لا تخلو العلاقات الاجتماعية والمدرسية والجامعية، وفي مراكز العمل، وبين الجيران، من تواصلٍ ما بين الرجال والنساء. فقد تستلزم مناقشة الخطة التربوية التعليمية، وحالات التلامذة في المدرسة، اجتماعاً مدرسياً للمعلمين والمعلمات في المدرسة، يصاحب ذلك ابداء للرأي بين الجمع. وكذلك على مقاعد الدراسة الجامعية عندما يستلزم الأمر تنسيقاً لنشاط طلابي أو تعاوناً واستفادة من دروس مطبوعة. وفي مركز العمل تداولٌ في المعاملات بين أصحابها من الجنسين مع الموظف أو الموظفة، وما يصاحب صلة الرحم والتزاور بين الأقارب من سلام وكلام بين الطرفين، أو غير ذلك... حيث توجد حالات كثيرة في زماننا، تستلزم تواجداً مشتركاً أو كلاماً أو مناقشة أو توجيهاً أو استفهاماً أو لقاء أو ما شابه...
عندما تكون الزمالة أو الصداقة من هذا النمط الطبيعي بحسب ظروفنا، وفي إطار الضرورة لخصوصية بعض الحالات، فلا مانع منها، طالما أنها تحصل من الموقع الإنساني في العلاقة، وتتقيَّد بالضوابط التي تتجنب الحرام.
هذا مختلف عمَّا لو استفيد من هذه الظروف، وخرجت العلاقة عن حدِّ الضروري أو الطبيعي، فأقيم المزيد من التواصل والتفاعل مع الجنس الآخر، أُنساً بذلك، باحتمال تطور هذه العلاقة بطريقة غير شرعية ومن دون أن يكون الزواج آخر الخط. لا يقبل الإسلام هذا النموذج المغلَّف بعنوان الزمالة أو الصداقة، الذي يثير الغريزة، ويقود الفطرة إلى الطريق الخطأ.
إننا دائماً أمام طريقين لا ثالث لهما بين الجنسين: طريق العلاقة الإنسانية العامة، وطريق يوصل إلى التزاوج، ولا حل وسط بينهما، بحيث لا يمكن تعقُّل الاستلطاف الذي يتأجج بين الطرفين، من دون أن يصل إلى الطريق الشرعي، ثم يدَّعي البعض بأنَّه يبقيه في دائرة العلاقة الإنسانية العامة! ولا يمكن القبول بالتصرفات التي تحصل على أي مستوى من مستويات التفاعل الجسدي، بحجة محدوديتها وعدم خروجها عن العلاقة الإنسانية، فهذا محرَّم في الشريعة الإسلامية، التي تمنع خطوة المصافحة أو النظرة بشهوة أو أي تصرف يطلُّ على مقدمات إثارة الشهوة مهما كان بسيطاً أو محدوداً. كما لا يمكن التبرير بمتطلبات الغريزة التي يتأذى صاحبها لو لم يخطو بعض الخطوات التنفيسية، فالغريزة تفتح على الأكثر ولا تكتفي بالأقل، وإذا لم يملك زمامها وأفلتت منه بالقليل، فكيف يضبطها عندما تستعرُّ وتزداد؟! وقد اعترف الإسلام بحقها فأباح الزواج لتصل إلى كل ما تريده، ولم يقبل بفتح أي منفذٍ يخلط الأمور، ويضيِّع الطريق، ويُحدث الفوضى، ويعطل التشريع، ويحرِم الإنسان تنظيم حياته واسعادها بشكل صحيح.
ما الذي تريده الشابة التي تجلس مع خمسة شباب ؟ تمازحهم، تضحك معهم بصوت عال، تتبادل النكات معهم، تمضي وقتاً على هذا الحال في الجامعة أو عند الجيران في أيام مختلفة! تقول بأنها تتسلى! وماذا بعد؟ ألا ترغب بأن يكونوا معجبين بها؟ ألا تأنس عاطفياً بأحدهم أو ببعضهم؟ كيف ينظرون إليها؟ ما الذي يريدونه أو يريده البعض منها؟ هل هم مهتمون بالتسلية أيضاً! إلى أي مدى ستصل هذه العلاقة؟ ما هي حدودها، وما هي ضوابطها؟ لاحظ معي صعوبة الإجابة عن هذه الأسئلة، ومدى التعقيد في تحديد معالم هذه العلاقة.
شابٌ يجلس مع أربع شابات لساعات وساعات! موضوع الجلسة هو التسلية وإضاعة الوقت، ليس هناك أي شيء يستفيدون منه معاً، لكنَّه الاستئناس الذي يشجع على تمضية هذا الوقت الطويل. يحاول الشاب أن يكون محور اللقاء بنكاته وخبرياته، ويريد لفت الأنظار إلى شخصيته المحبوبة واللائقة والمقبولة، والشابات بالانتظار، بعضهن يحاولن لفت نظره أكثر، ما هي النتيجة؟ هل هي جلسة عابرة؟ وكم سيكون عدد الجلسات العابرة؟ لماذا اختار الشاب أن يكون في هذا اللقاء، ولا يتواجد مع زملائه على الطاولة القريبة؟ إلى أين ستصل هذه العلاقة بينه وبينهن؟ .
لا نتحدث عن اللقاءات الجامعية أو الأسرية أو غيرها التي تحدث بشكل طبيعي غير مفتعل، ولا عن الحوارات والنقاشات التي تدور حول موضوعات مختلفة، ولا عن التداول بشؤون العمل والدراسة عندما يتطلب الأمر ذلك، ولا عن العلاقات الإنسانية التي تجري في سياقها العادي. ولكننا نتحدث عن المقدمات المخطط لها، والتي يصاحبها تصرفات غير شرعية، وهي تهدف التهيئة لهذه الدائرة البرزخية، وتعبِّر عن هوىً في النفس يجاري الرغبة من دون تقييد بحدود المسموح والممنوع.
هل هناك أشخاص فوق الشبهات، يحق لهم كل الممنوع على غيرهم، لأنهم موثوقون؟ لسنا في مجال التصنيف بين موثوق وغير موثوق، فنحن نتحدث عن الطبيعة البشرية
بالإجمال. ولسنا في وارد تحريم أمور على بعضٍ من الناس وتحليلها لآخرين، فالحلال حلال للجميع، والحرام حرام على الجميع، ما داموا يملكون الغرائز والخصائص البشرية نفسها. نحن نتحدث عن فطرةٍ خلق الله تعالى عليها الرجل والمرأة، وهي تعبير عن استعدادات كامنة، تتأثر بحسب توجيهها.
قد يصل بعض الشباب إلى الانحراف بسرعة، وقد يطول الأمر بالبعض الآخر، على الرغم من سلوك الطريق نفسه، فهذا مرتبط بظروفٍ وتعقيداتٍ تتداخل في هذا الشأن. كما قد يصل بعض الشباب إلى الإيمان الأفضل بسرعة، ويحتاج البعض الآخر لوقت أطول، مع وجودهم في بيئة وظروف متشابهة بحسب الظاهر، لكننا لا نعلم واقع كل المؤثرات. إذاً لا علاقة للثقة بالمسموح والممنوع، إنما هي أحكام تضبط حركة الإنسان، وتوجههه إلى صلاحه، وذلك بسدِّ أبواب الفساد والانحراف، وإبعاد كل ما من شأنه إثارة شهوته، بصرف النظر عن تأثيرها في البعض من أول الطريق، وصمود البعض الآخر لفترة من الزمن، وعدم اكتراث البعض الثالث بكل هذه المقدمات.