالى، "وسُميَّ القرآن: لأنَّه جمعَ القصص، والأمر والنهي، والوعد والآيات والسور بعضها إلى بعض، وهو مصدرٌ كالغفران والكفران. وقد يُطلقُ على الصلاة لأنَّ فيها قراءة، تسمية للشيء ببعضه، وعلى القراءة نفسها، قرأ، يقرأ قراءةً وقرآناً.... وقرأتُ الكتابَ قراءةً وقرآناً، ومنه سُميَ القرآن"(52).
إذاً قرأ: تأتي بمعنى الجمع والضم. والقراءة: تضمُّ الحروف والكلمات بعضها إلى بعض في التنزيل، والقرآن في الأصل كالقراءة. ويطلق القرآن على مجموع كتاب الله تعالى، وعلى كل آية من آياته، فإذا سمعت من يتلو آية أو آيات من القرآن الكريم، صحَّ أن تقول أنَّه يقرأ القرآن، قال تعالى: "وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ"(53)، وقال: " فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ"(54).
وقد أشار الله تعالى إلى القرآن الكريم بلفظة القرآن في آيات عدة، معبِّراً بذلك عن وحيه إلى نبيه، كقوله تعالى: "نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ"(55)، كما حدَّثنا عن القرآن بأسماءٍ وصفات أخرى، تدلُّ عليه وتعبر عنه، نذكر بعضها:
فهو الكتابُ المنزل من عند الله تعالى: "إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ"(56).
وهو الذِّكْر الذي حفظه الله تعالى لنا: "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ"(57).
وهو الفرقان الذي يفرق بين الحق والباطل: "تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً"(58).
وهو كلام الله إلى عباده: "وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْلَمُونَ"(59).
3- جمعُ القرآن.
كان رسول الله(ص) يأمر أصحابه بكتابة القرآن الكريم، فكلما نزلت آيات أو سورة تلاها على مسامعهم، فكان يدوِّنها الإمام علي(ع) وجمعٌ من الصحابة، بالوسائل المستخدمة للكتابة آنذاك، كالرقاع (جمع رقعة، وتكون من جلدٍ أو ورق)، والأكتاف (جمع كتف، وهو مما جفَّ من عظم البعير)، والعسب (جمع عسيب، وهو جريد النخل وخاصة في صفحته العريضة)، وغيرها ... وقد روي عن أمير المؤمنين علي(ع) قوله: "وقد كنتُ أدخل على رسول الله (ص) كلَّ يوم دَخْلَة, وكلَّ ليلة دَخْلَة, فيخليني فيها, أدور معه حيث دار، وقد عَلِمَ أصحاب رسول الله (ص) أنَّه لم يصنع ذلك بأحدٍ من الناس غيري, فربما كان في بيتي, يأتيني رسول الله (ص) أكثر ذلك في بيتي, وكنتُ إذا دخلتُ عليه بعض منازله أخلاني, وأقام عني نساءه, فلا يبقى عنده غيري. وإذا أتاني للخلوة معي في منزلي, لم تقُم عني فاطمة, ولا أحدٌ من بَنيَّ، وكنتُ إذا سألتُه أجابني, وإذا سكتُّ عنه وفَنِيَتْ مسائلي ابتدأني، فما نَزلَتْ على رسول الله (ص) آيةٌ من القرآن إلا أقرأَنيها, وأَملاها عليَّ فكتبتُها بخطي, وعلَّمني تأويلَها وتفسيرَها, وناسخَها ومنسوخَها، ومُحكَمَها ومتشابهها، وخاصَّها وعامَّها، ودعا الله أن يُعطيني فهمَها، وحفظَها، فما نسيتُ آيةً من كتاب الله, ولا عِلماً أملاهُ عليَّ وكتبتُهُ، منذ دعا الله لي بما دعا"(60).
وفي فتح الباري عن ابن حجر، تقدَّمَ عن علي(ع) أنَّه جمع القرآن على ترتيب النزول عقب موت الرسول(ص). (61).
وفي تاريخ اليعقوبي عن ابن عباس: "كان جبريل(ع) إذا نزل بالوحي الى النبي(ص) ، يقول له: ضع هذه الآية في سورة كذا، في موضوع كذا"(62).
وذكر الحاكم النيسابوري في المستدرك عن الصحابي زيد بن ثابت قوله: "كنَّا عند رسول الله(ص) نؤلِّف القرآن من الرقاع ... ثم قال الحاكم: هذا حديثٌ صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"(63)، فاستنتج السيد الخوئي(قده): "وفيه الدليل الواضح أنَّ القرآن إنما جُمع على عهد رسول الله(ص)" (64). واستدل أيضاً على ذلك بقوله: "فإنَّ كثيراً من آياتِ الكتاب الكريمة دالةٌ على أنَّ سور القرآن كانت متميزة في الخارج بعضها عن بعض، وإنَّ السُّوَر كانت منتشرة بين الناس، حتى المشركين وأهل الكتاب، فإنَّ النبي (ص) قد تحدَّى الكفار والمشركين على الاتيان بمِثلِ القرآن، وبعشرِ سُوَرٍ مِثلِه مُفتريات، وبسُورةٍ من مِثلِه، ومعنى هذا: أنَّ سُوَر القرآن كانت في متناول أيديهم. وقد أطلق لفظَ الكتاب على القرآن في كثير من آياته الكريمة، وفي قول النبي (ص): "إني تاركٌ فيكم الثقلين: "كتاب الله وعترتي", وفي هذا دلالةٌ على أنَّه كان مكتوباً مجموعاً، لأنَّه لا يصح إطلاقُ الكتاب عليه وهو في الصدور، بل ولا على ما كُتِبَ في اللخاف، والعسب، والأكتاف، إلاَّ على نحو المجاز والعناية، والمجاز لا يحمل اللفظ عليه من غير قرينة، فإنَّ لفظَ الكتاب ظاهرٌ فيما كان له وجودٌ واحدٌ جمعي، ولا يُطلق على المكتوب إذا كان مجزأً غير مجتمع، فضلاً عمَّا إذا لم يُكتب، وكان محفوظاً في الصدور فقط!" (65).
وذكر السيوطي عن الحارث المحاسبي قوله: "كتابةُ القرآن ليست بمحدثة, فإنَّه (ص) كان يأمر بكتابته, ولكنَّه كان مفرَّقاً في الرقاع والأكتاف والعسب, فإنما أمَرَ الصِّدِّيقُ بنسخها من مكانٍ إلى مكانٍ مجتمعا, وكان ذلك بمنزلةِ أوراقٍ وُجِدَتْ في بيت رسول الله (ص), فيها القرآنُ منتشرٌ فجمعها جامع, ورَبَطَها بخيطٍ حتى لا يضيعَ منها شيء"(66).
وقد وَرَدَ عن أبي عبد الله (ع) قال: "إنَّ رسولَ الله (ص) قال لعلي (ع): يا علي, القرآنُ خلف فراشي في الصحف والحرير والقراطيس, فخذوه واجمعوه, ولا تضيِّعوه كما ضيَّعت اليهودُ التوراة, فانطلق علي (ع) فجمَعَهُ في ثوبٍ أصفر, ثم ختَمَ عليه في بيته"(67).
يمكن الاستنتاج، بما تواتر عن رواة المسلمين، بأنَّ المشهور عند علماء السنَّة أنَّ القرآن لم يُجمع في زمن النبي محمد(ص), وإنما جمعه الخليفة الأوَّل أبو بكر الصديق بعد وفاة النبي(ص)، والمشهور عند علماء الشيعة أنَّه جُمع في عهد النبي(ص)، وقال بعضهم بأنَّ الإمام علي(ع) جمع الرقاع والوسائل التي كتب عليها، عقب موت رسول الله(ص)، وذلك تنفيذاً لوصيته ، ولكن لا خلاف بينهم أنَّ القرآن الكريم المتداول بين المسلمين واحدٌ.
4- القراءاتُ والأحرفُ السبعة.
انتشرت القراءات المختلفة بين الأمصار، بحسب اللهجات ونطق الأحرف والكلمات، فتم حصرها بلهجة واحدة على زمن الخليفة الثالث عثمان، "وأنَّ جمعَ القرآن كان مستنداً إلى التواتر بين المسلمين، غايةُ الأمر أنَّ الجامع قد دَوَّنَ في المصحف ما كان محفوظاً في الصدور على نحو التواتر. نعم لا شك أنَّ عثمان قد جمع القرآن في زمانه، لا بمعنى أنَّه جمع الآيات والسور في مصحف، بل بمعنى أنَّه جمع المسلمين على قراءةِ إمامٍ واحد، وأحرَقَ المصاحف الأخرى التي تخالفُ ذلك المصحف، وكتبَ إلى البلدان أن يُحرقوا ما عندهم منها، ونهى المسلمين عن الاختلاف في القراءة، وقد صرَّح بهذا كثيرٌ من أَعْلام أهل السُّنة. قال الحارث المحاسبي ( كما ذكر الزركشي في البرهان) : "المشهور عند الناس أنَّ جامع القرآن عثمان، وليس كذلك، إنما حملَ عثمان الناسَ على القراءة بوجهٍ واحد، على اختيارٍ وقعَ بينه وبين من شهِدَهُ من المهاجرين والأنصار، لمَّا خَشيَ الفتنةَ عند اختلاف أهل العراق والشام في حروف القراءات، فأمَّا قبل ذلك فقد كانت المصاحف بوجوهٍ من القراءات المطلقات على الحروف السبعة التي أنزل بها القرآن . . .
أقول ( أي الخوئي): أمَّا أنَّ عثمان جَمَعَ المسلمين على قراءةٍ واحدة، وهي القراءةُ التي كانت متعارفة بين المسلمين، والتي تلقوها بالتواتر عن النبي (ص), وأنَّه مَنَعَ عن القراءات الأخرى المبتنية على أحاديث نزول القرآن على سبعة أحرف، التي تقدَّم توضيح بطلانها، أمَّا هذا العمل من عثمان فلم ينتقده عليه أحدٌ من المسلمين، وذلك لأنَّ الاختلاف في القراءة كان يؤدي إلى الاختلاف بين المسلمين، وتمزيقِ صفوفهم، وتفريقِ وحدتهم، بل كان يؤدي إلى تكفيرِ بعضهم بعضا"(68).
وقد تمَّ استنساخ عدد من المصاحف، وفق القراءة الموحَّدة، فتحدثت أرجح الأخبار بأنَّ عددها ستة، وُزِّعت بحسب المدن الرئيسة وهي: مكة المكرمة، والكوفة، والبصرة، والشام، والبحرين، واليمن، أمَّا النسخة الأساس فبقيت في المدينة المنورة.
حصل نقاش واسع حول نزول القرآن على سبعة أحرف، وقد علَّق العلامة الطباطبائي على هذا الأمر بقوله: "وفي الحديث المروي من طرق الفريقين عن النبي (ص): أُنزل القرآن على سبعة أحرف. أقول: والحديث وإن كان مروياً باختلافٍ ما في لفظه, لكنَّ معناها مرويٌ مستفيضاً, والرواياتُ متقاربةٌ معنىً, روَتها العَّامةُ والخاصَّة, وقد اختُلِفَ في معنى الحديث اختلافاً شديداً, ربما أُنهيَ إلى أربعين قولا, والذي يهوِّن الخطبَ, أنَّ في نفسِ الأخبار تفسيراً لهذه السبعة الأحرف, وعليه التعويل. ففي بعض الأخبار: نزل القرآن على سبعة أحرف: أمر وزجر وترغيب وترهيب وجدل وقصص ومثل, وفي بعضها: زجر وأمر وحلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال. وعن علي (ع): أنَّ الله أنزل القرآن على سبعة أقسام, كلٌّ منها كافٍ شاف, وهي: أمر وزجر وترغيب وترهيب وجدل ومثل وقصص. فالمتعيِّن حملُ السبعة الأحرف على أقسام الخطاب وأنواع البيان, وهي سبعة, على وحدتها في الدعوة إلى الله وإلى صراطه المستقيم"(69).
وقال الزركشي في البرهان: "واعلم أنَّ القرآن والقراءات حقيقتان متغايرتان، فالقرآن هو الوحي المنزل على محمد (ص) للبيان والإعجاز، والقراءات هي اختلافُ ألفاظِ الوحي المذكور، في كتابة الحروف أو كيفيتها, من تخفيفٍ وتثقيلٍ وغيرهما"(70).
والحمد لله، بأن منَّ الله تعالى علينا بحفظ القرآن من التحريف والضياع، ووصل إلينا واحداً سالماً، خالداً ذكره، فعن زرارة، عن أبي جعفر (ع) قال: "إَّن القرآن واحد, نَزَلَ من عند واحد, ولكنَّ الاختلاف يجيء من قِبَلِ الرواة"(71).
و"المعروف بين المسلمين عدمُ وقوع التحريف في القرآن، وأنَّ الموجود بأيدينا هو جميع القرآن المنزل على النبي الأعظم (ص)، وقد صرَّح بذلك كثير من الأَعلام. منهم رئيسُ المحدِّثين الصدوق محمد بن بابويه، وقد عَدَّ القولَ بعدم التحريف من معتقدات الامامية. ومنهم شيخُ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، وصرَّح بذلك في أول تفسيره "التبيان", ونقلَ القولَ بذلك أيضاً عن شيخه عَلَمِ الهدى السيد المرتضى، واستدلاله على ذلك بأتمِّ دليل. ومنهم المفسِّر الشهير الطبرسي في مقدمة تفسيره "مجمع البيان". ومنهم شيخُ الفقهاء الشيخ جعفر في بحث القرآن من كتابه "كشف الغطاء", وادَّعى الاجماع على ذلك. ومنهم العلاَّمة الجليل الشهشهاني في بحث القرآن من كتابه "العروة الوثقى", ونسَبَ القولَ بعدم التحريف إلى جمهور المجتهدين. ومنهم المحدَّث الشهير المولى محسن القاساني في كتابيه. ومنهم بطلُ العلم المجاهد الشيخ محمد جواد البلاغي في مقدمة تفسيره : آلاء الرحمن"(72).
لم يكن الخط القرآني بشكله الحالي، وإنما كان شكله بداية الأمر خطاً كوفياً في آخر تطور للخط العربي، والذي كان خالياً من التنقيط والشكل (الذي فيه علامات الفتح والكسر والضم والسكون والتنوين)، ومن الإعجام (أي تمييز الحروف المتشابهة كالباء والتاء والثاء في الرسم والنقاط...)، إلى أن كلَّف الإمام علي(ع) أبا الأسود الدؤلي بوضع علاماتٍ للشكل، فوضع نقطة مدورة تدل على الضم، ونقطة فوق الحرف تدلُّ على الفتح، ونقطة تحت الحرف تدلُّ على الكسر...، طوَّرها الخليل بن احمد الفراهيدي (ت 175هـ)، الذي استبدل العلامات السابقة بالضمة والفتحة والكسرة والسكون، وأجريت تحسينات أخرى في الشكل وكتابة الخط إلى نهاية القرن الثالث الهجري, حيث استقرَّ الخط على ما نراه بين أيدينا في الشكل والإعجام.
الهوامش:
22- سورة النساء، الآيتان: 163 و 164.
23- سورة الشورى، الآية: 51.
24- الشيخ الكليني, الكافي, ج 2, ص: 74.
25- سورة النساء، من الآية: 164.
26- سورة القصص، الآية: 30.
27- سورة الشعراء، الآيات: 192-195.
28- الشيخ الصدوق، التوحيد، ص: 108.
31- الشيخ الصدوق, التوحيد, ص: 115.
32- البرقي, المحاسن, ج 2, ص: 338.
33- سورة الفتح، الآية: 27.
34- سورة الصافات، الآية: 102.
35- سورة البقرة، الآية: 97.
36- سورة النحل، الآية: 102.
37- سورة الشعراء، الآيتان: 192 و 193.
38- الشيخ الصدوق، التوحيد، ص: 263.
40- سورة النحل، الآية: 68.
41- سورة القصص، الآية: 7.
42- سورة فصلت، من الآية: 12.
43- سورة البقرة، من الآية: 185.
44- سورة القدر، الآية: 1.
45- سورة الدخان، الآيتان: 3 و 4.
46- سورة العلق، الآيات: 1-5.
47- سورة الفرقان، الآية: 32.
48- سورة الإسراء، الآية: 106.
49- سورة الإنسان، الآية: 23.
50- سورة القيامة، الآيات: 16-19.
51- السيد الطباطبائي, تفسير الميزان, ج 20, ص: 109.
52- ابن منظور، لسان العرب، ج 1، ص: 129.
53- سورة الأعراف، الآية: 204.
54- سورة القيامة، الآية: 18.
55- سورة يوسف، الآية: 3.
56- سورة الزمر، الآية: 41.
57- سورة الحجر، الآية: 9.
58- سورة الفرقان، الآية: 1.
59- سورة التوبة، الآية: 6.
60- الشيخ الكليني, الكافي, ج 1, ص: 64 .
61- ابن حجر، فتح الباري، ج9، ص: 47.
62- تاريخ اليعقوبي، ج 2، ص: 43.
63- الحاكم النيسابوري، المستدرك، ج 2، ص: 229.
64- السيد الخوئي، البيان في تفسير القرآن، ص: 254.
65- المصدر نفسه, ص: 252.
66- السيوطي, الإتقان في علوم القرآن, ج 1, ص: 163.
67- تفسير القمي, ج 2, ص: 451 .
68- السيد الخوئي، البيان في تفسير القرآن، ص:257-258.
69- السيد الطباطبائي, تفسير الميزان, ج 3, ص: 74 - 75.
70- الزركشي, البرهان, ج 1, ص: 318.
71- الشيخ الكليني, الكافي, ج 2, ص: 630.
72- السيد الخوئي, البيان في تفسير القرآن, ص: 200.

5- ترتيب القرآن الكريم.
لم يكن نزول الآيات على نحو ترتيبها في المصحف الكريم، وإنما كانت تنزل الآية أو الآيات على النبي(ص)، فيأمر أصحابه بوضعها في سورة معينة، وقد تنزل آيات من سورة جديدة قبل أن تُختتم السورة التي قبلها، إلاَّ أن ترتيب الآيات في السورة الواحدة توقيفي بأمر الرسول(ص). وأمَّا ترتيب نزول السور فهو مختلف عن المصحف المعروف، ولذا تحدث علماء الطرفين عن ترتيب النزول بحسب نزول السور والآيات، والسؤال: هل أن ترتيب سور القرآن الكريم في المصحف المتداول كان بناءً لأمر رسول الله(ص)، أي توقيفية، بحيث كان يأمرهم بهذا الترتيب، كما كان يأمرهم بوضع الآيات مكانها حتى تكتمل السورة؟ أم أنَّها بهذا الترتيب اجتهاد من المسلمين، خاصة أنَّه ورد عن وجود مصاحف كانت مرتبة على ترتيب النزول في عهد رسول الله(ص) والخلفاء؟.
برزت هذه الحيرة في رأي بعض القدماء, ومنهم ما ذكره السيوطي: "قال القاضي أبو بكر في الانتصار: ترتيبُ الآيات أمرٌ واجبٌ وحكمٌ لازم, فقد كان جبريل(ع) يقول: ضعوا آية كذا في موضع كذا, وقال أيضاً: الذي نذهب إليه أنَّ جميع القرآن الذي أنزله الله وأمر بإثبات رسمه, ولم ينسخه, ولا رفع تلاوته بعد نزوله, هو هذا الذي بين الدفتين, الذي حواه مصحف عثمان, وأنَّه لم ينقُص منه شيء, ولا زِيْدَ فيه, وأنَّ ترتيبه ونَظمَه ثابتٌ على ما نظَّمَه الله تعالى ورتَّبه عليه رسوله من آي السور, لم يقدِّم من ذلك مُؤخَّر, ولا أخَّرَ منه مُقَدَّم, وأنَّ الأمة ضبطت عن النبي (ص) ترتيب آي كلِّ سورة ومواضعها, وعَرِفَتْ مواقعها, كما ضبَطَتْ عنه نفس القراءات وذات التلاوة, وإنَّه يمكن أنْ يكون الرسولُ (ص) قد رتَّبَ سُوَرَه, وأنْ يكون قد وكَّل ذلك إلى الأمة بعده, ولم يتولَّ ذلك بنفسه, قال: وهذا الثاني أقرب"(73).
رجَّح بعض العلماء أن هذا الترتيب توقيفي، وقال آخرون بأنَّه بترتيب الصحابة، والأساس أنَّه كتابٌ محفوظٌ من الله تعالى من التحريف والزيادة والنقصان، وهو اليوم واحدٌ بين أيدي المسلمين جميعاً، وهذا الأمر بإرادة الله تعالى وتوفيقه. وعندما يعود العلماء إلى ترتيب النزول، يستفيدون منه لفهم الارتباط بين الآيات، ومعرفة الناسخ والمنسوخ، وغير ذلك من فوائد، علماً أنه توجد بعض الاختلافات في ترتيب النزول، وفي آخر آية نزلت من القرآن الكريم.
عدد سور القرآن الكريم 114 سورة، تُفتتح كل واحدة منها بالبسملة، ما عدا سورة "براءة"، فإنَّها تبدأ من دون بسملة، وفيها تقريعٌ وفضحٌ للمنافقين وأعمالهم المشينة بحق الإسلام والمسلمين. ولا تأثير على عدد سور القرآن، عند وجوب جمع سورتين كسورة واحدة، في قراءة القرآن في الركعتين الأوليين من كل صلاة فريضة من الصلوات الخمس اليومية الواجبة، فهذا الحكم مختصٌ بالصلاة، بناء للروايات التي استند إليها علماء الشيعة، وهو محصور بأربع سور، تكون كلُّ اثنتين بمثابة واحدة في قراءة الصلاة وليس في العد، وقد ذكر الإمام الخميني(قده) ذلك بقوله: "سورة الفيل والايلاف سورة واحدة، وكذلك الضحى وألم نشرح، فلا تجزي واحدة منها، بل لا بدَّ من الجمع مرتبِّاً مع البسملة في البين"(74).
واختلفوا في عدد آيات القرآن الكريم بحسب طريقة العد، وهي تتراوح بين 6204 و 6236(75).
أمَّا تسمية السور، فبعضها سُمِّي بحسب اختصاصها كسورة النساء لما ورد فيها من ذكرٍ للنساء وأحكامهن، وبعضها سُمِّي بحسب أولها كسورة براءة، لاختصاصها بلفظة "براءة"، وبعضها سُمِّي بحسب القصة الغالبة فيها كسورة يوسف وغلبة قصته على كل السورة.
لا نستطيع الجزم إن كانت أسماء السور توقيفية، خاصة مع تعداد الأسماء للسورة الواحدة، مثل: سورة غافر لأنَّ فيها " غَافِرِ الذَّنْبِ"، وهي نفسها تُسمَّى المؤمن لأنَّ فيها "وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ..."، وسورة التوحيد "قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ" هي أيضاً سورة الإخلاص، وسورة التوبة هي نفسها سورة "براءة"، نسبة إلى مطلعها "بَرَاءةٌ مِنَ اللهِ..."، وسورة فصلت هي نفسها "حم السجدة" نسبة إلى مطلعها "حم" ووجوب السجدة في آية منها.
اتفق علماء الطرفين أنَّ أول ما نزل من القرآن الكريم، هو الآيات الأولى من سورة العلق: "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ"، ولكنَّهم اختلفوا بناءً على الروايات التي تبنَّوها, حول آخر آيات القرآن نزولاً، فمنهم من قال أنَّ آخر آية نزلت من سورة البقرة رقم 281: "وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ". ومنهم من قال أنَّ آخر آيتين من سورة التوبة رقم 128 و129: "لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ". ومنهم من قال أنَّ آخر سورة هي سورة النصر: "إِذَا جَاء نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً"، ووردت أقوال أخرى. وقد برَّر القاضي أبو بكر هذا الاختلاف بقوله: "هذه الأق?ال ليس فيها شيء مرفوع إلى النبي (ص), وكلٌّ قاله بضربٍ من الاجتهاد وغلبة الظن, ويُحتمل أنَّ كلاً منهم أخبرَ عن آخر ما سمِعَه من النبي (ص) في اليوم الذي مات فيه, أو قبل مرضه بقليل, وغيرُهُ سمِعَ منه بعد ذلك وإن لم يسمعه هو, ويُحتمل أيضاً أن تنزل هذه الآية التي هي آخر آية تلاها الرسول (ص) مع آياتٍ نزلت معها, فيؤمر برسم ما نزل معها بعد رسم تلك, فيُظَن أنَّه آخر ما نزل في الترتيب"(76).
أمَّا المتواتر عند الشيعة, فإنَّ آخر آية نزلت على رسول الله(ص), في غدير خم, وهي من الآية 3 من سورة المائدة: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً".
يتفاوت طُولُ السُّور، فأقصرها سورة الكوثر من ثلاث آيات، وأطولها سورة البقرة من 286 آية. كما قسَّموا السور بحسب طولها إلى أربعة أقسام:
1- السبعُ الطُوَل: والطُوَل جمع الطولى تأنيث الأطول، وإنما سميت كذلك لأنها أطولُ سور القرآن، وهي سبعة: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والانعام، والأعراف، والانفال مع التوبة كواحدة إذ لا بسملة بينهما، وقيل أنَّ السابعة هي سورة يونس.
2- المئون: كل سورة تتألف من مئة آية فما فوق.
3- المثاني(77): سُمِّيت كذلك لأنها ثَنَّت الطُوَل، أي تلتها، قيل: هي السور التالية للسبع الطُوَل، وأولها يونس وآخرها النحل. وقيل: هي التي ثَنَّت المئين بعد السبع الطُوَل, بحيث يكون الترتيب: السبعُ الطُوَل, ثم المئون, ثم المثاني.
4- المفصَّل: قصار السور، بدءاً من سورة الحجرات إلى الناس، وسُمِّيت كذلك لكثرة الفصول بين سورها ببسم الله الرحمن الرحيم(78).

الهوامش:
73 - السيوطي, الإتقان في علوم القرآن, ج 1, ص: 169 و170.
74- الإمام الخميني(قده)، تحرير الوسيلة، ج 1، ص: 165.
75- العلامة الطباطبائي، تفسير الميزان، ج 13، ص: 232.
76- السيوطي, الإتقان في علوم القرآن, ج 1, ص: 84 و85.
77- مصطلح المثاني هنا يختلف عن معنى المثاني في القرآن والذي سيأتي تفسيره.
78- يراجع تفسير مجمع البيان للطبرسي, ج 1، ص: 41.

6- خصائص الآيات المكية والمدنية.
نزل القرآن الكريم لمدة ثلاث وعشرين سنة، منها ثلاث عشرة سنة في مكة المكرمة، وعشر سنوات في المدينة المنوَّرة، وقد اصطلح أغلب العلماء على اعتبار الآيات التي نزلت في مكة المكرمة مكية، والتي نزلت في المدينة المنورة مدنية. واستنتجوا بعض الخصائص التي تميِّز بين الآيات المكية والمدنية، والتي تعطينا بعض الخصائص المشتركة فكرةً عن النمط العام لطبيعة الخطاب, بحسب مرحلتي الدعوة الإسلامية في مكة والمدينة، إلاَّ أنَّها لا تصلح لأن نعتمد عليها للتمييز بين المكي والمدني، بل نعود إلى الروايات لتحديد مكان النزول.
من أبرز خصائص الآيات المكية:
1- الدعوة إلى التوحيد وأصول العقيدة، ومحاولة تثبيتها في النفوس من خلال الأدلة والبراهين عليها.
2- الإكثار من الحديث عن الآخرة كيوم للحساب، وذكر مشاهد من الجنة والنار.
3- إيراد قصص الأنبياء والأمم السابقة وما جرى من أحداث لاستخلاص العبر في صراع الإيمان والكفر.
4- التربية على الأخلاق والقيم الإسلامية، والتركيز على بناء النفس وجهادها.
5- مجادلة المشركين والكافرين، وتبيان فساد عقائدهم بالدليل والبرهان، وذلك بإيراد آرائهم والردود عليها.
6- كثرة استعمال "يا أيها الناس" في خطاب عموم الناس, ودعوتهم إلى الدين.
حَفِلَت الفترة المكية ببناء الثُّلة المؤمنة الأولى التي أسَّست لهذا الدين الجديد، وهزمت الوثنية وأصنامها، وحملت دعوة الإسلام إلى العالم، وكان التركيز فيها على العقيدة لترسيخ الإيمان في مقابل الشرك، وبث التعاليم السامية أخلاقياً واجتماعياً، والتي تؤكد على مكانة الإنسان وكرامته ودوره، ونظرة الإسلام إلى المرأة ومكانتها، وتهذيب العلاقات الاجتماعية، وإعطاء النموذج الأخلاقي الراقي في الصدق والأمانة والإخلاص ... كل هذا في إطار تكوين وتربية النموذج المسلم كخيارٍ وقدوة، وقد غلب على هذه المرحلة المكية الاهتمام بتقوية جماعة المسلمين، والصبر على الأذى، وعدم القتال والمواجهة، ولو اضطر الأمر إلى هجرة بعضهم إلى الحبشة بقيادة جعفر بن أبي طالب، وحصار البعض الآخر في شِعب أبي طالب لثلاث سنوات بسبب إيمانهم ومخالفة عبادة الأصنام. فالفترة المكية كانت فترة بناء العقيدة والجماعة والتأسيس لمستقبل الدولة الإسلامية.
ومن أبرز خصائص الآيات المدنية:
1- تنظيم الحياة المدنية للمسلمين، وتبيان الحقوق والواجبات، والفرائض، وضوابط العقود والمعاملات.
2- سَنُّ القوانين في مجالاتها المختلفة السياسية والاقتصادية والحدود والديَّات.
3- التركيز على الجهاد وأهدافه وأحكامه والحث عليه في مواجهة التحديات.
4- الحديث عن المنافقين ودورهم وأهدافهم ومواقفهم وكيفية التعاطي معهم.
5- مجادلة أهل الكتاب في عقائدهم وآرائهم ومواقفهم.
تمَّ إعلان إقامة الدولة الإسلامية في المدينة المنورة، وهي التي تحتاج إلى تشريعات وقوانين تنظم أمور الجماعة والمجتمع في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتضع الحدود للخارجين عن ضوابطها، وحيث كان الاختلاف موجوداً مع أهل الكتاب وخاصة اليهود في المدينة، كان لا بدَّ من الحوار معهم من ناحية، ومواجهة مؤامرتهم من ناحية أخرى، فتحدثت آياتٌ كثيرة عن حالهم ومواقفهم ومؤامراتهم، ووجَّهت المسلمين إلى كيفية التعاطي معهم ومواجهة دسائسهم. وتكالبت قريش والأحزاب على الدولة الفتية لإسقاطها قبل أن يشتدَّ عودها، فكانت آياتُ الجهاد وأحكامُه في القتل والقتال والشهادة والتعبئة, والتي نظَّمت حركة المسلمين في حماية دولة الإسلام الأولى. فالفترة المدنية كانت فترة بناء الدولة وحمايتها، وسن القوانين، وتنظيم المعاملات في المجتمع.
7- الأحرف المقطَّعة في القرآن.
افتتح القرآن الكريم 29 سورة من 114 سورة بحروفٍ مقطَّعة، وهي السور التالية:
1- البقرة، 2- آل عمران، 3- الأعراف، 4- يونس، 5- هود، 6- يوسف، 7- الرعد، 8- إبراهيم، 9- الحجر، 10- مريم، 11- طه، 12- الشعراء، 13- النمل، 14- القصص، 15- العنكبوت، 16- الروم، 17- لقمان، 18- السجدة، 19- يس، 20- ص، 21- غافر، 22- فصلت، 23- الشورى، 24- الزخرف، 25- الدخان، 26- الجاثية، 27- الأحقاف، 28- ق، 29 - القلم.
وتعود هذه الحروف إلى 14 حرفاً بما يعادل نصف الحروف الهجائية، وهي الحروف التالية:
ا ، ح ، ر ، س ، ص ، ط ، ع ، ق ، ك ، ل ، م ، ن ، ه‍ ، ي .
وردت هذه الحروف في مطلع عددٍ من السُّور بحرفٍ واحد وهي: "ص"، و "ق"، و "ن"، وبحرفين: "طه"، و"طس"، و "يس"، و"حم"، وبثلاثة أحرف: "الم"، و"الر"، و"طسم"، وبأربعة أحرف: "المص"، و"المر"، وبخمسة أحرف: "كهيعص"، و "حم*عسق".
أمَّا الآراء حول معانيها والمقصود منها فقد وصلت إلى ما يزيد عن عشرين قولاً، منها: أنَّها رموزٌ خاصة بين الله ورسوله، اختصَّ الله بها رسولَه. أو أنَّها سرُّ الله تعالى في القرآن، لم يبيِّنه لأحدٍ من خلقه. أو أنَّها كالمتشابه في القرآن الكريم. أو أنَّها مرتبطة بمضمون وموضوع السورة التي تكون مطلعاً لها. أو أنَّها تعبيرٌ عن التحدي للمشركين بأن يأتوا منها بمثل هذا القرآن الكريم... علماً أنَّه لم يرد نصٌ قرآني ولا روايةٌ صحيحة حول معنى هذه الحروف المقطعة، ولكنَّ المتتبِّع لهذه الأقوال، يمكنه ترجيح أحدها أو عددٍ منها، على قاعدة احتمال تحصيل فهم المعنى المقصود، من دون أن ننفي احتمالاتٍ أخرى قد تتكشَّف بناء لأدلةٍ تدلُّ عليها.
ولعلَّ المعنى الراجح، هو نزول هذه الحروف في مطالع بعض السور كتعبيرٍ عن التحدي للمشركين، بأنَّ هذا القرآن قد نزَلَ مؤلفاً من هذه الأحرف الأبجدية المتداولة بينكم، وأنتم تتباهون بفصاحتكم ومعلَّقاتكم الشعرية على أستار الكعبة، فلو كان من عند غير الله تعالى، لاستطعتم أن تأتوا بمثله، ولكنَّه من عند الله تعالى، ولذا لن تأتوا بمثله أبداً، على الرغم من وجود هذه الحروف بين أيديكم، "قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً"(301).
وقد رجَّح الشيخ السبحاني هذا الرأي بقوله: "القرآن الكريم تحدَّى المشركين, بفصاحته وبلاغته وعذوبة كلماته ورصانة تعبيره، وادَّعى أنَّ هذا الكتاب ليس من صنع البشر, بل من صنع قدرةٍ إلهية فائقة, لا تبلغ إليها قدرة أي إنسان, ولو بلغ في مضمار البلاغة والفصاحة ما بلغ. ثم إنَّه أخذ يورد في أوائل السور قسماً من الحروف الهجائية, للالماع إلى أنَّ هذا الكتاب مؤلفٌ من هذه الحروف، وهذه الحروف هي التي تلهجون بها صباحاً ومساءً, فلو كنتم تزعمون أنه من صنعي فاصنعوا مثله، لانَّ المواد التي تركَّب منها القرآن كلها تحت أيديكم, واستعينوا بفصحائكم وبلغائكم، فإن عجزتم، فاعلموا أنَّه كتابٌ منزلٌ من قِبَلِ الله سبحانه, على عبدٍ من عباده, بشيراً ونذيرا"(302).
ويمكن الاستفادة من الرواية الواردة عن الإمام الحسن العسكري(ع) على الرغم من ضعفها، في إطار هذا الاحتمال: "كذَّبت قريش واليهود بالقرآن, وقالوا: سحرٌ مبين تَقَوَّلَهُ ، فقال الله: "ألم * ذَلِكَ الْكِتَابُ", أي يا محمد, هذا الكتاب الذي أنزلناه عليك هو الحروف المقطَّعة, التي منها: "الف، لام، ميم", وهو بلُغتِكم وحروفِ هجائكم, فأْتُوا بمِثلِه إنْ كنتم صادقين, واستعينوا على ذلك بسائر شهدائكم، ثم بَيَّنَ أنَّهم لا يقدرون عليه بقوله: قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً"(303).
يؤيد هذا المعنى نزول 26 سورة من الـ 29 سورة في مكة المكرمة، حيث المواجهة العقائدية مع المشركين، لإثبات رسالة النبي محمد(ص) وتثبيت الإسلام في حياة الناس، كبديلٍ عن عبادة الأوثان والأصنام، بحيث تشير أغلب هذه السور إلى القرآن الكريم بعد افتتاحها بالحروف المقطَّعة، مثل:
أ‌- "الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ"، في مطلع سورة البقرة.
ب‌- "المص * كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ"، في مطلع سورة الأعراف.
ج- "الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ"، في مطلع سورة يونس.
د- "الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ"، في مطلع سورة هود.
هـ - "حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ"، في مطلع سورة الزخرف.
وكأنَّها تقول لهم، بأنَّ القرآن مؤلفٌ من هذه الحروف، فاتوا بمثله لإثبات دعواكم.
تحصَّلَ لدينا ورود الحروف المقطَّعة للتحدي، وإظهار معجزة القرآن الكريم بأنَّه من عند الله تعالى، كاحتمالٍ راجح، ولا ينفي غيره معه، ولو أراد الله تعالى تعريفنا بمعنىً محدَّد غير ما ذُكر لساقه إلينا، فالقرآن تنزيلٌ من رب العالمين، " بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ"(304)، وقال تعالى: " الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ"(305).
13- المثاني.
قال تعالى: "اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ"(306).
المتشابه في هذه الآية معناه أنَّ آيات القرآن ذاتُ نَسَقٍ واحد، من حيث الاعجاز، واتقان الأسلوب، وبيان الحقائق، وتحقيق الهداية...، والمثاني: جمع "مثنية"، بمعنى المعطوف، لانعطاف بعض آياته على بعض فتبيِّنها وتفسِّرها وتوضِّح المراد منها.
بيَّن صاحب تفسير الميزان معنى المثاني بقوله: "فإنَّه سبحانه سَمَّى جميعَ آياتِ كتابه مثاني, إذ قال: "كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ", وآياتُ سورة الحمد من جملتها, فهي بعضُ المثاني لا كلها. والظاهر أنَّ المثاني جمع مثنية, اسم مفعول من الثني, بمعنى اللوي والعطف والإعادة, قال تعالى: "يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ", وسُمِّيَت الآياتُ القرآنية مثاني لأنَّ بعضَها يوضِّح حالَ البعض, ويلوي وينعطف عليه, كما يُشْعِر به قولُه: كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ, حيث جمعَ بين كون الكتاب متشابهاً يُشبه بعضُ آياتِه بعضا, وبين كون آياته مثاني. وفي كلام النبي (ص) في صفة القرآن: "وإنَّ القرآن يصدِّق بعضُه بعضا", وعن علي (ع) فيه: "ينطقُ بعضُه ببعض, ويشهدُ بعضُه على بعض", أو هي جمعُ مثنَّى بمعنى التكرير والإعادة, كنايةً عن بيانِ بعض الآيات ببعض"(307).
واستبعد المعاني الأخرى التي ذكرها بعض المفسرين، منها أنَّ المثاني معناه التكرار والإعادة، لكل آيات القرآن الكريم، أو لخصوص سورة الفاتحة التي تكرَّر قراءتها في الصلاة، أو غير ذلك، فقال: "ولعل في ذلك كفايةً وغنىً عمَّا ذكروه من مختلف المعاني, كما في الكشاف وحواشيه والمجمع وروح المعاني وغيرها, كقولهم انَّها من التثنية أو الثني, بمعنى التكرير والإعادة, سُمِّيت آياتُ القرآن مثاني لتكرُّر المعاني فيها, وكقولهم سُمِّيت الفاتحة مثاني لوجوب قراءتها في كل صلاة مرتين, أو لأنَّها تُثنَّى في كل ركعة بما يُقرأ بعدها من القرآن, أو لأنَّ كثيراً من كلماتها مكرَّرة: كالرحمان, والرحيم, وإياك, والصراط, وعليهم, أو لأنَّها نزلت مرتين مرَّة بمكة ومرَّة بالمدينة, أو لما فيها من الثناء على الله, أو لأنَّ الله استثناها وادَّخرها لهذه الأمة ولم ينزلها على الأمم الماضين"(308).
نُذَكِّر في هذا المقام بأهمية وعظمة سورة الفاتحة، قال تعالى: " وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ"(309)، فميَّزها جلَّ وعلا، بأن عَطَفَ السبعَ المثاني أي سورة الفاتحة على القرآن العظيم، فهي عظيمةٌ من عظمة القرآن الكريم، ولها خصوصية استدعت أن تُقابَلَ بالقرآن وهي جزءٌ منه، وفي بعض الروايات هي أمُّ القرآن.
301- سورة الإسراء، الآية: 88.
302-الشيخ السبحاني, الأقسام في القرآن الكريم, ص: 59.
303- الشيخ الصدوق, معاني الأخبار, ص: 24.
304- سورة الشعراء، الآية: 195.
305- سورة الحجر، الآية: 1.
306- سورة الزمر، الآية: 23.
307- العلامة الطباطبائي, تفسير الميزان, ج 12, ص: 191 .
308- المصدر نفسه.
309- سورة الحجر، الآية: 87.