سأل الرسول(ص) جبريل(ع): "ما تفسير الرضا؟
قال: الراضي لا يسخط على سيده، أصاب من الدنيا أو لم يصب، ولا يرضى لنفسه باليسير من العمل"(2). ليست العبرة مقدار ما أعطى الله العبد، فعلى العبد أن يرضى في كل الحالات، اذ ليس بيده شيء، ولا يستطيع أن يغير القضاء. في الرواية عنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه(ع) قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّه(ص) إِذَا وَرَدَ عَلَيْه أَمْرٌ يَسُرُّه, قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّه عَلَى هَذِه النِّعْمَةِ, وإِذَا وَرَدَ عَلَيْه أَمْرٌ يَغْتَمُّ بِه, قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّه عَلَى كُلِّ حَالٍ" (3).
وعن أمير المؤمنين علي(ع): "نعم قرين الإيمان الرضا"(4)، فنعم الصاحب للإيمان الرضا، الذي يعبر عن درجة عالية من درجات الإيمان.
وعن الإمام الصادق(ع): "الرضا بمكروه القضاء من أعلى درجات اليقين"(5)، فهناك قضاء تستأنس به وآخر لا تستأنس به، فإذا قضى الله تعالى أمراً أعجبك، بأن رُزقتَ ولداً، أو شُفيتَ من مرض، فهو قضاءٌ حسن يجلب السرور. وإذا أصابك مكروه بأن خسرت شيئاً، أو مرضت، أو فشلت في عمل، فسلَّمتَ أمرك لله تعالى, ورضيتَ بهذه الخسارة أو الفقدان مع شدة الامتحان والبلاء، رغم كراهتك للنتيجة، فهذه درجة الرضا واليقين بالله تعالى وهي درجة عالية.
يعاني مريضٌ من اشتراكات للعدة أمراض، فيسألونه عن حاله؟ فيجيب بحمد الله تعالى أن ابتلاه بهذه الحدود وليس أكثر, والحمد لله الذي ساعده على التحمل، والحمد لله الذي اختبره بالمرض لعلَّه يتخلَّص من بعض الذنوب...، تشعر أنك أمام إنسان عظيم، يشكر الله تعالى راضياً ومسلِّماً للقضاء الذي أصابه، إنَّها درجةٌ عالية من اليقين.
قال الإمام الصادق(ع): "إِنَّ أَعْلَمَ النَّاسِ بِاللَّه أَرْضَاهُمْ بِقَضَاءِ اللَّه عَزَّ وجَلَّ"(6). إذا أردت قياس درجة علمك، فانظر إلى القضاء الذي ابتليت به في حياتك، وكيف تصرفتَ حال حدوثه؟ ليس الأعلم من يحفظ الكتب, وينسق الافكار، ولا من يعطي المواعظ للناس، ولا من يحفظ العدد الكبير من الآيات والروايات، بل الأعلم بالله تعالى هو أرضاهم بقضائه، لماذا؟ لأنَّه عندما يصل إلى درجةٍ عالية من الرضا بقضاء الله تعالى، فقد وصل إلى سر العلم، وسر المعرفة الحقيقية، متقبِّلاً لاختبارات الحبيب، راضياً ببلائه، متفاعلاً معه وقريباً منه بذكره الدائم، يعيش اليقين ولا يغضب، ويتقبل المصيبة فلا يشكو إلى أحد، إنَّه من أعظم الناس، لأنه عاش حالة الرضا مع الله تعالى.
والمدخل لهذا كله، هو الثقة بالله تعالى، فعن أمير المؤمنين علي(ع): "أصل الرضا حُسُن الثقة بالله"(7). نتحدَّث كثيراً عن الثقة بالله، والتوكل عليه، والتسليم بقضائه، ثم ينكشف الخلل عند الاختبار, حيث يكون اتكالنا على العباد، وعلى أنفسنا وليس على الله تعالى! يقول الرجل: أنا قمتُ بكل شيء وخسرت، كيف أخسر وأنا متوكل على الله تعالى! وكيف يتركني الله! هذا التصرف لا يُعبِّر عن التوكل على الله تعالى. لديك جار، مستواه العلمي أضعف من مستواك، وجماله أقل من جمالك، وذكاءُ أولاده أقل من ذكاء أولادك، ولكنَّ نعمتَه أوفر من نعمتك، وماله أكثر، تقارن بين مواصفاتك ومواصفاته، فتقول "يعطي الله الحلاوة لمن لا يملك أسناناً"! هذا القول مسيء، وفيه خللٌ إيماني، فمعناه اعتراضك على توزيع عطاءات الله تعالى وتقديره لأرزاق العباد! انتبه، فالله حرٌ في تقديره، وهو عادلٌ في توزيعه وحسابه، وقد ابتلاك واختبرك بالفقر واختبره بالغنى، اختبرك بالذكاء واختبره بالغباء، اختبرك بالأولاد النجباء واختبره بالأولاد غير النجباء، فكن على قدر الابتلاء، واطلب رحمة الله الواسعة لتشملك، "وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ"(8)، واعلم أنَّ ما قدَّره الله تعالى هو الخير والصواب.
الرضا مرتبط بدرجة الإيمان، فكلما كان رضانا عن القضاء الإلهي أعلى كلما كانت درجة إيماننا أكبر، لا يعني هذا أن لا ينزعج الإنسان أو يحزن عند خسارة شيء، ولكن أن لا يؤدي حزنه إلى اليأس من روح الله تعالى، بل يستمر بحمده، ويسلِّم أمره لله رب العالمين. نحن مستخلفون في الأرض، ومؤتمنون على عطاءاته، فكل ما لدينا بمثابة الإعارة المؤقتة، والحياة الدنيا متاع مؤقت وزائل.
الرضا طريقٌ إلى الدرجات العليا، ورسول الله(ص) قدوتنا في هذا المقام، فعن الإمام الصادق(ع): " لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّه(ص) يَقُولُ لِشَيْءٍ قَدْ مَضَى لَوْ كَانَ غَيْرُه"(9)، فكلمة "لو" و "يا ليت" لا تنفع، فالذي ذهب لن يعود، فاستقبل من أمرك ما يأتي, لتنال به الحسنة والرضوان.
فسَّر الإمام الباقر(ع) الآية: "فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً"، بقوله: "التسليم: الرضا، والقنوع بقضائه"(10).