عندما يناقش البعض سن المراهقة عند الشباب، يعتبرونها مرحلة استثنائية لا ضوابط لها، فالمراهقة تعني - بنظرهم - الغوغائية والعشوائية، وغلبة التصرف بلا تفكير، وثورة الجنس التي لا يمكن ضبطها أو وضع حدود لها، وكثرة التعثر وارتكاب الأخطاء، والتمرد على كل شيء...وهذا من الأخطاء الشائعة أيضاً.
"وقد تكون بعض الآراء أو الدراسات قد بالغت كثيراً في النظر إلى المراهقة باعتبارها فترة اضطراب تؤثر على المراهقين، وعلى أسرهم ومجتمعهم، خلال هذه الفترة، إلاَّ أن المتفق عليه حتى الآن أن هذه المرحلة من النمو تمثل مرحلة صعبة إلى حدٍ ما، وهي مرحلة شدٍّ أو جذب للمراهق، والسبب في ذلك أن المراهق يتعامل مع عدة تغيرات تطرأ عليه: جسمية، وجنسية، ونفسية، ومعرفية. وعليه أن يتوافق مع هذه التغيرات دون أن تتوافر في الغالب الخبرة والمعرفة اللازمتين لعملية التوافق السليم، لذلك نجده يتعثر أحياناً في سلوكه، وفي علاقاته الاجتماعية، وفي مدركاته...ويكون أحوج ما يكون للتوجيه والإرشاد وتقديم النصح والمساعدة"(5).
فمع التوجيه والإرشاد وحسن المواكبة، يمكننا التوصل إلى شخصية المراهق الموزون، الذي تكثر إيجابياته وتقل سلبياته، والذي يتصرف بحكمة، مستفيداً من خبرة الآخرين الذين يثق بهم، ونحن نجد في كل المجتمعات شباباً متهوراً عديم المسؤولية، وشباباً متزناً يتحمل المسؤولية. هل الفرق بين النموذجين إلاَّ ثمرة المتابعة والتربية؟ فالمراهق تكويناً في مرحلة نضج ونموٍ استثنائية وسريعة التغير، لكننا لو أدركنا كيفية التعاطي معها لاستثمرناها في الإطار الإيجابي، واستفدنا من تلك الطاقة الحيوية التي يمتلكها الشاب في الخير والبناء، فالمقومات الموجودة لديه لا تعني الوصول إلى النتيجة السلبية، بل هي إمكانات تعطينا نتائجها بحسب التعامل معها، ككلِّ إمكانيةٍ فطرية موجودة لدى الإنسان.
الحديث عن المراهقة يعني التشابه في الإطار العام، الذي يتجسد بالنمو السريع ومرحلة البلوغ وحصول بعض التغيرات الجسدية والنفسية والعقلية، التي تنقل الولد من الطفولة إلى الشباب والمسؤولية. ولا تعني التشابه التفصيلي بين الأفراد، فقد خلق الله الناس بوجود الفروقات الفردية بينهم، وهذا أصلٌ ثابت في خلق الله للإنسان في هذا الكون. إذ لا إعمار ولا حضارة ولا تقدم للبشرية مع التشابه الكامل بين الأفراد في كل شيء، أمَّا مع التمايز فالبشر يتكاملون مع بعضهم بعضاً، وتتتعزَّز التبادلية بينهم في الحاجات والمصالح، قال تعالى:" أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ "(6).
لاحظ معي هذه الآية الكريمة، فالله تعالى هو الذي يوزع الرحمة على العباد، أي القدرات والإمكانات والأرزاق والنعم، ولا يكون التوزيع متشابهاً بل متفاوتاً،" نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا"، فهذا فقير وذاك غني، هذا قوي وذاك ضعيف...، وإنما جعل الله تعالى هذا التوزيع المتمايز،" وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ"، الذي يؤدي إلى اختلاف القدرات وهي درجات الدنيا، التي لا علاقة لها بالقيمة عند الله تعالى ودرجات الآخرة المرتبطة بالعمل والتقوى، وذلك:
أ- لإرادته في اعمار الكون، " لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً "(7)، فكل واحد مسخرٌ لآخرين يخدمهم ويساعدهم، والآخرون يخدمونه ويساعدونه، في علاقة تبادلية لا يستغني فيها الناس عن بعضهم بعضاً، فالخبَّاز مسخَّرٌ ليطعم الناس الخبز، والطبيب مسخَّرٌ ليعالج المرضى، والمعلم مسخَّرٌ ليعلم الأولاد...
ب- وعدله المتجسد في الحساب على السلوك" إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ"(8). فقد يكون الأتقى في تقييم الآخرة هو الأفقر والأضعف، ويكون الأشقى هو الأغنى والأقدر، إذ أنَّ مقاييس الآخرة مختلفة عن مقاييس ومراتب الدنيا وتصنيفات الناس فيها. فدرجات الدنيا ميزانُ اختلاف القدرات الممنوحة من الله تعالى للاختبار، " وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ "(9)، ودرجات الآخرة تقييمٌ للأعمال التي اجترحها الإنسان باختياره في الدنيا، حيث يرتقي مع الإحسان، ويهوي مع الإساءة. فالعمل هو المقياس، " وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ "(10).