ميَّز الله تعالى الإنسان على جميع مخلوقاته، فخَلَقَهُ في أحسنِ تقويم، "لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ"(115)، وجعله خليفة على الأرض، "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ"(116)، وفََطَرَه بإعطائه القدرات التي يُطلُّ من خلالها على العالم، فجعل له السمع والبصر والفؤاد, ليمكِّنه من التعلُّم والتفكُّر وإعمار حياته ومجتمعه وتطويرهما، "وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ"(117)، مهيئاً له مقدمات علمية يعرفها بالبديهة، وهي المعلومات البديهية التي منحه الله تعالى إياها، "خَلَقَ الإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ"(118)، وقال جلَّ وعلا، "عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ "(119)، فكانت البداية مع آدم(ع) الذي علَّمه جلَّ وعلا الأسماء كلها، "وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ "(120).
منح الله تعالى الإنسان العقل والاختيار، فمن خلال عقله يميِّز الحقَّ والباطل، والخير والشر، والصلاح والفساد، ويختارُ الطريق التي سيسلكها بملء إرادته، "إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً"(121)، وسخَّر الله للإنسان ما في السماوات والأرض، وفق منظومة من القوانين التي يمكن للإنسان أن يفهمها ويتعامل معها ويستفيد منها، ليستثمر ما خلَقَ الله تعالى في هذا الكون، قال تعالى: "وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ"(122)، وقال: "وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ"(123)، ولا يدركُ هذه العظمة إلاَّ من فكَّر وعَقَلَ وأدرك بأن الله تعالى هو الخالق المعطي الرؤوف الرحيم، "أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَنْ تَقَعَ عَلَى الأرْضِ إِلاَ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ"(124).
يمتلك الإنسان قابلية الارتقاء إلى صفات الكمال الإنساني بسلوك طريق الإيمان، وتزكيةِ نفسه لتحقيق الصفاء والسمو، والعملِ لمراكمةِ آثار العبادة والطاعة لله تعالى، فخَلْقُهُ في أحسنَ تقويم ينسجم مع توجيهه نحو الكمال، وهذا ما ركَّزت عليه تعاليم القرآن الكريم، التي وجَّهت الإنسان لما فيه مصلحته، نحو سعادته الدنيوية وراحته الأخروية. إنَّ أوامر القرآن ونواهيه لمصلحة الإنسان وتهذيبه وطمأنته واستقامته، وهي ليست من أجل الله تعالى، وإنما من أجل الإنسان، "يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ"(125). فعندما يأمرنا الله تعالى بأمرٍ فإنَّما يأمُرنا من أجلنا وليس من أجله، وعندما يشرِّع لنا فهو يشرِّع ما يريحنا فهو غنيٌ عن العالمين، وعندما يطلب منَّا فمن أجل أن نعيش الدنيا بأفضل ما يلائمنا، ثم يتكرَّم علينا فيكافؤنا لسلامة اختيارنا، لتغمرنا رحمتُه في الدنيا والآخرة.
نزل القرآن الكريم منهجاً كاملاً وديناً قيِّماً ليرتقي بالإنسان نحو الكمال، فكمال الدين وتمام النعمة بالكتاب والولاية، قال رسول الله(ص): "إنِّي تاركٌ فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يَرِدَا عليَّ الحوض"(126)، إنَّ القرآن الكريم دواءُ الفطرة لمسارها إلى أعلى مراتب الكمال، "فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ"(127)، والإنسان هو المحور الأساس لأصول الدين وتشريعات الحياة في كتاب الهداية: القرآن الكريم.
هذا الإنسان التي توفَّرت له عوامل القوة والعزم والسعادة والسمو محتاجٌ إلى منهجٍ يواكبه ويساعده ويرتقي به، فلو كان المنهج متدنِّياً لما استثمر الإنسان إمكاناته نحو الرقي، حيث يحجزه سقف المنهج المتدني فلا يتجاوزه، وهذا ما حصل لمن اتَّبع المنهج المادي بآفاقه البشرية المحدودة والمتدنية، فوصل إلى الحضيض، وبرزت شهواتُهُ غالبةً على عقله، وحيوانيتُهُ متفوقة على إنسانيته، وآمالُهُ محصورة في الفناء لا في الخلود، وعجزُهُ مسيطر لا ينقذه منه أحد. أمَّا القرآن الكريم فهو يأخذ بيد الإنسان نحو كمالاته في كل الميادين، فطريقُ القرآن: الخُلُقُ العظيم، والعدلُ القَويم، والطريقُ المستقيم، وعبادةُ الله الواحد الأحد، التي تمدُّ الإنسان من عطاءات الخالق العظيم...