الدنيا معبرٌ للآخرة، قال تعالى: "وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ"(7)، فإذا تبيَّن أن ما تقوم به في الدنيا يهدِّد ما تدَّخره لآخرتك، غيِّر طريقة عملك، وانتبه لسلوكك وأعمالك وأموالك وأولادك, وما أنت مسؤول عنه ومكلَّفٌ به.
يجب أن نسعى إلى يوم البقاء الأبدي, يوم القيامة, الذي تُعلن فيه النتائج: "فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً * وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً * وَيَصْلَى سَعِيراً * إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً * إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ * بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً"(8).
روى العياشي عن الإمام الصادق(ع): "إذا كان يوم القيامة دُفع إلى الإنسان كتابه، ثم قيل له اقرأه. فيعرف ما فيه. انَّه يذكره، فما من لحظةٍ ولا كلمةٍ ولا نقل قدم ولا شيء فعله إلا ذَكَرَه، كأنَّه فعله تلك الساعة، فلذلك قالوا: يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا"(9)، علينا أن نعمل للآخرة، فمصائبنا ومشاكلنا بسبب عدم ذكرها, وعدم الالتفات إليها, وعدم النظر اليها كمستقرٍ نهائي.
ولو أن سربالا من سرابيل أهل النار علق بين السماء والأرض لمات أهل الأرض من ريحه ،
جاء رجل إلى الإمام الصادق(ع) فقال له: يا بن رسول الله خوِّفني فإنَّ قلبي قد قسا. فقال: يا أبا محمد, استعد للحياة الطويلة، فإنَّ جبرائيل(ع) جاء إلى رسول الله (ص) وهو قاطب، وقد كان قبل ذلك يجيءُ وهو مبتسم، فقال رسول الله(ص): يا جبرائيل, جئتني اليوم قاطباً؟ فقال: يا محمد, قد وضعت منافخ النار. فقال(ص): وما منافخ النار يا جبرائيل؟ فقال: يا محمد, إنَّ الله عزَّ وجل أمر بالنار فنفخ عليها ألف عام حتى ابيضَّت، ونفخ عليها ألف عام حتى احمرَّت، ثم نفخ عليها ألف عام حتى اسودَّت, فهي سوداء مظلمة. لو أنَّ قطرةً من الضريع قطرَت في شراب أهل الدنيا لمات أهلُها من نتنها. ولو أنَّ حلقةً واحدةً من السلسلة التي طولها سبعون ذراعاً وضِعتْ على الدنيا لذابت الدنيا من حرِّها. ولو أنَّ سربالاً من سرابيل أهل النار علق بين السماء والأرض لمات أهلُ الأرض من ريحه ووهجه"(10). نعوذ بالله تعالى، من حال الكافرين الذين يتعرضون لنار الجحيم يوم القيامة.
يقول أمير المؤمنين علي(ع): " تَجَهَّزُوا رَحِمَكُمُ اللَّه, فَقَدْ نُودِيَ فِيكُمْ بِالرَّحِيلِ"(11)، ابدأ أيها الإنسان بالتجهيز لآخرتك, لأنك لا تعرف متى يأتيك ملك الموت، وتأتي ساعتك، فكن على الدوام على جهوزية الطاعة والمغفرة والاستقامة، وهذا هو التجهيز الحقيقي.
هذا خيارك: "مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ"(12)، فإذا كنت تريد الآخرة يعطيك الله تعالى في الدنيا والآخرة، وإذا كنت تريد الدنيا يعطيك من الدنيا ما تتوهم أنه كسبٌ لك، وليس لك في الآخرة من شيء.
يدلُّنا أمير المؤمنين علي(ع) على الطريق: "من أكثر من ذِكْرِ الآخرة قلَّتْ معصيته"(13)، تذكر دائماً يوم القيامة عند قيامك بأي عمل، وتذكر أن الله معك يراقبك أينما كنت: "وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ"(14)، وأن أعمالك مدوَّنة عنده، ساعتئذٍ تكون متيقظاً دائماً، زاهداً بالدنيا وراغباً بالآخرة. قال رسول الله(ص): "خيرُ أمتي أزهدهم في الدنيا وأرغبهم في الآخرة"(15).
أن تعمل للآخرة يعني أن يتغير سلوكك ونمطك مع الآخرين بما فيه الخير والعفو والأخلاق والإحسان والصلاح، فلا تغرق في انحرافات الدنيا، ولا تصر على معاصيها، ولا تنجرف في ملذاتها، وانظر إلى المقارنة بين الدنيا والآخرة: "يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ"(16). الاستقرار في الآخرة وليس في هذه الدنيا المؤقتة الفانية.
فلنحرص على أن نكون مع من يربطنا بالآخرة، ويوصلنا اليها, فنسير معه متعاونين في مواجهة إغراءات الشيطان. قال الحواريين لعيسى(ع): "يَا رُوحَ اللَّه مَنْ نُجَالِسُ؟ قَالَ(ع): مَنْ يُذَكِّرُكُمُ اللَّه رُؤْيَتُه, ويَزِيدُ فِي عِلْمِكُمْ مَنْطِقُه, ويُرَغِّبُكُمْ فِي الآخِرَةِ عَمَلُه"(17).
فلنعمل من أجل الأجر الذي تبقى مؤونته، ولا نعمل للذةٍ تذهب سريعاً وتبقى تبعاتها في الآخرة، يقول أمير المؤمنين علي(ع):" شَتَّانَ مَا بَيْنَ عَمَلَيْنِ: عَمَلٍ تَذْهَبُ لَذَّتُه وتَبْقَى تَبِعَتُه, وعَمَلٍ تَذْهَبُ مَؤنَتُه ويَبْقَى أَجْرُه"(18).
تذكَّر أيها المؤمن بأنَّ التأسيس للآخرة هو الفوز العظيم، واستفد من توجيهات أمير المؤمنين(ع)، فقد روى سويد بن غفلة قال: دخلتُ على أمير المؤمنين بعدما بويع بالخلافة, وهو جالسٌ على حصيرٍ صغير, ليس في البيت غيره، فقلتُ: يا أمير المؤمنين, بيدك بيت المال, ولستُ أرى في بيتك شيئاً مما يحتاج إليه البيت؟ فقال(ع): "يا بن غفلة، إنَّ اللبيبَ لا يتأثثُ في دار النَّقلة، ولنا دارُ أمنٍ قد نقلنَا إليها خيرَ متاعنا، وإنَّا عن قليلٍ إليها صائرون"(19).
تذكَّر أيها المؤمن ما قاله أمير المؤمنين علي(ع): "الْيَوْمَ عَمَلٌ ولَا حِسَابَ, وغَداً حِسَابٌ ولَا عَمَلَ"(20). ولا تضيِّع فرصة الدنيا لتهيئة الزاد ليوم القيامة، فعن الامام الصادق(ع): "مَنْ أَصْبَحَ وأَمْسَى والدُّنْيَا أَكْبَرُ هَمِّه, جَعَلَ اللَّه تَعَالَى الْفَقْرَ بَيْنَ عَيْنَيْه, وشَتَّتَ أَمْرَه, ولَمْ يَنَلْ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قَسَمَ اللَّه لَه. ومَنْ أَصْبَحَ وأَمْسَى والآخِرَةُ أَكْبَرُ هَمِّه, جَعَلَ اللَّه الْغِنَى فِي قَلْبِه, وجَمَعَ لَه أَمْرَه"(21).